شرح الفقرات السابقة

(لإيضاح معانيها وبذلك تنجلي فلسفة ابن رشد انجلاءً تامًا)
ذلك ما نشرناه في الجامعة عن ابن رشد. والآن إليك شرحه

الفقرة (١) فلسفة المتكلمين

كل الفلاسفة والعلماء من حين نشأة الفلسفة والعلم إلى اليوم، تنحصر آراؤهم عن الخالق والخالق في رأيين: الأول؛ «وجود خالق حر مختار في أعماله، يهب متى شاء ويمنع متى شاء. وله عناية إلهية تدبر العالم. وهو سبب قُوى الطبيعة، أي أن هذه القوى موجودة فيه لا فيها. ووجود نفس بشرية جوهرها خالد لا يفنى».

والرأي الثاني؛ «إن المادة أزلية، أي لا بداية لها. ونشأة الكون، إنما هي من تحول دقائق هذه المادة بقوتها الخاصة تحولاً ترتقي به من حالة إلى حالة أسمى. وذلك يقتضي وجود طبيعة ثابتة، ونواميس ووجوب الوجود، وعقل تُبنى عليه النواميس، وفناء الإنسان في الكل الذي أخذ منه مع الاعتقاد بوجود خالق، ولكن اعتقادًا مبهمًا». هذان هما الحزبان اللذان تنازعا ويتنازعان العلم والدين.

ومما لا يحتاج إلى بيان أن أنصار جميع الأديان موجودون في كل مكان حتى الأديان الوثنية نفسها من الحزب الأول، لأن كل صفحة من صفحات كتبهم تدل على تلك المبادئ. كما أنه لا يحتاج إلى بيان — أيضًا — أن فلسفة أرسطو من الحزب الثاني؛ لأن كل صفحة في كتبه تدل عليها. وقد تابعه في ذلك فلاسفة العرب كابن سينا والكندي والفارابي وابن رشد، فكانوا من الحزب الثاني.

فبعد هذا البيان لا نظن أحدًا يلوم الجامعة على وضعها المتكلمين (من المسلمين أو من المسيحيين) في الحزب الأول. ونحن على يقين أن علماء الدين في المذهبين «الإسلامي والمسيحي» لا يرون في ذلك شيئًا يسوءهم، ما داموا يطلبون البقاء على المبادئ الإسلامية والمسيحية التي ربوا فيها. ولكن إذا أريد التوفيق بين هذين المبدأين لجعل مذهب المتكلم واللاهوتي موافقًا لمذهب الفيلسوف، وذلك بواسطة التأويل فإن المسألة تتخذ وجهًا آخر. ذلك أن مريدي التوفيق يضطرون حينئذ إلى إهمال كل ما كان في الكتب المنزلة مخالفًا لمذهبهم والتفتيش بالفتيلة والسراج، كما يقول العامة، على كل ما يوافقه. فحينئذ ينفتح باب واسع هائل. وهذا الباب هو تفسير الكتب والآيات كما يشاء المؤول. ومتى ابتدأ الإنسان بالتأويل، فإنه لا يعلم إلى أين ينتهي. وهذا أبلغ سلاح كان في أيدي مناظري ابن رشد. فإن هذا الفيلسوف كان يوجب التأويل للتوفيق بين الدين والفلسفة، وأما هم فإنهم كانوا يقولون: إن تأويلك هذا يخرج الدين عن شرعه ويبدله بدين آخر لا نعرفه. ومما كان يزيد حجتهم قوة ما قرأوه في كتابات الإمام الغزالي من الرد على تلك الفلسفة اليونانية، التي كان ابن رشد يدافع عنا ويدعو إليها. فكانوا يكرهون التوفيق بين الشريعة الإسلامية وفلسفة مردودة منقوصة لم تثبت صحتها. ولو قاموا اليوم من قبورهم الأبدية وسمعوا ما يكتبه الإفرنج من الاستهزاء بفلسفة أرسطو وتلامذته، لأغرقوا في الضحك وعادوا إلى راحتهم الأبدية بنفوس مستريحة؛ لأنها لم تحارب حقًا ثابتًا.

ففلسفة المتكلمين كما ذكرناها مبنية على قاعدتين: الأولى؛ تنزيه الخالق عن كل قيد. والثانية؛ حفظ الدين من حدوث خرق فيه بواسطة التأويل وتطبيقه على العلم، لاسيما وأن ذلك العلم لم يثبت ثبوتًا لا يقبل الجدال. وحسبنا دليلاً على ذلك ما ذكره العارف الواحد الصمداني الشيخ محيي الدين بن عربي في كتاب له إلى الإمام فخر الدين الرازي قال: «إن كل موجود عند سبب ذلك السبب محدث مثله، فإن له وجهين وجه ينظر به على سببه، ووجه ينظر به إلى موجده وهو الله تعالى. فالناس كلهم ناظرون إلى وجوه أسبابهم والحكماء والفلاسفة كلهم وغيرهم، إلا المحققين من أهل الله تعالى كالأنبياء والأولياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، فإنهم مع معرفتهم بالسبب ناظرون من الوجه الآخر إلى موجدهم. ومنهم من نظر على ربه من وجه سببه لا وجهه، فقال: حدثني قلبي عن ربي. وقال الآخر وهو «الكامل»: حدثني ربي إذ ما كان وجوده مستفادًا من غيره، فإن حكمه عندنا لا شيء، أي أن الأسباب ليست بشيء تذكر؛ لأن وجودها مستفاد من الله. انتهى بحرفه نقلاً عن بهاء الدين العاملي.

فمن ذلك يتضح أن قول المتكلمين١ (في الإسلام والمسيحية) بأن المادة حديثة (أي غير أزلية تعني مخلوقة بخلق خالق) وأن الخالق متصرف في الكون مختار في تصرفه، وأن الأسباب موجودة فيه لا في الطبيعة، وأنه متى حدث حادث فلا يلزم عن حدوثه أن يكون ناشئًا عن حادث سبقه؛ لأن الله يخلق ما يشاء، وأن العالم قد يكون بصورة أخرى غير الصورة المصور بها الآن، إن هذا القول كله إنما قيل لتقديس ذات الخالق وتنزيهه عن كل قيد، وجعله كلي القدرة في الكون. وكل قول يخالف هذا القول يميل بحكم الضرورة إلى المبدأ الآخر والحزب الآخر الذي تقدم ذكره في صدر الكلام ومفاده تقييد الخالق بنواميس ونظام وطبيعة وسنن. ونحن لا نظن أن جميع رجال الدين يقبلون هذا التقييد، لما وراءه من الأمور التي تنزل المعتقد بها في أحدور هائل لا نذكر شيئًا عنه الآن. ولذلك استغربنا أشد استغراب أن يكون بين رجال الدين (مسيحيين أو مسلمين) من يرضى بتقييد الخالق ذلك التقييد، ويحاول إثبات أن المتكلمين لا ينكرون الأسباب، مع أنهم يفتخرون بإنكارها ويرون فيه «الكمال»، كما ورد آنفًا في كلام العارف بالله محيي الدين بن عربي.

وبناءً على ذلك لا يكون كلامنا هناك عن حدوث المادة وحرية الخالق، ووجود الأسباب فيه وحده مقصورًا على رجال الدين الإسلامي، بل هو يشمل جميع رجال الأديان؛ لأنهم كلهم يعتقدون ذلك الاعتقاد — وإن كانوا فيه درجات — وبما أننا سنعود إلى هذا الموضوع في الرد الأول على مقالة الأستاذ الأولى في الباب الثالث؛ فإننا ننتقل منه إلى الفقرة الثانية، ونحن واثقون بأننا شرحنا هذه النقطة في هذه الفقرة شرحًا أزال الإشكال فيها.

الفقرة (٢) المادة وخلق العالم

كل من طالَع شيئًا من كتب ابن رشد الفلسفية أو وقف على ما كتبه الفلاسفة عنه، علم أن فلسفته مبنية على أمرين: الأول؛ اعتقاده بقدم المادة، أي أزليتها. والثاني؛ مسألة العقول ووحدانيتها.

أما الأمر الأول وهو (أزلية المادة) فهو مسألة من أهم المسائل التي شغلت أفكار المفكرين. ولذلك وجه الأمير يوسف إلى ابن رشد أول مقابلته له السؤال الذي نشرناه في الصفحة (١٣) عنها. ومقتضى هذا الاعتقاد أن المادة الأولى التي صُنع الكون منها كانت موجودة بذاتها منذ الأزل أي بدون ابتداء، وإلاَّ وجب أن يقال بأن العالم صُنع من العدم، وهذا قول لا يقبله العلم. ولذلك كان ابن رشد يفترض وجود هذه المادة افتراضًا، إذ ليس في الإمكان إقامة الدليل على وجودها. وقد وقع ابن سينا قبله في هذه المشكلة أي العجز عن إقامة الدليل على وجود المادة قبل خلق الكون، ولكنه تخلص منها بقسمته العالم إلى قسمين: قسم ممكن وقسم واجب. فالقسم الممكن ما كان حدوثه ممكنًا إذا افترض حدوثه، والقسم الواجب ما كان حدوثه واجبًا بنفسه ولا يحول شيء دونه. وقد وضعت مادة الكون في القسم الممكن. ولذلك لما كان ابن رشد يبني فلسفته على أزلية المادة، ويعلل الخلق بها كان المتكلمون الذين يناظرونه يهدمون ذلك البناء بكلمة واحدة، وهي قولهم له أنك تبني على افتراض لا على برهان. ومع ذلك فإن ذلك الافتراض لا بد منه. وقد مر الآن على فلسفة اليونان والعرب عشرات القرون، ولا يزال الفلاسفة والعلماء يعتمدون على هذا الافتراض، حتى في هذا العصر لتعليل خلق الكون؛ لأن هذا الافتراض أقرب إلى العقل من قول القائلين بأن الكون مخلوق من العدم.

وقد كان ابن رشد يحج مناظرته في هذا الموضوع بقوله: «إن ظاهر الآيات الواردة في القرآن عن إيجاد العالم تثبت برأيه. فإن قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ يقتضي بظاهره وجودًا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ يقتضي — أيضًا — بظاهره وجودًا ثانيًا بعد هذا الوجود. وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ يقتضي بظاهره أن السماوات خلقت من شيء. انتهى ملخصًا من كتابه (فصل المقال). وقد قال الكواكبي رحمه الله في كتابه (طبائع الاستبداد) الذي نشر منذ عامين في تأويل بعض آيات القرآن تأويلاً ينطبق على أقوال العلماء المعاصرين في خلق الكون، والاكتشافات العلمية الحديثة قد اكتشفوا أن مادة الكون هي الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ نقول ولعل المرحوم الكواكبي أخذ هذا التطبيق الجميل من ابن رشد نفسه.

بقيَ علينا أن نذكر رأيه في نشأة الكون من تلك المادة الأزلية، وهنا ننقل ما كتبه عن ذلك في الفصل الثاني عشر من كتابه (ما وراء الطبيعة). وقد قال الفيلسوف رنان أن هذا القول أهم الأقوال التي رد بها ابن رشد على مناظريه من المتكلمين في هذا الموضوع. وهذه خلاصته، قال:

في خلق الكون رأيان متناقضان وبينهما عدة آراء. فالرأيان المتناقضان؛ قول بعضهم أن الكون نشأ بالنمو الطبيعي، وقول البعض الآخر أنه خُلق خلقًا أي أُوجد من العدم. أما أنصار النمو الطبيعي فعندهم أن الخلق إنما هو عبارة عن تولد الكائنات، وخروجها بعضها من بعض. والفاعل في ذلك عندهم لا وظيفة له غير تسهيل هذا الخروج والتوليد؛ فهو إذن بمثابة محرك لا غير. وأما أنصار الخلق فعندهم أن الفاعل يوجِد الشيء من لا شيء أي من غير أن يحتاج إلى مادة ولا إلى نمو. وهذا الرأي هو رأي المتكلمين في ديانتنا ورأي النصارَى — أيضًا — خصوصًا يوحنا النصراني (يوحنا فيلو بون) الذي يعتقد بأن قوة الخلق والإيجاد موجودة في الفاعل لا في المادة. بقيت الآراء التي هي بين هذين الرأيين المتناقضين، وهي تنحصر في رأيين — أيضًا — الرأي الأول؛ مفاده أن قوة الإيجاد والخلق موجودة في الفاعل، ولكن لا يمكن خلق الشيء إلا من شيء. فوظيفة الفاعل هنا إيجاد الهيئة أو الصورة التي يجب أن تخلق المادة بها، ولذلك يدعونه «واهب الصورة» — وهذا مذهب ابن سينا. والرأي الثاني؛ مفاده أن الفاعل في الخلق أو الموجِد تارة يكون متصلاً بالمادة، وتارة يكون منفصلاً عنها. فالمتصل بها كالنار التي تولد النار على سبيل الاتصال. والمنفصل عنها كالنبات والحيوان. وهذا مذهب تميثوس وربما كان مذهب أبي نصر الفارابي أيضًا. بقيَ هنالك مذهب ثالث وهو مذهب أرسطو. ومفادُ هذا المذهب أن الفاعل الموجِد يوجد جملة المادة وصورتها معًا، وذلك بتحريكها تحريكًا يسهل لها الخروج من حيز القوة إلى حيز الوجود. وليست وظيفة الفاعل في هذا المذهب سوى مسهل لها ذلك الخروج وعامل على الاتصال بين المادة والصورة. فكل خلق إذن إنما هو عبارة عن حركة سببها الحرارة، وهذه الحرارة متى انتشرت في الماء والتراب تولدت منها الحيوانات والنباتات التي تتولد من غير لقاح٢ والطبيعة تخلق هذا الخلق بهذا الترتيب البديع، كما لو كانت مسوقة إليه بعقل رفيع، مع أنها خالية من هذا العقل. وتلك القوات التي يتم بها الخلق والإيجاد والتي هي ناشئة عن حركة الشمس والكواكب، وتأثيرها في العناصر هي ما كان أفلاطون يسميه «العقول» — ومن رأي أرسطو في هذا المذهب أن الفاعل لا يخلق الصورة خلقًا؛ لأنه لو كان ذلك صحيحًا لصحَّ خلق الشيء من لا شيء. وإنما الذي جعل بعض الفلاسفة يقعون في هذا الخطأ ويسمون الفاعل «واهب الصورة» توهمهم أن الصورة شيء حقيقي لا صورة. وهذا ما جعل علماء الديانات الثلاث الموجودة في هذا الزمان، يعتقدون بأن الشيء قد يُخلق من العدم أي من لا شيء. وبناءً على هذا الاعتقاد قال المتكلمون من مذهبنا (الإسلام) بأن الفاعل يوجد الكائنات بلا واسطة، وبذلك يكون كمن يعمل في وقت واحد عملاً واحدًا جامعًا لعدة أعمال متناقضة متقابلة، ولكن هذا المذهب يقتضي أن كل شيء في الكون مفتقر على مداخلة الخالق، فالنار لا تحرق والماء لا تجري مثلاً، إلا بخلق خاص وهلم جرَّا. وفوق ذلك فإنهم يعتقدون بأن الإنسان متى رمَى حجرًا فإن القوة التي رمَى بها ليست بقوته، ولكنها قوة الفاعل العام أي الله. وهكذا يفنون نشاط الإنسان وقوته.

ولكنَّ (هوذا) مذهب أغرب مما تقدم وهو: كما أن الله يُخرج شيئًا من لا شيء؛ فهو يجعل — أيضًا — الشيء لا شيء. وبناءً على ذلك يكون الإعدام عملاً من أعمال الله كما أن الإيجاد من أعماله. فالموت إذن من أعمال الله. وأما نحن فإننا نعتقد ما يخالف ذلك. نعتقد بأن الإعدام عمل كالإيجاد أي أنه يتبع نظامًا مثله، ذلك أن كل شيء وُجِدَ إنما هو مستعد بطبيعته للفناء. فالفاعل سواء كان ذلك في حالة الإيجاد أو حالة الفناء لا وظيفة له غير تسهيل خروج، وذلك الاستعداد من حيز القوة إلى حيز الفعل. فالعمدة إذن في الحالتين إنما هي على الفاعل وعلى القوة الكامنة في المادة معًا. وينبغي أن لا يُفصل بينهما. وإذا وجد أحدهما ولم يوجد الآخر، فلا يحدث خلق ولا يتم شيء. انتهى مذهب ابن رشد في خلق الكون وهو منقول هنا بمعناه لا بحرفه؛ لأننا لخَّصناه تلخيصًا من الصفحة ١٠٨ فصاعدًا من كتاب رنان في فلسفة صاحب الترجمة وذلك؛ لأن يدنا لم تصل من سوء الحظ إلى النص العربي. فهل يقبل المتكلمون اليوم هذا المذهب.

والذي يتضح مما تقدم أن الخلق إنما هو عبارة عن حركة. وإن كل حركة تستدعي حركة قبلها، وأخرى بعدها ليتم فعل الخلق.

وإن كل ما هو مستعد للوجود يجب أن يخرج من حيز القوة والاستعداد إلى حيز الفعل، وإلاّ صار في الكون شيء من الوقوف والفراغ. وبما أن الحركة هي سبب هذا الخروج فلولاها لم يحدث شيء في العالم. وقد استشهد رنان على صحة كل ذلك (فوق الشذرة التي عربناها) بالفصل الثامن من كتاب ابن رشد في الطبيعيات الشذرة ١٧٦ و١٨٤ و١٥٥ و١٥٧ والفصل الثالث من الشذرة ٤٧ والفصل الرابع منه — أيضًا — الشذرة ٨٢.

الفقرة (٣) اتصال الكون بالخالق

أما رأي ابن رشد في اتصال الكون بالخالق فينطوي تحته أمران: الأول؛ «أن السماء حيوان مطيع لله تعالى بحركته الدورية»، كما قال في كتابه (تهافت التهافت). والثاني؛ «أن الله يعلم أنواع الأشياء في العالم لا مفرداتها». وتحت هذين الأمرين تنطوي مسألة الاختيار التي هي من أهم مسائل الفلسفة.

أما قوله: إن السماء حيوان حي مطيع لله بحركته الدورية؛ فقد تقدم تفسيره في الفقرة الثالثة. ومنه يظهر أن العالم إنما هو عبارة عن أجرام تدور في الفضاء في أفلاك خصوصية وحركات دورية. وبما أن هذه الحركات الدورية لا تنشأ إلا عن نفسٍ تحركها وتديرها، وإلاَّ كانت الحركة أفقية أو عمودية؛ فقد وجب أن يكون هنالك نفس محركة، ولكن ما هي هذه النفس المحركة. هل هي الله نفسه سبحانه وتعالى.؟ كلا.. لأن الله منزه عن الاتصال بالكون. وإنما هذه النفس هي ما يسمونه العقل الأول. فالعقل الأول هو محرك العالم وأول ما خلقه الله في العالم. وقد استشهد ابن رشد على ذلك بما جاء في القرآن، من أن الروح هي أول مخلوقات الله. وقال: إن هذه الروح هي العقل الأول، ومن هذا العقل تفرعت العوالم. وهذا العقل متصل بها يصدر القوة والحركة إليها. فالكون إذن متصل به لا بالله. وإنما المتصل بالله العقل الأول الذي يستمد القوة منه. فالله يقبض عليه وهو يقبض عليها.

وبناءً على ذلك لا يكون لله علم بالجزئيات التي تحدث في العالم، وإنما يكون له علم بكلياته أي إجمال الأشياء وأنواعها لا مفرداتها. بل إن الله يعلم الجزئيات، ولكنه يعلمها «بعلم غير مجانس لعلمنا بها»، كما قال في كتابه (فصل المقال). وذلك؛ لأن «علمنا معلول للمعلوم به؛ فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره وعلم الله بالوجود على مقابل هذا فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود. فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة، وذلك غاية الجهل». انتهى قوله في (فصل المقال). ومفادُ ذلك أن الفيلسوف لا يعتقد في علم الله بالجزئيات ما يعتقده جميع الناس اليوم.

وإذا كان الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بعلم غير مجانس لعلمنا فذلك دليل على أنه لا يدبر العالم مباشرة. فشأنه في ذلك شأن حاكم المدينة، فإنه مصدر النظام فيها، ولكن ليس له مداخلة في كل شأن من شئونها مباشرة. ولو كان الله سبحانه وتعالى يدبر العالم مباشرة أي يدير بنفسه كل حركة من حركاته الجزئية والكلية، فإن الشرَّ في العالم يكون صادرًا عنه (تعالى الله عن ذلك). فأعظم إكرام وتقديس لله تعالى هو إذن اعتبار عنايته بالكائنات من قبيل الناموس الثابت الموضوع لها. ففي هذا الافتراض يكون كل خير في العالم صادرًا عن الله؛ لأنه أراده وسن السُّنن الطبيعية له. وكلُّ شرٍّ في العالم يكون صادرًا عن المادة التي خالفت سننه، أو الإنسان الذي عصاها.

وهذا الفكر الأخير هو لباب فكر أرسطو.

الفقرة (٤) الاتصال

إن موضوع الاتصال أي اتصال الإنسان بالباري مسألة من أهم المسائل التي دارت عليها فلسفة ابن رشد والمتكلمين. وهي تُقسَّم إلى مسألتين: المسألة الأولى؛ اتصال الإنسان بالعقل الفاعل بطريق الفكر. والمسألة الثانية؛ اتصاله به بطريق الحواس.

وإيضاحًا لهاتين المسألتين نذكر رأي موتك ورنان فيهما، هو مستخلص من كتاب ابن رشد (في ما وراء الطبيعة).

قال ابن رشد: في الكون مادة وعقل: «والعقل نوعان نوع فاعل عام ونوع منفعل. فالعقل الفاعل العام جوهر منفصل عن الإنسان، وهو غير قابل للفناء ولا الامتزاج بالمادة. بل هو الشمس الذي تستمد منه كل العقول. والعقل المنفعل هو عقل في الإنسان مستمد من العقل العام الفاعل الذي تقدَّم ذكره. وبما أن العقل المنفعل مستمد من العقل الفاعل؛ فهو ميَّال دائمًا «للاتصال» به والانضمام إليه. ولذلك تنزع نفس الإنسان إلى الباري، ولكن ميل العقل المنفعل (أي الإنسان) على الاتصال بالعقل العام لا يكفي وحده لحدوث هذا الاتصال. فإن العقل المنفعل لا يتصل بذلك العقل العام بمجرد قواه الطبيعية، بل يجب تعليمه طريق هذا الاتصال. نعم إن العقل المنفعل يصل على العقل العام، وهو ما يسمونه العقل المكتسب أو المستفاد، ولولاه لما قدر الإنسان أن يعلم شيئًا، ولكن هذا العقل المكتسب ليس سوى نتيجة ميل العقل المنفعل على العقل العام، ونزوعه إلى الامتزاج به. وإنما الطريق الذي يستطيع به العقل العام ونزوعه إلى الامتزاج به. وإنما الطريق الذي يستطيع به العقل المنفعل الوصول إلى العقل العام والاتحاد به أي معرفته حق معرفته — العلم وحده٣. فبالعلم يقف الإنسان على كل شيء، ويصير عارفًا كالباري بكل شيء. فطريق الاتصال بالله إذن وطريق السعادة في هذه الحياة إنما هو العلم والدَّرس. وما غرض الحياة في هذه الدنيا سوى تغليب الفكر والعقل على الحواس والأهواء والشهوات. ومتى استطاع الإنسان هذا الأمر الصعب؛ فقد أدرك السعادة والجنة في هذه الأرض أيًا كان مذهبه ودينه، ولكن هذه السعادة لا يدركها إلا أعاظم الرجال. وهم يدركونها في الشيخوخة بواسطة رياضة العقل والنفس والاكتفاء بما يسد الحاجة أي ترك الفضلات وعدم الافتقار إلى الضروري. وكثيرون منهم لا يدركونها إلاَّ عند وفاتهم وهم على فراش الموت. ذلك لأن هذا الكمال النفساني مناقض للكمال الجسدي. وقد كان أبو نصر الفارابي ينتظر مجيء هذه الساعة في آخر عمره، وإذا لم تأت قال عنها وهو على فراش الموت أنها حديث خرافة، ولكن ما كل الناس مستعدون لقبولها، ولذلك لا يدركها إلا المختارون.»

هذه هي خلاصة فلسفة ابن رشد في المسألة الأولى من مسألتي الاتصال.

وأما المتصوفة؛ فإنهم يقولون: «إن تلك السعادة إنما تدرك بالصلاة والتأمل والتجرد من الجسد لا بالعلم». وعندهم طرق وشرائط لإفناء الإنسان ذاتيته، توصلاً إلى الفناء بالله وحينئذ يجوز له أن يقول: أنا الله. وقد قال أحد مؤلفيهم ما خلاصته: «لا تذهب لتسأل ابن سينا عن هذا الحب الإلهي؛ فإنه لا يعرف شيئًا من أصول هذا الفن، بل عليك أن تنبذ كل الكتب الفلسفية إذا كان أفلاطون الحقيقي (يعني الله) يدرس في مدرستك». ومما يجب ذكره في هذا المقام أن هذه المبادئ هي في الأصل فارسية وهندية لا إسلامية، وقد ذكرناها هنا لعلاقتها بفلسفة ابن رشد.

أما مسألة الاتصال بالثانية فهي أهم من المسألة الأولى.

ومدار هذه المسألة على هذا الأمر. هل الإنسان يستطيع معرفة العقول والأجرام المفارقة له؛ أي البعيدة عنه في أقاصي الفضاء السماوي٤ وهو ما سماه ابن رشد (اتصال الإنسان بالعقل المفارق)، وقد كتب كتابًا في هذا الموضوع وتحت هذا العنوان. ومن رأيه أن العقل المنفعل أي الإنسان يستطيع ذلك لسببين: الأول؛ أن العقول والأجرام البعيدة لم يوجدها الباري إلاَّ وأوجد عقولاً تدركها وتعرفها، إذْ من المحال أن يخلِق الباري معقولاً دون أن يوجِد عقلاً يعقله. والسبب الثاني؛ أن القول بأن العقل لا يعقِل الأجرام المفارقة له، إنما قول يحط من قدر العقل البشري ويجعله أدنى من الحواس؛ لأن للحواس محسوسات تحس بها، وما كان للحواس يجب أن يكون للعقل؛ لأنه أرقى منها. ومن ذلك يظهر أن غرض الفيلسوف من هذا الرأي صيانة كرامة العقل ورفع تهمة العجز عنه. وهو رأي ينطبق على لباب فلسفته ومؤيد لها. ولعل هذا المذهب قريب مما ذكره برناردين دي سان بيير في كتابه (الكوخ الهندي) عن علاقة الإنسان بالأجرام السماوية البعيدة؛ فقد قال بلسان الرجل الخارجي ما نصه: «وكنت ألبث ساعاتٍ متجهًا نحو المشرق وعيناي تتأملان في النجوم والكواكب العديدة الطالعة منه. ومع أنني كنت أجهل مصير هذه الأجرام ومبدأها؛ فقد كنت أشعر بأنها مرتبطة بالإنسان، وأحس بأن الطبيعة التي خُلقت لنفع البشر بأشياء كثيرة لا تقع تحت نظرهم، يجب أن تكون قد أناطت لهم على الأقل تلك الأشياء التي تحت نظرهم. فكانت نفسي لدى هذه التأملات ترتفع إلى العُلا مع الكواكب والنجوم» (الكوخ الهندي) الصفحة ٦١.

ومهما يكن من القول في مسألتيِّ الاتصال اللتين تقدم ذكرهما، فمما لا ريب فيه أنهما خارجتان عن فلسفة أرسطو لا منها. نعم إن أرسطو وصف في الفصل التاسع من كتابه الأدب السعادة بالعقل في هذه الأرض، ولكنه عاد فقال: «ولكن حياة بالسعادة كهذه الحياة ربما كانت فوق احتمال الإنسانية؛ لأننا لا نجد هذه السعادة بما فينا من البشرية، بل بما فينا من الروح الإلهية» وبذلك راعَى حدود الطبيعة البشرية مراعاة تامة.

هذا فيما يختص بالمسألة الأولى. أما رأي أرسطو في المسألة الثانية (أي اتصال العقل المفارق بالإنسان) فلا يعرف الباحثون منه إلا عبارة واحدة، وهي قول أرسطو بعدما تقدم: «وسنبحث في فرصة أخرى إذا كان العقل البشري يستطيع أن يعقل الأشياء البعيدة عنه مع ما بينهما من المسافة أو لا يستطيع ذلك». هذا كل ما كتبه أرسطو في هذا الموضوع، إذْ لم يعثر الفلاسفة المعاصرون على قول آخر له فيه. فالظاهر أن ابن رشد أراد أن يتولى إنجاز الوعد من أستاذه أرسطو فوضع رأيه الذي بسطناه في هذه المادة. فكان شأن هذه العبارة التي بنَى عليها ابن رشد مذهبه في اتصال الإنسان بالعقل المفارق، شأن العبارة التي بنى عليها فلاسفة العرب مذهبهم في العقول، مما سنفصله في الباب الثالث.

الفقرة (٥) الخلود

وصلنا الآن إلى مسألة المسائل، وأهم المواضيع وهي مسألة الخلود. ويسوؤنا أن كلامنا هناك في هذه المسألة قد حمل على غير محمله. ولعل السبب في ذلك أنه كان مختصرًا فصار بالاختصار غامضًا، ولذلك نشرحه هنا شرحًا يزيل ذلك الغموض.

وقبل الشروع في ذلك نعيد هنا ما ذكرناه في مقدمة تلك الفقرة، وهذا نصه: «إننا في أثناء مطالعتنا لبعض كتبه (ابن رشد) قبل الإقدام على ترجمته، رأينا له في عدة مواضع كلامًا يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب أيضًا. نقول: وقد قلنا ذلك ونحن نفكر في ما ذكره ابن رشيد في كتابه (فصل المقال) فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال وهذا نصه: «ولكن إذا كان التأويل واجبًا (أي تأويل الآيات الدينية) فهو لا يكون في الأصول مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي، بل يكون في الفروع. وإن كان في الأصول فالمتأوِّل له كافر، مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية هاهنا ولا شقاء، وإنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وإنها حيلة وإنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط». نقول: ولا ريب أن نشرنا هذه الشذرة في الصفحة ٥٣٤ من ترجمته في الجزء الثامن يدل على إعطائنا الفيلسوف حقه من نشر ما له وما عليه.

بقيَ علينا الآن بسط فلسفته في مسألة الخلود فنقول: يؤخذ من فلسفة أرسطو التي شرحها الفيلسوف رنان في كتابه ابن رشد (الصفحة ١٢٣) أن أرسطو يوضح في الفصل الثالث من كتابه في «النفس» أن العقل نوعان: نوع فاعل ونوع منفعل، ولكن النوع الفاعل هو النوع الأصلي؛ لأن المنفعل أو المفعول مستمد منه. فالفاعل إذن أرقى من المفعول. والفاعل هو عقل بريء من المادة وغير قابل للامتزاج بها ولا للفناء. وأما العقل المنفعل؛ فهو قابل للفناء. انتهى ملخصنا عن رنان من الصفحة ١٢٣ التي شرح المؤلف فيها فلسفة أرسطو مستشهدًا بألفاظه اليونانية نفسها.

فبعد هذا ينبغي أن نعلم ما هو العقل الفاعل الذي تقدم ذكره، وما هو العقل المنفعل. فنقول: إنه قد ظهر مما تقدم من كلام ابن رشد أنه يريد بالعقل الفاعل ما أراد به أرسطو أي المصدر الذي يستمد منه العالم، القوة والحركة يعني العقل الأول الذي هو مصدرهما. فالعقل الأول البريء من المادة والمفارق للإنسان أبدي خالد لا يفنى. وهذا قول لا خلاف فيه، ولكن ما هو العقل المنفعل؟ هو كما تقدم الكلام عليه الإنسان نفسه أو العقل الذي في الإنسان. فهذا العقل غير خالد خلودًا منفردًا بنفسه، وإن كان خالدًا خلودًا بجوهره.

وبيان هذه المسألة الغامضة التي نرويها من قبيل الرواية لا التقرير، أن العقل الذي استمده الإنسان من واهب العقل لا يعيش بعد الموت مستقلاً وحده، كما يعتقد العامة، بل له حياة أخرى مجهولة. ذلك؛ لأن العقل الفاعل لا يفنى من حيث نوعه؛ لأن جوهره خالد أبدي، وإن كان فانيًا من حيث الإنسان الذي أُودع فيه، ولكن ما هي الحياة التي تكون له بعد الموت؟ أهي فناء في الكل الأبدي الذي أخذ منه فيكون موجودًا أو فانيًا في وقت واحد. أم هي شيء آخر؟ الله أعلم.

ولسنا نزعم أن هذا المذهب هو مذهب ابن رشد وأرسطو حرفيًا؛ فإن أقوال المفسرين متضاربة في هذا الموضوع وكل واحد منهم يفسره كما يشاء. فبعضهم يقول: إن أرسطو قد صرح بأن العقل المنفعل أو المفعول فانٍ، وهو تصريح كافٍ للدلالة على فكره. وبعضهم يقول: بل إن روح فلسفته تدل على خلاف هذا القول. وكذلك قولهم في رأي ابن رشد في هذا الشأن لا يخلو من نظر. فمنهم من يرى أن ابن رشد يكرر مرارًا أن العقل المنفعل غير مفارق للإنسان ولا هو خالد. ولذلك؛ فإنه يعتقد بأنه فانٍ مع المادة. ويستشهدون على ذلك بقوله في بعض المواضع: «إن العناية الإلهية منحت الحي الفاني المقدرة على التوالد لتخليد نوعه، وتعزيته بهذا الخلود النوعي عن الفناء».. (ابن رشد تأليف رنان الصفحة ١٥٣.)

ومعنى هذه العبارة واضح عند بعضهم وغامض عند البعض الآخر. أما الأولون؛ فإنهم يفسرونها بقولهم: إن لابن رشد مذهبًا خاصًا في وحدة العقل في العالم. وبيانه أنه يعتقد أن كل عقل في كل إنسان مصدره واحد، ومأخوذ من نبع واحد، وهو العقل الأول العام الذي تقدم ذكره. فالعقل الذي في كل إنسان إذن هو واحد. وقد كان هذا المذهب من أضعف الجوانب في الفلسفة الرُّشدية، ولذلك سهل على أعدائه نقضه في أوروبا. وقد كان القديس توما يصيح بأنصار ابن رشد: هل تزعمون أن العقل الذي كان في أفلاطون وأرسطو، والعقل الذي في قُطاع الطرق واللصوص هو واحد.

فهذا المذهب يجعل للإنسانية عقلاً واحدًا وهو ما سميناه عقل الإنسانية، وبحسب رأي ابن رشد فيه يكون هذا العقل خالدًا في الأرض دون سواه. أي أن الإنسانية تبقى في الكون متعاقبة قرونًا بعد قرون، وأجيالاً بعد أجيال، إلى ما شاء الله. فهي خالدة بالحياة لا بالموت.

ولكن إذا نُظر إلى تعليم ابن رشد من وجه آخر استطاع الناظر أن يستخرج منه رأيًا آخر. مثال ذلك أن ابن رشد يقول إن الحس والذاكرة والحب والبغض مفارقةٌ لعقل الإنسان بعد الموت، فالنفس التي فيه تتجرد منها، ولكن يبقى لها العقل أي أنها لا تفنى. وهذا القول استخرجه من فلسفة أرسطو الباحثون فيها بحثًا، يقصدون به تطبيقها على الدين كالقديس توما وألبر. ومن ذلك يظهر أن النص في هذه المسائل حكمه حكم لا شيء، وإنما العمدة على التأويل والتفسير والتأويل حياة وروحًا يوافقان مذهبه. وهذا هو السبب في اختلاف الفلاسفة في تفسير فلسفة أرسطو وجميع الكتب الشرائعية العليا، التي يرجع إليها البشر في شئونهم الروحية كالقرآن والإنجيل والتلمود وغيرها.

فمن كل ذلك يظهر أن في فلسفة ابن رشد شيئًا من التناقض. ولعله معذور فيه. وأشد ذلك التناقض ظهورًا إنما كان في قوله: إن سبب ضعف بصر الشيخ ضعف عينه الباصرة لا ضعف قوة البصر فيه. فلو كان للشيخ باصرة الفتى لاستطاع النظر كما ينظر الفتى. ثم يقول: إن الرقاد خير دليل على بقاء النفس؛ فإنه بينما تكون كل آلات النفس في النوم هامدة ساكنة كأنها معطلة تكون النفس مستمرة الفعل في الجسم. ذلك لأن العقل أو النفس غير مرتبطة بشيء من أعضاء الجسم، ولذلك تبقى منفردة مستقلة فاعلة مع سبات تلك الأعضاء. وهكذا يصل الفيلسوف إلى الاعتقاد ببقاء النفس (أي الخلود) اعتقاد العامة به.

نقول: فهذا قول يدل أصرح دلالة على اعتقاد ابن رشد ببقاء النفس لو لم يردفه ببحث آخر فيها ما خلاصته: إن العقل لا يتجزأ على عدد الأفراد، وأنه واحد في سقراط وأفلاطون، وبما أنه لا شخصية له فالشخصية ناشئة عن الحواس. فالإنسان شخص مفرد من حيث الحواس لا من حيث العقل؛ لأن العقل لا يتجزأ، ومن ذلك تنشأ مبادئ مخالفة للمبدأ السابق (راجع ابن رشد تأليف رنان الصفحة ١٥٤ و١٥٥).

هذه هي آراؤه المتناقضة في هذا الموضوع. فلا ريب أنك بعد اطِّلاعكَ عليها تذكر قولنا في الفقرة الخامسة التي فيها الخلاف «رأينا له في عدة مواضع كلامًا يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب — أيضًا — ذلك أن ابن رشد كان يكتب هنالك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده؛ فهو يكتب بقلبه لا بعقله. أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل؛ فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي». نقول: وقد كان في ذلك إشارة إلى تلك المتناقضات.

بقيَ ما جاء في ختام الفقرة وهذا نصه: وبناءً على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية، ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية. وإليك تفسير هذا القول الغامض.

إن المقصود بذلك إن الفيلسوف لا يعتقد بحشر الأجساد اعتقادًا صريحًا. أي أنه لا يعتقد بأن الإنسان يكون في الحياة الأخرى فردًا ناطقًا آكلاً شاربًا متزوجًا كما يقول العامة. بل هو لا يعتقد — أيضًا — بوجوب الثواب والعقاب اعتقادًا صريحًا. وإليك ما قاله في تلخيصه كتاب لأفلاطون، من الأوهام المضرة اعتبار الناس الفضيلة والخير واسطة للوصول إلى السعادة؛ فإن الفضيلة إذا أنزلت في هذه المنزلة لم تعد فضيلة. ذلك أن الإنسان لا يحرم نفسه الملاذ إلا وهو يؤمَّل أن يعوَّض عليه مثلها وزيادة. والشجاع لا يطلب الموت في الحرب إلا فرارًا من شر أعظم من شر الحرب.

والحكيم لا يحترم مال غيره إلا لينال بعد ذلك مضاعِف ذلك المال (راجع رنان الصفحة ١٥٦) وفي موضع آخر يعنف أفلاطون تعنيفًا شديدًا؛ لأنه وصف في أحد كتبه حالة النفوس في الآخرة فقال في تعنيفه: «إن هذه الخرافات لا تفيد شيئًا بل هي تفسد عقول العامة، وخصوصًا الأولاد دون أن تعود عليهم بنفع ما. وإنني أعرف أناسًا ينبذون كل هذه الأوهام، ومع ذلك فإنهم لا ينقصون فضلاً وفضيلة عن الذين يعتقدون بها» (راجع رنان الصفحة ١٥٧).

فمن هذا القول الأخير يظهر أن لابن رشد في هذه المسألة همًا غير هم البحث العلمي. ولا غرابة في ذلك؛ فإن جميع الفلاسفة العقلاء الذين تخيفهم سطوة المبادئ المادية الدنيئة على العالم لخنق ما فيه من الخير بقوة الشراهة والأثرة يهتمون به أشد اهتمام. ولذلك لم يكن يجادل مناظريه في حقيقة هذا الاعتقاد ولكن في صفته. فقد كان يقول إن الاعتقاد بمعاد الأجسام قد نصت عليه الشرائع، فلا يجب أن يتعرض له بقوة مثبت أو مبطل، ولكن يجب أن يقال أن الأجسام التي تعود بعد الموت «لا تعود بالشخص، بل تعود أمثال هذه الأمثال؛ لأن المعدوم لا يعود بالشخص — كما قال أرسطو — في كتابه الكون والفساد. وإنما يعود الوجود لمثل ما عدم لا لعين ما عدم». ومعنى هذا أن النفس تتخذ جسمًا آخر غير جسمها الحالي؛ لأن هذا الجسم يفنى بالتراب ولا يعود من غير أسباب. أما الإمام الغزالي فقد كان يقول: «في خزانة المقدورات عجائب وغرائب لم يُطلع عليها ينكرها من يظن أن لا وجود إلاَّ لما شاهده. ولم يبعد أن يكون في أحياء الأبدان منهاج غير ما شاهده. وقد ورد في بعض الأخبار أنه يغمر الأرض في وقت البعث مطرٌ قطراته تشبه النُّطف ويختلط بالتراب. فأي بُعد في أن يكون في الأسباب الإلهية أمر يشبه ذلك، ويقتضي انبعاث الأجساد واستعدادها لقبول النفوس المحشورة» (راجع تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي).

ربما أننا ذكرنا هنا هذه المسألة، فجدير بنا أن ننقل الفقرة الجميلة التي كتبها ابن رشد في هذا الموضوع؛ فإنها كلها فوائد فرائدَ فرائد وهذا نصها بالحرف الواحد نقلاً عن كتابه تهافت التهافت، الذي رد به على الإمام الغزالي. قال رحمه الله تعالى:

«ولما فرغ (أبو حامد الغزالي) من هذه المسألة أخذ يزعم أن الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، وهذا شيء ما وُجد لواحد ممن تقدم فيه قول. والقول بحشر الأجساد أقل ما له منتشرًا في الشرائع ألف سنة (كذا) والذين تأدَّتْ إلينا عنهم الفلسفة دون هذا العدد من السنين (كذا) وذلك أن أول من قال بحشر الأجساد هم أنبياء بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى عليه السلام، وذلك بيِّنٌ من الزبور ومن كثير من الصحف المنسوبة لبني إسرائيل. وثبت — أيضًا — ذلك في الإنجيل، وتواتر القول به عن عيسى عليه السلام وهو قول الصابئة. وهذه الشريعة (الصابئة) قال أبو محمد بن حزم أنها أقدم الشرائع. بل القوم يظهر من أمرهم أنهم أشد الناس تعظيمًا لها (أي شريعة بعث الأجساد) وإيمانًا بها، والسبب في ذلك أنهم يرون أنها تنحو نحو تدبير الناس الذي به وجود الإنسان بما هو إنسان، وبلوغه سعادته الخاصة به، وذلك أنها ضرورية في وجود الفضائل الخلقية للإنسان والفضائل النظرية والصنائع العملية. وذلك أنهم يرون أن الإنسان لا حياة له في هذه الدار إلا بالصنائع العملية، ولا حياة له في هذه الدار ولا في الدار الآخرة إلا بالفضائل النظرية. وإنه ولا واحد من هذين يتم ولا يبلغ إليه إلا بالفضائل الخلقية. وإن الفضائل الخلقية لا تُمكَّن إلا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة لها في ملةٍ ملة مثل القرابين والصلوات والأدعية، وما يشبه ذلك من الأقاويل التي تقال في الثناء على الله تعالى وعلى الملائكة والنبيين. ويرون بالجملة أن الشرائع هي الصنائع الضرورية المدنية التي تؤخذ مباديها من العقل والشرع، ولاسيما ما كان منها عامًا لجميع الشرائع وإن اختلقت في ذلك بالأقل والأكثر. ويرون مع هذا أنه ينبغي أن يتعرض بقول مثبت أو مبطل في مباديها العامة مثل هل يجب أن يعبد الله أو لا يعبد. وأكثر من ذلك هل هو موجود أم ليس بموجود. وكذلك يرون في سائر مباديه مثل القول في السعادة الأخيرة وفي كيفيتها؛ لأن الشرائع كلها اتفقت على وجود أخروي بعد الموت وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود، كما اتفقت على معرفة وجوده وصفاته وأفعاله وإن اختلفت فيما تقوله في ذات المبدأ وأفعاله بالأقل والأكثر. ولذلك هي متفقة في الأفعال التي توصل إلى السعادة التي في الدار الآخرة وإن اختلفت في تقدير هذه الأفعال. فهي بالجملة لما كانت تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع كانت واجبة عندهم؛ لأن الفلسفة إنما تنحو نحو تعريف السعادة لبعض الناس العقلاء وهو من شأنه أن يتعلم الحكمة. والشرائع تقصد تعليم الجمهور عامة، ومع هذا فلا نجد شريعة من الشرائع إلا وقد نبَّهت بما يخص الحكماء، وعنيت بما يشترك فيه الجمهور. ولما كان الصنف الخاص من الناس إنما يتم وجوده وتحصيل سعادته بمشاركة الصنف العام، كان التعليم العام ضروريًا في وجود الصنف الخاص وفي حياته. أما في وقت صباه ومَنشئه فلا يشُكُّ أحد في ذلك، وأما عند نقلته إلى ما يخص فمن ضرورته ألا يستهين بما يشاغله، وأن يتأوَّل لذلك أحسن تأويل، وأن يعلم أن المقصود بذلك التعليم هو ما يعلم لا ما يخص وإنه إن صرح بشكٍ في المبادئ الشرعية التي نشأ عليها أو بتأويل أنه مناقض للأنبياء صلوات الله عليهم وصارف عن سبيلهم؛ فإنه أحق الناس بأن ينطق عليه اسم الكفر، وتوجب له في الملة التي نشأ عليها عقوبة الكفر. ويجب عليه مع ذلك أن يختار أفضلها في زمانه، وإن كانت كلها عنده حقًا وإن يعتقد أن الأفضل ينسخ بما هو أفضل منه. ولذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون الناس بالإسكندرية لما وصلتهم شريعة الإسلام وتنصر الحكماء الذين كانوا ببلاد الروم لما وصلتهم شريعة عيسى عليه السلام. ولا يشك أحد أنه كان في بني إسرائيل حكماء كثيرون، وذلك ظاهر من الكتب التي تلقى عند بني إسرائيل المنسوبة إلى سليمان عليه السلام. ولم تزل الحكمة أمرًا موجودًا في أهل الوحي وهم الأنبياء، ولذلك أصدق كل قضية هي أن كل نبي حكيم وليس كل حكيم نبيًا، ولكنهم العلماء الذين قيل فيهم أنهم ورثة الأنبياء. وإذا كانت الصنائع البرهانية في مباديها للصادرات والأصول الموضوعة فبالحَرِيِّ يجب أن يكون ذلك في الشرائع المأخوذة من الوحي والعقل. وكل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها. ومن سلم أنه يمكن أن يكون هاهنا شريعة بالعقل فقط؛ فإنه يلزم أن يكون ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحي. والجميع متفقون على أن مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدًا إذ كان لا سبيل إلى البرهان على وجوب العمل إلا بوجود الفضائل الحاصلة عن الأعمال الخلقية والعملية. فقد تبين من هذا القول أن الحكماء بأجمعهم يرون في الشرائع هذا الرأي، أعني أن يتقلد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسُّنن المشروعة في ملةٍ ملة. والممدوح عندهم من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها مثل كون الصلوات عندنا، فإنه لا يشك في أن الصلاة تنهَى عن الفحشاء والمنكر كما قال الله تعالى، وأن الصلاة الموضوعة في هذه الشريعة يوجد فيها هذا الفعل أتم منه في سائر الصلوات الموضوعة في سائر الشرائع، وذلك بما شرط في عددها وأوقاتها وأذكارها وسائر ما شرط فيها من الطهارة ومن المتروك أعني ترك الأفعال والأقوال المفسدة لها. وكذلك الأمر فيما قيل في المعاد فيها هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها. ولذلك كان تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية كما قال الله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهَارُ وقال النبي عليه السلام: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر). وقال ابن عباس (رضى الله عنه): ليس في الدنيا من الآخرة إلا الأسماء. فدل على أن ذلك الوجود نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود، وطور آخر أفضل من هذا الطور. وليس ينبغي أن ينكر ذلك من يعتقد أنا ندرك الموجود الواحد ينتقل من طور إلى طور مثل انتقال الصور الجمادية إلى أن تصير مدركة ذواتها وهي الصور العقلية. والذين شكُّوا في هذه الأشياء وتعرضوا وأفصحوا به، إنما هم الذين يقصدون إبطال الشرائع وإبطال الفضائل، وهم الزنادقة الذين يرون أن لا غاية للإنسان إلا التمتع باللذات، هذا مما لا يشك أحد فيه. ومن قدر عليه من هؤلاء فلا يشك أن أصحاب الشرائع والحكماء بأجمعهم يقتلونه. ومن لم يقدر عليه؛ فإن أتم الأقاويل التي يحتج بها عليه وهي الدلائل التي تضمنها الكتاب العزيز، وما قاله هذا الرجل (يعني الغزالي) في معاندتهم هو جيد. ولا بد في معاندتهم أن توضع النفس غير ثابتة، كما دلَّت عليه الدلائل العقلية والشرعية، وإن توضح أن التي تعود هي أمثال هذه الأمثال التي كانت في هذه الدار لا هي بعينها؛ لأن المعدوم لا يعود بالشخص، وإنما يعود الوجود لمثل ما عُدم لا لعين ما عُدم كما بين أبو حامد. ولذلك لا يصح القول بالإعادة على مذهب من اعتقد من المتكلمين أن النفس عرض، وأن الأجسام التي تعاد هي التي تُعدم. وذلك أن ما عُدم ثم وُجد فإنه واحد بالنوع لا واحد بالعدد، بل اثنان بالعدد، وبخاصة من يقول منهم أن الأعراض لا تبقَى زمانين». انتهى كلام ابن رشد في خاتمة كتابه (تهافت التهافت).

والجدير بالانتباه مما تقدم ثلاثة أمور:
  • الأمر الأول: اكتفاء الفيلسوف بالوحي في تلك المسألة ورغبته في عدم عرضها على العقل مع تأويل صفتها تأويلاً ينطبق على العقل. وهذه هي طريقته في كل المسائل التي كان يحتك بها الدين بالعلم أو العلم بالدين.
  • والأمر الثاني: تسامح ابن رشد وتساهله بشأن باقي الأديان. فإن قوله: إن الحكيم لا يتعرض للشرائع بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة، وإن الشرائع كلها نبهت بما يجب تنبيه الخاصة والعامة إليه، وأنه لا يجوز الاستهانة بها والتصريح بشك في مباديها، بل يجب تأويلها أحسن تأويل؛ لأنها كلها حق، وإن الفضائل الخلقية لا تُمكَّن إلا بالعبادات المشروعة للبشر في ملةٍ ملة (أي في كل الملل) مثل القرابين والصلوات وما يشبه ذلك، وإن الحكماء يوجبون على الناس تقليد الأنبياء والواضعين «في كل ملة» لأن المبادئ التي وضعوها لا يقصد بها إلا حث الجمهور على الأعمال الفاضلة. هذه الأقوال ستبقى في كتاب (تهافت التهافت) دليلاً على شرف نفس المؤلف ونزاهته التامة وكماله الأدبي الذي لا تزحزحه أهواء الخاصة والعامة. وكأنه رحمه الله قد رسم بهذين القولين طريق الألفة الحقيقية في الشرق ودائرة الإخاء الممكنة. كأنه قال بهما: إن جميع الأديان صحيحة في حد ذاتها إذا عمل الناس بفضائلها؛ لأنها كلها لا غرض لها سوى الترغيب في الفضائل لإبلاغ الإنسان السعادة في الدارين. كأنه قال: إن الذي يطعن في أحد الأديان ليثني على دين آخر سواء كان ذلك بحق أو من غير حق يكون كمن يطعن على جميع المبادئ الدينية العامة المشتركة بين جميع الملل، وبذلك يخرج عن دائرة الفضيلة الدينية والمبادئ الأدبية. فنحن ننحني هنا باحترام أمام أبي الوليد لشكره على هذا القول الذي أظهر به نزاهته. ونهديه هذا الشكر باسم النبت الجديد في الشرق، أي الناشئة الجديدة المجتمعة على مبادئ الإخاء والإنسانية.
  • بقيَ الأمر الثالث: وهو اهتمامه بأمر الزنادقة الذين يقصدون «إبطال الشرائع وإبطال الفضائل» وإيجاب قتلهم على كل من يقدر عليهم.

فنقول في هذا بكل حرية أننا كنا ننتظر من أبي الوليد تساهلاً أكثر من هذا التساهل، لأن القتل في شريعة الإنسانية الحقيقية محرم أيًا كان سببه، ولكن لا يجب أن ننسى أن أبا الوليد رحمه الله إنما كان في هذا الكتاب (تهافت التهافت) يردُّ على الإمام الغزالي. ولذلك كان فيه أقل جرأة مما كان في غيره. فلا غرابة بعد هذا أن يقصد تقوية حجته بشيء من التطرف والشدة.

ومع ذلك فربما كان لأبي الوليد في هذه المسألة حجة أخرى. وهي رغبته في أن يتنصل من كل شبهة كانت تقع على المشتغلين بالفلسفة في تلك الأزمان، بسبب بعض من أصحاب العقول الجافة الذين يرون في الفلسفة ذرية إلى الانطلاق من كل قيد.

وتأييدًا لهذا القول ننقل ما رواه رنان في الصفحة ١٧١ من كتابه (ابن رشد) وهذا نصُّه بحرفه: «كان خصوم الفلسفة يقولون إن هذه الصناعة تؤدي إلى الاعتقاد بقدم العالم ووجوب وجوده وإنكار البعث والحساب، والمعيشة بلا قيد ولا شريعة جريًا مع الشهوات. (قال الغزالي): ومما لا بد من التصريح به أن العلم الطبيعي أدى أحيانًا ببعض العلماء المسلمين إلى شيء من المادية. فإن طائفة «الحشَّاشين» الذين كان الخلفاء والأمراء يرتجلون منهم في قصورهم، إنما كانوا فلاسفة يقطعون أوقاتهم بتأليف كتب في الفلسفة. ولما دخل جيش المغول إلى قصرهم في علموت ذلك القصر الذي كان بمثابة عشٍّ للعُقبان، وجدوا فيه مدرسة علمية كاملة ومكتبة واسعة وغرفة لدرس العلم الطبيعي بالتجربة والامتحان، ومرصدًا للفلك آلاته في غاية الإتقان. وفضلاً عن ذلك؛ فإن الفلاسفة عند العرب كانوا على وجه الإجمال قليلي الاهتمام بالعبادات. فإن (ابن سينا) كان يشرب الخمر ويحب الغناء ويعكف على الملاذ ويفعل أفعال الجاهلية. وكثيرًا ما كان يصرف الليالي مع تلامذته في هذه الأمور. ولما قيل له مرة أن الخمر محرمة أجاب: «قد حرمت الخمر لأنها تثير الخصام والعداء بين الشاربين. وبما أنني معصوم من ذلك بحكمتي؛ فإنني أتناولها لتنبيه فكري وحث خاطري» (رواه الغزالي). وبذلك كان فلاسفة العرب معتبَرين بين أبناء وطنهم بمنزلة «الفجار» في القرن السابع عشر عندنا؛ لأنه يصعب التصديق بأن رجالاً واسعي النظر كأولئك الرجال لم يعلموا من قواعد الدين الرمزية فوق ما كان العامة يعلمونه. وقد قال الغزالي: «وقد نجد أحدهم (أي أحد الفلاسفة) يقرأ القرآن ويحضر الحفلات الدينية والصلوات ويثني على الدين من شفتيه، إذا سُئل إذا كنت لا تعتقد بالنبوءات فلماذا تصلي.؟ فإنه يجيب: لأن الصلاة عادة ووسيلة لإنقاذ حياتي من الموت. وهكذا لا يكف عن شرب الخمر وإتيان كل ضروب الشناعات والكفر». انتهى نقلاً عن رنان.

نقول: فإذا كان أبو الوليد قد عني بالزنادقة هؤلاء الذين لا يحترمون الفضائل الدينية وينصِّبون أنفسهم مثالاً رديئًا للناس وغرضهم إبطال الشرائع والفضائل كما كان غرض «الحشاشين» الذين كانوا بمنزلة الطوائف الفوضوية في هذا الزمان؛ فإن له شيئًا من العذر في ما قاله. ولا ريب أنه يكون قد قال ما قاله من صميم قلبه لأن أفعالاً كهذه الأفعال تهدم ما تبنيه الفلسفة، وتسد السبيل في وجهها، إذ تنفر العقول منها، ولكن إذا كان أبو الوليد أطلق اسم «الزنادقة» على الباحثين بالعقل والمتطرفين في هذا البحث أكثر منه دون أن ينشأ عنهم ضرر بالفضائل فليس له عذر غير عذر الاتقاء والاحتماء.

والحاصل من كل ما تقدم في هذا الموضوع أن الباحث في فلسفة ابن رشد بحثًا عميقًا دقيقًا يستخرج منها في هذه المسألة نتيجتين متناقضتين — كما تقدم — واحدة سلبية وواحدة إيجابية. وفي هذا القدر كفاية.

ولكن قبل ختام هذا الفصل لا نرى بُدًا من نشر حكاية صغيرة مختصة بهذا الموضوع، وقد رواها جمال الدين في كتابه (تاريخ الفلاسفة) وعنه نقلها أبو الفرج. ومنها يظهر رأي أحد تلامذة ابن رشد في الموضوع الذي نحن في صدده. وهذا التلميذ هو يوسف بن يهوذا الطبيب الإسرائيلي الذي كان تلميذًا لابن رشد وموسى ميمون الفيلسوف المشهور. وقد تقدم أنَّ ميمون هذا هو أكبر دعاة فلسفة ابن رشد بعد وفاته. وقد كتب إليه تلميذه ابن يهوذا المذكور كتابًا يدل على ما كان لابن رشد من الشهرة لدى يهود أسبانيا حتى في حياته. وهذه هي خلاصة هذا الكتاب: «لقد أعجبتني أمس ابنتك «الثريا» الجميلة فخطبتها مخلصًا بحسب الشريعة المعطاة لنا على جبل سيناء. ثم تزوجتها بثلاثة طرق: الأول إنني أمهرتها ذهب الصداقة. والثاني أنني كتبت لها ميثاق حب؛ لأنني مولع بها. والثالث بضمها إلى صدري كما يضم الفتى الفتاة العذراء. ثم أنني بعد الحصول عليها بهذه الأمور الثلاثة دعوتها إلى فراش الزواج والحب، ولم أستعمل لذلك لا اللطف ولا العنف. فمنحتني حبها؛ لأنني كنت قد منحتها حبي ومزجت نفسي بنفسها. وقد حدث ذلك كله أمام شاهدين مشهورين وهما الصديقان ابن عبيد الله (أي موسى ميمون) وابن رشد، ولكن هذه الزوجة لم تستقر في فراش الزواج تحت سلطتي حتى أخذت تشرد مني وتطلب عُشاقًا غيري».

انتهى كتاب ابن يهوذا. وهو يعني بهذه الفتاة «الفلسفة» التي تلقنها من أستاذيه ابن رشد وموسى المذكور. والظاهر أنه لم يبرع فيها، ولم يكن على اتفاق معها حتى قال أنها أخذت تشرد منه.

فابن يهوذا هذا روى عنه جمال الدين مؤلف كتاب (تاريخ الفلسفة) ما يلي. قال: «كنت صديقًا حميمًا لابن يهوذا. ففي ذات يوم قلت له إذا كان حقًا أن النفس تحيا بعد مفارقة الجسد وتبقَى قادرة على معرفة الأشياء الخارجية؛ فعدني وعدًا صادقًا أنك إذا توفيت قبلي تأتي وتخبرني بما هنالك، لأعدك بأنني إذا مت قبلك أفعل — أيضًا — ذلك. فأجابني إلى هذا السؤال وتواعدنا على هذا الأمر. ثم إنه توفِّيَ ومرت بضع سنوات دون أن يظهر لي، ولكنني في ذات ليلة رأيته في الحلم فقلت له: أيها الطبيب. أما وعدتني بأن تأتي بعد الموت وتطلعني على ما جرى لك. فضحك وأدار عني وجهه. فقبضت عليه حينئذ من يده وقلت له: «لا أتركك حتى تخبرني كيف يكون الإنسان بعد الموت». فأجابني: إن العام عاد إلى العام والخاص دخل في الخاص. ففهمت حينئذ كلامه الذي معناه أن النفس التي هي جوهر عام قد عادت إلى الجوهر العام. والجسد الذي هو عنصر خاص قد عاد إلى الأرض مستقر العنصر الخاص. ثم انتبهت وأنا أعجب برشاقة جوابه.

الفقرة (٦) فلسفته الأدبية

مما هو جدير بالذكر أن العرب لم يهتموا بمؤلفات اليونان الأدبية اهتمامهم بمؤلفاتهم الفلسفية والمنطقية والطبيعية. ولعل السبب في ذلك أن مؤلفاتهم الأدبية كانت مخصوصة بهم. مثال ذلك الإلياذة والأوديسة وخطب ذيموستينوس وغيرها. فإن هذه الكتب الأدبية البديعة لا ذكر فيها إلا للمسائل اليونانية الخصوصية التي قلما يهتم بها باقي الناس سوى طلاب البلاغة، ولكن العرب الذين نبغ في لغتهم من عرفنا من الشعراء والخطباء في الجاهلية وبعدها معذورون إذا لم يقتدوا بالإفرنج في طلب البلاغة من المؤلفات اليونانية.

ومع ذلك؛ فإننا نأسف أسفًا شديدًا لهذا النقص، لأنه لو أقبل العرب يومئذ على مؤلفات اليونان الأدبية إقبالهم على غيرها من مؤلفاتهم، لأضافوا خزائن البلاغة اليونانية إلى خزائن البلاغة العربية.

وقد تقدم في الفقرة السادسة أن فلسفة ابن رشد الأدبية لم تشغل سوى حيز صغير بإزاء فلسفته الطبيعية. وقد كان الخلاف بينه وبين المتكلمين في الفلسفة الأدبية شبيهًا بالخلاف بينه وبينهم في فلسفته الطبيعية. وسيرِد معنا في الباب الثالث عند الكلام على مسألة «الأسباب» أن هذه المسألة هي النقطة التي تدور عليها كل المسائل الفلسفية والدينية بين ابن رشد ومناظريه. فإن مناظري ابن رشد من المتكلمين كانوا يقولون إن الله يصنع الخير؛ لأنه يشاء صنعه. وهو يشاء صنعه لا لسبب داخلي لازم وسابق لإرادته؛ بل عبارة عن إرادة مطلقة غير مقيدة بسنن ونواميس. ولذلك قال لهم ابن رشد في شرحه كتاب أفلاطون في الجمهورية أن مذهبًا كمذهبهم ينقض كل مبادئ العدل والحق، ويهدم كل قواعد الدين التي يقولون إنهم يدافعون عنها. وأما حرية الإنسان؛ فهو يقول فيها ما خلاصته: «إن الإنسان غير مطلق الحرية تمامًا ولا مقيِّدُها تمامًا، وذلك أنه إذا نظر إليه من جهة نفسه وباطنه؛ فهو حر مطلق؛ لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية كان مقيدًا بها لما لها من التأثير على أعماله». وهو يقول: إن هذا هو السر في أن القرآن يجعل الإنسان تارة مختارًا وتارة مقيدًا. وهذا المذهب وسطٌ بين الجبرية والقدرية. وقد شرحه أبو الوليد في كتاب له في إظهار طرق العقائد الدينية. وقال في كتابه في الطبيعيات إنه كما أن المادة الأولى التي صنع العالم منها كانت قابلة لكل الانفعالات التي تحدث فيها بصور مختلفة متقابلة، كذلك نفس الإنسان قابلة لهذه الانفعالات المتقابلة المختلفة، ولها المقدرة على اختيار بعضها دون بعض.

رأيه في السياسة وفي النساء — أما فلسفة ابن رشد السياسية فهي مبنية على فلسفة أفلاطون وقد بسطها في شرحه «جمهورية» هذا الفيلسوف. وخلاصتها أنه يجب إلقاء زمام الأحكام إلى الشيوخ والفلاسفة ليديروها بقسط وعدل. ويجب حث الناس على الفضائل بتعليمهم البيان والعلوم التي تثقف العقل. أما الشِّعر وخصوصًا الشعر العربي؛ فإنه مضرٌ. ولعله رأى أن الشعر العربي مضرٌ لما يكون فيه أحيانًا من الغزل الذي يجُر إلى التهتك ورغبته في إفناء روح الجاهلية. ومما يقال في هذا المقام أن أبا الوليد كان لا يكره الشعر العربي في حد ذاته، لأنه كان يحفظ شعر حبيب والمتنبي ويكثر التمثيل بهما في مجلسه ويورد ذلك أحسن إيراد «كما قال ابن العبَّار، ولكن طبيعته لم تكن شعرية. أي أن العقل كان فيه أقوى من القلب، ولذلك كان تحمسه نادرًا خلافًا للإمام الغزالي. وهذا أمر ظاهر في كتاباته كل الظهور؛ فإنك تراها ثابتة ثقيلة الخطى كأن ألفاظها جبال تتدحرج بعضها وراء بعض بلا وثبة ولا حركة شديدة خلافًا لكتابات الغزالي التي يُخيل لك أنها مكتوبة بقلم من نار، ولكنك في مقابل ذلك تجد في كتابات أبي الوليد ذلك العقل الرزين المقنع الثابت الجأش الذي يلبث في تلك الجبال المتدحرجة روحًا حية تتضوع منها ريح النزاهة والاعتدال.

قال رنان: ويؤخذ من رأي ابن رشد في المملكة أن استغناءها عن القضاة والأطباء كان عنده خير دليل على انتظام شئونها، أما الجيش فلا وظيفة له غير حماية الشعب وحفظه. ولذلك فقد كان يكره الاستبداد العسكري والإقطاعات العسكرية.

أما رأيه في النساء؛ فهو منطبق كل الانطباق على رأي جناب قاسم بك أمين مؤلف كتاب (تحرير المرأة والمرأة الجديدة)؛ فإنه يرى أن الاختلاف الذي بين النساء والرجال إنما هو اختلاف في الكم لا في الطبع. أي أن النساء طبيعتهن شبيهة بطبيعة الرجال، ولكنهن أضعف منهم في الأعمال. والدليل على ذلك مقدرتهن على جميع أعمال الرجال كالحرب والفلسفة وغيرهما، ولكنهن أضعف من الرجال فيها. على أنهن قد يفُقن الرجال في بعض الأمور كفن الموسيقى مثلاً، ولذلك كان الفيلسوف يرى أن كمال هذا الفن في أن يكون الواضع أو المؤلف رجلاً والموقع أو المنشد امرأة. وقد دلت حالة بعض البلاد في المغرب (أفريقيا) على أن النساء قادرات كل القدرة على الحرب ولذلك لا خوف على المملكة من قبضهن على أزِمَّة الأحكام فيها.٥

وقد كان ابن رشد يستشهد على صحة قوله هذا بإناث الكلاب التي تحرس الغنم حراسة شديدة. كحراسة الذكور. وهو يقول في هذه المسألة الخطيرة ما خلاصته: «إن معيشتنا الاجتماعية الحاضرة لا تدعنا ننظر ما في النساء من القوى الكامنة. فهي عندنا كأنها لم تخلق إلا للولادة وإرضاع الأطفال، ولذلك تنفي هذه العبودية كل ما فيها من القوة على الأعمال العظيمة. وهذا هو السبب في عدم وجود نساء رفيعات الشأن عندنا. وفضلاً عن ذلك؛ فإن حياتهن أشبه بحياة النبات وهن عالة على رجالهن، ولذلك كان الفقر عظيمًا في مدننا؛ لأن عدد النساء فيها مضاعف عدد الرجال وهن عاجزات عن كسب رزقهن الضروري.

ومن رأي ابن رشد أن الحاكم الظالم هو ذلك الذي يحكم الشعب من أجل نفسه لا من أجل الشعب. وإن شر الظلم ظلم رجال الدين. وإن أحوال العرب في عهد الخلفاء الراشدين كانت على غاية من الصلاح. فكأنما وصف أفلاطون حكومتهم لما وصف في «جمهوريته» الحكومة الجمهورية الصحيحة التي يجب أن تكون مثالاً لجميع الحكومات، ولكن معاوية هدم ذلك البناء الجليل القديم، وأقام مكانه دولة بني أمية وسلطانها الشديد. ففتح بذلك بابًا للفتن التي لا تزال إلى الآن قائمة قاعدة حتى في بلادنا هذه (الأندلس).

خاتمة الكلام في فلسفته (ونسبتها إلى فلسفة أرسطو)

هذا ما رأينا ذكره في هذا الباب بشأن فلسفة ابن رشد. وقد تناولنا كل فقرة من الفقرات المنشورة في صدر هذا الباب نقلاً عن «الجامعة» وشرحناها شرحًا وافيًا. فإذا أخذت الآن كل فقرة منها وعرضتها على الفقرة التي شرحناها فيها؛ اتضحت لك صحة كل ما نشرناه أول مرة عن فلسفة هذا الفيلسوف.

بقيَ علينا أن نظهر ما في فلسفة ابن رشد من الموافقة لفلسفة أرسطو، وما فيها من المخالفة التي نشأت عن الزيادة عليها فنقول.

إن فلسفة العرب في مسألة «العقول» تنقسم إلى خمسة أقسام:
  • القسم الأول: الاعتقاد بوجود عقلين هما في الأصل واحد؛ الأول عقل عام فاعل بريء من المادة، وهو صادر عن المبدأ الأول أي الخالق. والثاني عقل منفعل أو مفعول وهو القوى الإنسانية أو الحيوانية القابلة للانفعال من العقل الأول.
  • والقسم الثاني: أن العقل العام الفاعل البريء من المادة عقل خالد لا يقبل الفناء. والعقل المنفعل أو المفعول أي القابل للانفعال يقبل الفناء.
  • القسم الثالث: إن العقل العام الفاعل هو بمثابة شمس للعقول تستمد كلها نورها منه.
  • القسم الرابع: وحدة هذا العقل الفاعل؛ لأنه لا يتجزأ ولا ينقسم.
  • القسم الخامس: اتصال العقل الفاعل بالعقل المنفعل الإنساني حتى بالعقل الحيواني؛ لأنه متى عقل صورة صار هو إياها.

فمما لا ريب فيه قطعيًا أن القسم الأول والثاني يدخلان في فلسفة أرسطو؛ لأنه أثبتهما في كتبه. والقسم الثالث يمكن إثباته من كتبه، ولكن بعض الفلاسفة المعاصرين ينكرون ذلك وينقضونه.

بقيَ القسم الرابع والخامس وهما من موضوعات فلاسفة العرب الذين أدخلوا هذه الزيادات على فلسفة أرسطو، حين شرحهم لها وهم يحسبون أنهم يكملونها ويهذبونها.

١  والذي يثبت أننا لم نكن نقصد بهذا القول المتكلمين فقط، بل إننا أطلقنا ذلك على اللاهوتيين في الترجمة التي فيها الخلاف (الجامعة الجزء ٨ الصفحة ٥٢٤ السطر ٢٠) ما نصه بحرفه «كان علماء «الأديان» في العصور المتقدمة ينكرون هذا الرأي «أي وجود النواميس الطبيعية الثابتة» ويكفرون صاحبه لأنه غير لائق بالخالق عز وجل. أما اليوم فلم يبق مجال لهذا الإنكار بعد الاكتشافات العلمية» فهل ينكر سوء القصد هذا القول أيضًا ….
٢  كان بعض الأقدمين يسلمون بإمكان ما يسمونه «التولد الذاتي» أي تولد الحيوان والنبات من غير لقاح أو زرع، وكان ابن طفيل من المعتقدين بهذا الاعتقاد. وقد كثر انتشار هذا الرأي في القرن الماضي ولكن العلاَّمة باستور نقضه نقضًا تامًا.
٣  قال ابن رشد في كتابه «ما وراء الطبيعة»: إن الدين الخاص بالفلاسفة لهو درس الوجود والكائنات. ذلك أن أشرف عبادة تقدم لله تعالى هي معرفة مخلوقاته ومصنوعاته، لأن ذلك بمثابة معرفته. هذا هو أشرف الأعمال التي يرضى الله عنها. وأقبح الأعمال عمل من يكفر ويخطئ الذين يقدمون لله هذه العبادة التي هي خير العبادات ويتقربون منه بهذه الديانة التي هي خير الديانات. انتهى مترجمًا عن العلامة المستشرق المسيو مونك نقلاً عن كتاب ابن رشد «في ما وراء الطبيعة».
٤  وهم يريدون أحيانًا بالعقل المفارق الملائكة والأرواح من الملأ الأعلى.
٥  كان هذا القول صحيحًا في أزمنة البداوة. أما اليوم فقد أصبحت المرأة وخطرات النسيم تجرح خديها ولمس الحرير يدمي بنانها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤