يوم عرفات

أترى الحجيج زرافات يهرعون إلى عرفات، بعثتهم الأرجاء البعيدة إلى ساحة القُرب، وأرسلتهم البلاد المختلفة إلى أرض الوَحدة؟ قد خلعوا ثيابهم فخلعوا الفرقة والخلاف، وطرحوا كل ما صنعوا لأنفسهم من عظمة وحقارة، وسيادة وعبودية، ونبذوا ما خاط عليهم الزمان من عداوة وبغضاء، ونزعوا ما في صدورهم من غلٍّ، وما في نفوسهم من شهوات، والتفُّوا في ثوب من المساواة واحد، وصيغوا جميعًا صوغ إنسان فرد، عبيدًا لله وإخوة في الله. هذه الإنسانية في أبهر حقائقها وأخفى أسرارها.

اتحد الفكر في رءوسهم، والشوق في ضمائرهم، تكاد تتفق خفقات قلوبهم، ويتحد تردد أنفاسهم، فهم نغمات موزونة، ولحون منظومة، وقصيدة موحدة الرويِّ، مؤتلفة القريِّ، بل هم واحد ذو أسماء متعددة، أو ظلال لحقيقة واحدة. ليس في أفئدتهم وعقولهم إلا الله الواحد، وليس في نزعاتهم إلا الأخوة الشاملة.

أتسمع التلبية يسيل بها كل واد، وتنزع بها الوهاد، وتدوي بها النجاد، ترفعها الأودية إلى الهضاب، وتسيلها الهضاب إلى الأودية؟ فما الهواء إلا نبرات هذه القلوب، وزفرات هذه الصدور، والأرض راجفة خاشعة كأنما اختلاج الناس على جلدتها، قشعريرتها ورعدتها.

أترى الناس على عرفات ألفاظًا كثيرة من أحرف قليلة، أو كلمات عدة ترادفت على معنى واحد، وقد تجلى هنالك الله وحده، فلست ترى هنالك إلا عبده.

لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. اللهم هذا جنابك الذي يهفو إليه الناس، فيصيح العصاة حتى أبو نواس:

إلهنا ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك١
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
ما خاب عبد سألك
أنت له حيث سلك
لولاك يا ربي هلك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
كل نبي وملك
وكل عبد سألك
سبَّح أو لبَّى فلك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
يا خاطئًا ما أغفلك
اعمل وبادر أجلك
واختم بخير عملك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك

لبيك ربنا قد تركنا الأقوام والشعوب، ونبذنا الأضغان والحقود، وطرحنا الباطل وزخارفه، والزور ووساوسه، والتكالب على الحطام، والاعتراك على الشهوات والخصام، وتركنا الأنيس يفترس الأنيس، والناس يقودهم إبليس، وجئنا إلى ساحتك بأبصار كليلة تبغي نورها، ونفوس عليلة تطلب بُرءها، وقلوب صدئة تلتمس جلاءها، وعقول مظلمة ترجو ضياءها، جئنا بأوقار من الذنوب، وأوزار من العيوب، فامحق الأوزار، وأرجعنا من الأطهار. اللهم بصيصًا من هداك ينير الظلمات، وقبسًا من علمك يكشف الشبهات، وقطرة من رحمتك تحيي الموات.

اللهم وهذا مقام رسولك الأمين، وهذا صوته المبين، لا يزال يرن في الآفاق ويخترق السبع الطباق: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.»

«أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.»

«فلا ترجعنَّ بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.»

«أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.»٢

اللهم هؤلاء الحجيج عطاش وردوا شِرْعتك، فانقع غلتهم، وسفر لوَّحتهم الشمس، ولفحتهم السموم، فهرعوا إلى ظلك فأظلهم، وضُلَّال انبهمت عليهم السبل، فأرهم الطريق لاحبة، والصُّوى واضحة، وأعداء فألف بين قلوبهم، ومختلفون فوحِّد كلمتهم، ومتناكرون فعرِّف بعضهم بعضًا.

اللهم هذا تجليك، فماذا تغني الكلم، اللهم قد عيَّ اللسان، ووقف القلم.

١  تلبية نظمها أبو نواس حينما حج.
٢  جمل مقتبسة من خطبة الوداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤