في معترك الخطوب

الحوادث في عراك دائم، والتاريخ في سيل مستمر، وإنما تبقى الأمم في معترك الحوادث، وتثبت في سيل التاريخ، بعقل يرشدها، وخلق يثبتها، وعمل تدفع به عن حياتها، وتؤثر به على الأرض آثارها، وتسطر به في التاريخ ذكرها. كم أمة جرفتها الحادثات، وذهب بها الزمان كما يذهب السيل بالغثاء! وكم أمة ثبتت في مجرى الأحداث كالصخور ينشق الماء عنها ويذهب وهي باقية راسخة!

والأرض ترجف اليوم بخطوب جسام، وتزلزل بأهوال لم يشهد التاريخ مثلها، تتصادم فيها الأمم بعددها من العلم والصناعة والخلق المتين، والنظام المحكم، والجد الدائب، تحترب الأمم في معارك على الأرض، وفي الماء والهواء، وتحترب في المدن والقرى، وفي المصانع والدور، ووراء هذا كله تتحارب بعلمها وخلقها. وقد خرت بعض الأمم على قوتها وكثرتها في هذا الجلاد، وثبتت أمم لا تزال تتناحر وتتفانى بكل ما عرف العقل والعلم والصناعة، وبكل ما أدرك الشيطان من وسائل التدمير والتخريب والقتل والفتك، ترسل بنيها إلى الوقائع حطبًا لهذا الجحيم، ويُصب عليها العذاب من السماء صبًّا، وكم تحطمت طائرات وسفن، ومدافع ودبابات، وخرت حصون وتهدمت بيوت، ولكن إرادة الإنسان، وعزيمة الإنسان، وعناد الإنسان، لم تتحطم أو تكل.

وقد دلت بعض الأمم في هذه الحرب على أن صبر الإنسان لا يهزم، وخلق الإنسان لا يدمر، فهزئت بالحوادث وهي هائلة، واستخفت بالهزائم وهي ماحقة، واستنارت بالأمل والظلم مطبقة، واستمسكت بالصبر والخطوب مزلزلة، واعتصمت بالعزة والإباء في العواصف الهوجاء، وما زالت حتى أخرجت من الهزيمة نصرًا، ومن القلة كثرة، ومن الضعف قوة، وأثبتت للجاحدين أن الله مع الصابرين.

وما تزال الخطوب متصادمة، والأخلاق متلاحمة، والحوادث متلاحقة، عبرة لمن يعتبر، ومثلًا لمن يمتثل، وذكرى لمن كان له قلب. ما يزال الزمان يشهد أعظم وقائعه، ويرى أكبر عبره، وينطق بأكبر عظاته، وفي الأمم من اتعظت بنفسها، وفيها من اتعظت بغيرها، وفيها من مرت بها العظات وهي غافلة، وزُلزلت الأرض تحتها وهي راقدة، كأن الذي حولها أحلام هائلة.

وهذه الأمم المتناحرة المتفانية تلقي عينًا على الحاضر، وأخرى على المستقبل تدبر هذه الواقعات المدمرة، وتعد لما بعد الحرب الخطط المعمرة، وتقبس من هذه النار الحاطمة؛ لتنير المستقبل المرجو، ولا يذهلها يومها — وهو مذهل — عن غدها، ولا يشغلها حاضرها — وهو شاغل — عن مستقبلها، ولا ينسيها العالم الشقي صورة العالم السعيد الذي تنشده.

•••

ونحن — والحمد لله — في عافية مما ابتلي به غيرنا، نسمع ضوضاء المعارك وأنباءها، وتحيط بنا خططها وآثارها، ولا ندفع في مضايقها، ولا نصلى بنارها، ولا نحمل مصائبها. نحمد الله على هذا، فهل نحمده كذلك على أننا في عافية من عناء التفكير والتدبير والتشاور والقطع برأي في حاضرنا ومستقبلنا؟! وفي عافية من أن نشارك العاملين للمستقبل برأي نشير به، أو خطة نضعها، أو مطلب نصر عليه؟! لعلنا أوفر أمم العالم نصيبًا من الفراغ في هذا الوقت، فلماذا لا نكون مثلهم تفكيرًا في المستقبل، وشغلًا بالحاضر؟ لماذا لا نأتمر بيننا، وندبر الرأي فيما عسى أن نلقى بعد الحرب من مشاكل ومصاعب. إننا ننتظر القضاء؛ قضاء الناس لا قضاء الله! وفي الناس من يقضى عليه ولا يقضي. وقد رضينا أن نصدق قول الشاعر:

ويقضى الأمر حين تغيب كعب
ولا يستأمرون وهم شهود

أقول: نحن، وأريد الأمة العربية كلها، نحن لا نلقى الحوادث بعدتها وكفايتها من التفكير والحزم وجمع الكلمة. لا يجتمع أهل المملكة الواحدة على رأي جامع، وخطة عامة تلتقي عندها مطالبهم أو أمانيهم، ولا يسارع أهل الأقطار كلها إلى البت برأي فاصل فيما يحزبهم من أمور الحاضر، وما يهمهم من قضايا المستقبل، وحسبي مثل واحد من أمثال.

تشعر البلاد العربية بحاجتها إلى التعاون والتقارب، والسير على خطة واحدة في الأمور التي تعمها، وقد أوحى إليها هذا الشعور معرفتها أنها على اختلاف الأقطار أمة واحدة، يؤلف بينها ما يؤلف بين الأمم الواحدة على هذه الأرض، والحقائق الماثلة تصدق هذا، والتاريخ يؤيده، والضرورات والحاجات تدعو إليه. وقد فكر قادة الرأي في الأقطار العربية في أن يحققوا هذه الأماني، فيوحدوا بين العرب ويجمعوهم على نظام واحد، أو نظم متقاربة في أمورهم المشتركة.

ولا ننكر أن الإنكليز نبهونا إلى هذا مرة بعد مرة، وقد مضت سنوات وأوشكت الحرب أن تنتهي، فماذا فعلنا؟ لا أدري! إن الأمر فيما أرى أوضح من أن تضطرب فيه الآراء، وأيسر من أن تقعد دونه الهمم، والزمان ضنين بفُرَصِه، والحوادث لا تعرف الهوادة. إننا لا نصطنع أشياء، ولا نلفق أمورًا تصادم الحقائق أو تخالف الرغبات، ولكنا نعالج حقائق ماثلة معترفًا بها، نريد أن ننظمها وننتفع بها. ومن تنصره الحقائق وتواتيه الرغبات لا يجد عسرًا فيما يحاول.

لو اجتمع ممثلو البلاد العربية الرسميون، أو أتيح للقادة غير الحكوميين أن يجتمعوا، ثم وَضع هؤلاء أو هؤلاء خطة، وجعلوا للعرب ميثاقًا لا يقبل جدلًا ولا ردًّا، لو فعل هذا للقينا الحادثات بما تطلبه، وأعطينا الفرص ما تستحقه، ولأخذنا السبيل على القال والقيل، ولاسترحنا من الرجم بالظنون والأقوال.

إن لنا الثقة كل الثقة بمن تصدوا لهذا الأمر، واضطلعوا بهذا العبء، واحتملوا مختارين هذه التبعة العظيمة في الوقت الحرج، ورأوا في أنفسهم الكفاية لحمل هذه الأمانة التي تسألهم عنها الأجيال الحاضرة والآتية، ولكنا نسألهم سؤال الحريص على طلبته، ونستعجلهم استعجال القلق على أمنيته.

إنه لا يجدر بنا أن ننام والحوادث يقظى، ونبطئ والخطوب تسرع، ولا نلقى الحادثات بعدتها من التدبر والعزم، وجمع الكلمة، وإجماع الرأي، وسرعة الفصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤