في فلسفة ابن رشد

(وفيها أهم آرائه وتعاليمه، وبيان مذهبه المبني على مذهب أرسطو)

قبل الدخول في فلسفة ابن رشد لبسط مبادئها وقواعدها بسطًا وافيًا كافيًا، نرى من الواجب أن ننشر هنا الخلاصة الوجيزة التي نشرناها في الجامعة عن فلسفته في أثناء ترجمته، وكانت السبب في رد الأستاذ، ومتى فرغنا منها هنا عدنا إلى الإسهاب في كل فقرة منها لإيضاحها إيضاحًا لا يبقى معه مجال للإشكال إن شاء الله. وبذلك نكون قد شرحنا فلسفة الفيلسوف شرحًا مسهبًا. وهذا نص هذه الخلاصة بحسب ترتيبها في الجامعة

الفقرة (١) فلسفة المتكلمين

قبل إيضاح١ فلسفة ابن رشد نأتي على آراء المتكلمين «الذين عارضوها» إذ في هذه المقابلة تمام الفائدة

«إن المتكلمين — أي علماء الكلام — في الدين الإسلامي (وهم الذين يدافعون عن الإسلام بموجب شريعته) قد وضعوا فلسفة خاصة بهم. وربما لم يكن من الصواب أن تدعى تعاليمهم فلسفة؛ لأنها عبارة عن مباحث دينية محضة، ولكن كل ما جرى فيه كلام عن الخالق عز وجل، وعالم الغيب وما وراء الطبيعة؛ فهو فلسفة. ومن المعلوم أن كلمة فلسفة يونانية الأصل وهي مشتقة من كلمتين: (فيلوس) ومعناها (محبة) وسوفيا ومعناها (الحكمة)، فالفلسفة معناها إذن (محبة الحكمة). وهل في عالم الفكر — الذي هو أشرف العوالم شيء — يستحق أن يسمى حكمة غير البحث في أصل الحكمة ومصدرها الأعلى.»

ففلسفة المتكلمين هذه مبنية على أمرين: الأول حدوث المادة في الكون أي وجودها بخلق خالق. والثاني وجود خالق مطلق التصرف في الكون ومنفصل عنه ومدبر له. وبما أن الخالق مطلق التصرف في كونه فلا تسأل إذن عن السبب، إذا حدث في الكون شيء؛ لأن الخالق نفسه هو السبب وليس من سبب سواه. إذن فلا يلزم عن ذلك قطعيًا أن يكون بين حوادث الكون روابط وعلائق، وكان ينتج بعضها عن بعض؛ لأن هذه الحوادث قد تحدث بأمر الخالق وحده. وفي الإمكان أن يكون العالم بصورة غير الصورة المصور بها الآن، وذلك بقدرة هذا الخالق.

الفقرة (٢) رأي ابن رشد في المادة وخلق العالم

أما فلسفة ابن رشد فإنها تناقض الفلسفة التي تقدمت وإليك خلاصة منها

«إن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات. وهو يرى في ذلك رأي أرسطو. فيقول: إن كل فعل يفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن حركة. والحركة تقتضي شيئًا لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق. وهذا الشيء هو في رأيه المادة الأصلية التي صنعت الكائنات منها، ولكن ما هي هذه المادة؟ هل شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف. «بل هي ضرب من الافتراض لا بد منه ولا غنى عنه». وبناءً عليه يكون كل جسم أبديًا بسبب مادته، أي أنه لا يتلاشى أبدًا، لأن مادته لا تتلاشى أبدًا. وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز العمل لا بد له من هذا الانتقال، وإلاَّ حدث فراغ ووقوف في الكون. وعلى ذلك تكون الحركة مستمرة في العالم، ولولا هذه الحركة المستمرة، لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم، بل لما حدث شيء قط. وبناءً عليه، فالمحرك الأول الذي هو مصدر القوة والفعل «أي الخالق سبحانه وتعالى» يكون غير مختار في فعله.»

الفقرة (٣) اتصال الكون بالخالق

هذا فيما يختص بخلق العالم وهو مذهب قريب جدًا من مذاهب الماديين كما ترى، ولكن كيف يستولي المحرك الأول على الكون ويدبره.

لابن رشد في ذلك تمثيل يدل على حقيقة مذهبه في هذه المسألة الخطيرة. فإنه يشبه حكومة الكون أي تدبيره بحكومة المدينة. فإنه كما أن كل شئون المدينة تتفرق وتتجه إلى نقطة واحدة وهي نقطة الحاكم العام فيها فيكون هذا الحاكم مصدرًا لكل شئون الحكومة، ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشئون. كذلك الخالق في الأكوان فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها، وإن لم يكن له دخل مباشرة في كل جزء من هذه القوات. فبناءً على ذلك لا يكون للكون «اتصال» بالخالق مباشرة، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده. وهذا العقل الأول هو عبارة عن المصدر الذي تصدر عنه القوة للكواكب. وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف قرطبة كون حي بل أشرف الأحياء والكائنات. وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر يعتبرها أعضاء أصلية للحياة. والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر. أما العقل الأول الذي منه قوتها وحياتها؛ فهو في قلب هذه الدوائر. ولكل دائرة منها عقل أي قوة تعرف بها طريقها، كما أن للإنسان عقلاً يعرف به طريقه. وهذه العقول الكثيرة المرتبطة بعضها ببعض والتي تلي بعضها بعضًا محكومة بعضها ببعض، إنما هي عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء إلى أرضنا هذه. وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها. وبناءً على ذلك يكون للعقل الأول، الذي هو مصدر كل هذه الحركات علم بكل ما يحدث في العالم.

الفقرة (٤) الاتصال

وإن قيل ما هي علاقة الإنسان بالخالق..؟ فالجواب عن ذلك يأخذه ابن رشد — أيضًا — عن أرسطو من الفصل الثالث من كتابه «النفس». وخلاصة ذلك أن في الكون عقلاً فاعلاً وعقلاً منفعلاً. فالعقل الفاعل هو عقل عام مستقل عن جسم الإنسان وغير قابل للامتزاج بالمادة. وأما العقل المنفعل؛ فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل باقي قوى النفس. وإنما يقع العلم والمعرفة باتحاد هذين العقلين. ذلك أن العقل المنفعل يميل دائمًا للاتحاد بالعقل الفاعل، كما أن القوة تقتضي مادة تنفذ فيها والمادة تقتضي شكلاً توضع به. وأول نتيجة تحل من هذا الاتحاد تدعى العقل المكتسب، ولكن قد تتحد النفس البشرية بالعقل العام اتحادًا أشد من هذا، فيكون هذا الاتحاد عبارة عن امتزاجها جد الامتزاج بالعقل القديم الأزلي. ولا يتم هذا الاتحاد بواسطة العقل الاكتسابي الذي تقدم ذكره، فإنما وظيفة العقل الاكتسابي إيصاله إلى حرم الخالق الأزلي دون أن يدغمه به. وأما إدغامه واتصاله به فذلك أمر لا يتم إلا بطريق «العلم». فالعلم إذن هو سبب «الاتصال» بين الخالق والمخلوق. ولا طريق غير هذا الطريق. ومتى اتصل الإنسان بالله يتصل الإنسان بالله؟ يتصل به بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب، ويخرق بنظره حجب الأسرار التي تكتنف الكون، فإنه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كنه الأمور، وجد نفسه وجهًا لوجه أمام الحقيقة الأبدية.

أما المتصوفة فإنهم يقولون إن «الاتصال» يتم بواسطة الصلاة والتأمل والتجرد، وليس العلم ضروريًا له.

وبناءً على ذلك تكون فلسفة صاحب الترجمة عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم. والكون في رأيه كما مرَّ بك إنما صُنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة بعضها ببعض، وكلها مرتبطة ارتباطًا مبهمًا بقوة عُليا. ومن هذه المبادئ شيء يستولي على العالم، ويضع فيه العقل؛ فهو عقل الإنسانية، وهذا الشيء الذي يسميه عقلاً — أيضًا — هو عقل ثابت لا يتغير أي أنه لا يتقدم ولا يتأخر، لا يزيد ولا ينقص. والناس يشتركون فيه، ويستمدون منه بكميات متباينة. على أن من كان منهم أكثر استمدادًا منه كان أقرب إلى الكمال والسعادة.

الفقرة (٥) الخلود

ولكن هل إن نفس الإنسان خالدة أم لا في هذا المذهب؟ وهل كان ابن رشد يعتقد بحياة ثانية؟

ربما كان لابن رشد جوابان على هذه المسألة الخطيرة التي هي الآن دعامة عظيمة من دعائم الإنسانية. فإنما في أثناء مطالعاتنا لبعض كتبه قبل الإقدام على ترجمته، رأينا له في عدة مواضع كلامًا يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب — أيضًا — فعجبنا كل العجب من تكفير الناس رجلاً يرى هذا الرأي، ولكننا لما وصلنا إلى مذهبه الفلسفي، ورأينا متابعته لأرسطو فيما يختص باعتقاده بالنفس وخلق الكون تغير وجه المسألة. ذلك أن ابن رشد كان يكتب هنالك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده؛ فهو يكتب بقلبه لا بعقله. أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل؛ فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي. ولذلك قلنا إنه ربما كان له في ذلك جوابان:
أما الجواب الأول فيما يختص بالعقاب والثواب؛ فهو قول مشهور، وإنما يزيد عليه ابن رشد وجوب التأويل. وأما جوابه الثاني أي الجواب الفلسفي الذي طلبه بالعقل دون سواه فإليك خلاصته:

قال: «إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره من صفاته أنه مستقل ومنفصل عن المادة، وغير قابل للفناء والملاشاة. والعقل الخاص المنفعل من صفاته الفناء مع جسم الإنسان. وبناءً عليه يكون العقل العام الفاعل خالدًا والعقل المنفعل فانيًا، ولكن ما هو العقل الفاعل العام، الذي هو خالد في رأي ابن رشد؟ إن هذا العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية. فالإنسانية إذن هي خالدة وحدها دون سواها. وبناءً على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية، ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية.»

الفقرة (٦) فلسفته الأدبية

أما الفلسفة الأدبية فلم تشغل سوى حيز صغير في مذهب هذا الفيلسوف بإزاء فلسفته المادية. وقد صرف همه في تلك الفلسفة إلى نقض مذهب «المتكلمين» الذين يقولون: إن الخير في يد الله، وأنه يصنعه بالبشر حينما يشاء وكيفما يشاء، وبقدر ما يشاء من غير علة ولا سبب، بل لأن إرادته تقتضي ذلك. فمن رأي ابن رشد في ذلك أن هذا المبدأ ينقض كل مبادئ العدل والحق؛ لأن ذلك يجعل حكومة العالم فوضى، ربما شقي فيها الحكيم الفاضل وسعد الشرير اللئيم.

أما حرية الإنسان؛ فهو يذهب فيها مذهبًا معتدلاً. فإنه يقول إن الإنسان غير مطلق الحرية تمامًا ولا مقيدها تمامًا. وذلك إذا نُظر إليه من جهة نفسه وباطنه؛ فهو حر مطلق؛ لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نُظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية، كان مقيدًا بها لما لها من التأثير على أعماله.

١  انظر الجامعة السنة ٣ الجزء ٨ الصفحة ٥٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤