مقدمة الطبعة الأولى

هذه الكلمات أنشأتها في أوقات متباعدة، ومواطن مختلفة، وأحوال شتى، ولكنها كانت كلها وحي العقيدة، واستجابة الوجدان، لم يشبها — بنعمة الله — تكلُّف ولا تزيد ولا رياء.

وقد وفَّرت حظها من النزعات الروحية العالية التي تسمو بالإنسان لأهواء التي تتقسمه، والمطامع التي تستعبده، ومن المقاصد الجليلة التي تجمع النفس على خطة من الخير والحق، وتؤلف الناس كلهم على شِرعة من الإنصاف والعدل.

وما أحوجنا في عصر سيطرت فيه الآلات والشهوات إلى تحرير النفوس من سلطانها.

ويجد القارئ إلى جانب المقاصد الإنسانية الشاملة، نزعات إسلامية، وأخرى عربية، فلا يحسبن هذا تناقضًا في الرأي واضطرابًا في الوجدان، إنما هي صور من الجمال والحق والخير ومكارم الأخلاق، تتجلى في الخليقة كلها أحيانًا، وتتمثل في تاريخ الإسلام ومآثر العرب أحيانًا، ولن ينقص الحق أن تَحُدَّ زمانه من تاريخ الإنسان، أو مكانه في مواطن البشر، كما لا ينقص النهر الذي يفيض على أقطار شاسعة بالري والخصب أن تبين منبعه، ولا يحد الضياءَ الذي يغمر العالم أن تعين مصدره.

وقد سميته «الأوابد» لحسباني هذه الأفانين من الكتابة غريبة في موضوعها وأسلوبها؛ ولأنها لبثت حقبة مهملة شتيتة في أوراقي، فكانت في هذين الوصفين كالأوابد من الحيوان التي تعزُب عن البشر، وتنفر من الحضر، وتعيش متأبدة في الفيافي. ولا أزعم أنها من أوابد الكلم، وهي التي لا تشاكل جودة، كما يقول الزمخشري.

وبعدُ، فلا أقول شيئًا في طرائق هذه المقالات ومزاياها، ولكن أدع للقارئ رأيه حرًّا، وحسبي أنها بيان صادق عن عقلي وقلبي، وأني أردت بها الحق والخير، وابتغيت وجه الله، وهو حسبي وكفى.

جمادى الآخرة سنة ١٣٦١ﻫ
تموز سنة ١٩٤٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤