مفاجأة … قاسية!

وقف الشياطين الستة أمام شاطئ مدينة «طنجة»، ذات الطابع الخاص بطراز مبانيها ومساجدها ذات المنمَّقات الإسلامية الفريدة.

وإلى الأمام على مسافة كيلومترات ليست كثيرة، ظهر الشاطئ الآخر لأوروبا … وجبل طارق الذي يمتد برأسه نحو الميناء المغربي، وكأنه يوشك أن يعانقه … حيث يفصل مضيق جبل طارق ما بين البحر الأبيض المتوسط وبين المحيط الأطلنطي …

وكانت كلمات رقم «صفر» لا تزال ترنُّ في أذن «أحمد» … بأنهم مُقبلون على معركة دفاعًا عن قارتهم السمراء … وفي تلك اللحظة فقط، عرف «أحمد» لماذا لم يضمَّ رقم «صفر» «إلهام» إلى تلك المهمة.

كانوا ستة … «أحمد»، و«عثمان»، و«هدى»، و«زبيدة»، و«مصباح»، و«بو عمير»، وكلهم ينتمون إلى بلاد تحتضنها قارة أفريقيا السمراء.

أحمد من مصر … «عثمان» السودان، «هدى» المغرب … «زبيدة» تونس … «مصباح» ليبيا … «بو عمير» الجزائر …

كانوا هم أبناء القارة السمراء الوادعة … وكان عليهم القتال لحماية أبنائها من أن يُباعوا كأجزاء بشرية … وتنفَّس «أحمد» بعمق … كان يتطلَّع إلى القتال وقد التهبت حواسه … وجاء من الخلف صوت «عثمان» يقول: هيا بنا؛ فلا وقت للضياع.

كان هناك زورق صغير ينتظر على الشاطئ بدون أن يلفت الأنظار إليه … وكانت الخطة تقتضي أن يستَقِلوا الزورق، ويُبحروا به إلى مسافة مُعيَّنة في اتجاه الغرب في المحيط الأطلنطي … حيث تكون غواصتهم في الانتظار …

وبالفعل استقلوا الزورق … وأدارت «زبيدة» مُحرِّكه، فانطلق في هدوء مبتعدًا عن الميناء المغربي وبوابة أفريقيا المطلة على أوروبا … وعندما غادر الزورق الميناء، أطلقت «زبيدة» لسرعته العِنان كأنها تتعجَّل المهمة القادمة.

وضغط «عثمان» على كرته السوداء الجهنمية وهو يقول ﻟ «أحمد»: هل تظن أننا سنعثر على تلك الغواصة الجهنمية، وبها عصابة المختطفين المجرمين؟

أحمد: أرجو ذلك … فإن هناك ثأرًا يجب تسويته.

عثمان: ولكن … ألَا يوحي لك حدوث عمليات الاختطاف في غرب أفريقيا بشيء خاص؟

أحمد: بالطبع … إن هذا يعني أن مركز هؤلاء المختطفين قريب من الشاطئ الغربي لأفريقيا … ولعل مركزهم يكون في الشاطئ المقابل بسواحل قارة أمريكا الشمالية أو الجنوبية، وإن كان هذا الاحتمال ضعيفًا … لأن ظهور غواصة أو دخولها تلك المياه الإقليمية لهذه الدول سيدفعها إلى مطاردتها للكشف عن هُويتها … إن أفضل مكان يستتر به المجرمون، ويمارسون من خلاله نشاطهم، لا بد وأن تكون إحدى الجزر النائية المتناثرة في قلب المحيط الأطلنطي … حيث لا يمكن أن يشك فيهم إنسان.

عثمان: أعتقد ذلك … ولكن المحيط الأطلنطي يزخر بآلاف الجزر النائية، وكلها تصلح لأن تكون قاعدةً لهؤلاء المجرمين، خاصةً وأن أي غواصة حمولتها لن تحتمل وجود مائة فرد زائدين عن حاجتها لوقت طويل، خاصةً بسبب حاجتهم إلى طعام وغير ذلك … ممَّا يستتبع أن يكون مركز الخاطفين في إحدى الجزر القريبة من السواحل الأفريقية، أو على مسافة معقولة منها.

أحمد: إننا لن نبحث عنهم في داخل هذه الجزر بالطبع؛ فهذه مهمة مستحيلة، وسوف تستغرق وقتًا طويلًا … من الأفضل لنا هو مراقبة الساحل الغربي للقارة … ولعل الحظ يكون حليفنا فنعثر على غواصة المجرمين عند محاولة اقترابها من الشاطئ لممارسة عملها الإجرامي.

عثمان: إن المسألة بحاجة إلى قَدْر من الحظ الحسن … وأظن أنه سيكون حليفنا.

هدَّأت «زبيدة» سرعة الزورق حتى توقَّف تمامًا وسط الماء … وكانت صفحة المحيط على مرمى البصر، في كل اتجاه حولهم، زرقاء لامعة كأنها سطح مرآة سحرية مصقولة لا يخدشها شيء … ووقف الشياطين صامتين يراقبون سطح الماء، وكأن على رءوسهم الطير.

انقضت دقائق قليلة بدون أن يظهر شيء، وتساءل «مصباح»: هل أنت واثقة من أننا في المكان المضبوط يا «زبيدة»؟

وقبل أن تجيب «زبيدة» … انشقَّ سطح المحيط بصوت هادر، وبرزَت مقدمة الغواصة لأعلى … واكتمل ظهور بقية بدنها كأنها حوت ضخم قادم من أعماق مملكته في قلب المحيط.

جرى التبادل سريعًا … واتجه رُكاب الغواصة وملَّاحوها إلى الزورق البخاري … وأسرع الشياطين إلى قلب الغوَّاصة.

وخلال دقائق قليلة كانت الغواصة الصغيرة تعاود غوصها في قلب الماء … وتشق قلبه … وكانت من الداخل برغم صغر حجمها الذي لا يزيد عن عشرين مترًا طولًا … تشتمل على كل وسائل الراحة في داخلها … وكانت مُجهَّزةً بحيث يمكن لمجموعة صغيرة مُكوَّنة من ثلاثة أفراد قيادتها، بفضل القيادة الآلية وبرمجتها الخاصة التي لا تحتاج إلا لأقل عدد من الملَّاحين.

واستقرَّ «أحمد» و«عثمان» و«زبيدة» في حُجرة القيادة، وقد انكشف أمامهم قلب المحيط فوق شاشة الرادار … والتي كانت ترصد أسراب الأسماك وأصواتها … بل وحتى أصوات الطائرات بأعلى سطح الماء، بفضل «السونار» القوي بداخلها.

قال «أحمد»: إن أجهزة الرادار لدينا تكشف الماء حولنا حتى مسافة مائتي كيلومتر …

عثمان: أرجو ألَّا تكون غواصة الأعداء تمتلك مدًى أوسع للرادار … وإلا تمكَّنت من رصدنا على مسافة أكبر بدون أن نرصدها أو نُحس بوجودها.

واندفع «بو عمير» داخلًا وهو يقول: إن لدينا كميةً من الذخيرة لا بأس بها من الطوربيدات وقنابل الأعماق … بالإضافة إلى القنابل اليدوية والرشاشات والرصاص.

زبيدة: هذا حسن … وبالنسبة للماء والأكسجين والطعام؟

بو عمير: يوجد هنا ما يكفينا لمدة أسبوعَين كاملَين بدون أن نُضطر إلى الظهور على سطح الماء.

أحمد: إن مهمتنا تعتمد على السرية المطلقة؛ فنحن لا نريد الظهور فوق سطح الماء إلا وقت الضرورة القصوى، أو عند المواجهة؛ حتى لا يكشف وجود غواصتنا عن طبيعة مهمتنا؛ فيأخذ أعداؤنا حذرهم منَّا.

قال «عثمان» في تحدٍّ: بل إنني أريد أن نظهر ونكشف أنفسنا حتى يسارعوا بالهجوم علينا، فيكون انتقامنا منهم شديدًا.

زبيدة: ولكن النتيجة قد تكون عكسية، فيسارعوا بالفرار والاختباء … ونحن بالطبع لن نظل نبحث عنهم للأبد … وبعد عودتنا سيعودون إلى الظهور مرةً أخرى، وممارسة عملهم الإجرامي ثانية … إن «أحمد» على حق تمامًا في واجب مراعاتنا الحذر، وعدم كشف أنفسنا.

مصباح: هناك سؤال يدهشني … فهناك أكثر من دولة في غرب أفريقيا تمتلك غواصات حديثة … والمفروض أن هذه الغواصات قادرة على تمشيط شواطئها، واكتشاف اقتراب أية غواصة مجهولة ورصدها … فكيف كانت غواصة هؤلاء المجرمين تقترب، وتقوم بعملها الإجرامي بدون أن تلحظها أو ترصدها الغواصات الأخرى؟

قالت «هدى» بقلق: لعل هؤلاء المجرمين يمتلكون في غواصتهم أجهزة تشويش على رادارات الغواصات الأخرى، فلا تشعر باقترابها أو ترصدها.

عثمان: وهل سيحدث لنا نفس الشيء؟

أحمد: هذا ما ستجيب عنه الساعات القادمة.

ووجَّه «أحمد» الغواصة لتبحر جهة الجنوب على مسافة تزيد عن مائة كيلومتر من الشاطئ الغربي للقارة السمراء. ومرَّ وقت … واختفت الإضاءة العادية، وأُضيء النور الأحمر داخل الغواصة … وكان هذا يعني أن الوقت في الخارج قد صار ليلًا.

وقالت «هدى» باسمة: لقد حان وقت إبدال نوبة القيادة والمراقبة.

واستعدَّ «أحمد» و«عثمان» و«زبيدة» لمغادرة أماكنهم لتناول العشاء قبل النوم … غير أن «أحمد» حدَّق في شاشة الرادار ثم صاح: إن هناك طوربيدًا يتجه إلينا بأقصى سرعة، ويوشك على إصابتنا!

وقبل أن يفيق أحد الشياطين من المفاجأة القاسية، دوَّى صوت انفجار في الخارج … وارتجَّت الغواصة بشدة، وانطفأت أنوارها … وتبعثر كل شيء بداخلها … وهي تغوص إلى أسفل مثل حجر ثقيل، وقد راحت المياه تتدفَّق من فتحة في جدارها الخارجي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤