زواج أمير عربي من أميرة هندية

١

ماذا يخط القلم في هذا الفرح المتلألئ، والسرور المزدهر، والقلوب الخافقة، والأيدي الصافقة، والزينات الساحرة، والأضواء الباهرة؟

ماذا يخط القلم في أمة — بل أمم — خفقت قلوبها حبًّا، وانطلقت ألسنتها دعاءً، وتوجهت إلى هذا الوجه الأغر، والطلعة المباركة، إلى الملك الشاب الصالح، جلالة الملك «فاروق»؟!

ماذا يخط القلم، إلا أن يشارك العيون متعتها، والنفوس بهجتها، والقلوب أدعيتها، فيجول في مجال واسع من الفرح الحاضر، أو يقلب صفحات التاريخ عن صفحة من الجمال والسرور لألاءة، أو يطمح في المستقبل إلى حقب من المجد وضاءة، تظللها السعادة واليسر، والصفاء والبشر.

قلبت صفحات التاريخ، فعبرت من عرس إلى عرس، حتى وقفت على عرس كان في الهند في القرن الثامن الهجري، ورأيت من غرابته وطرافته ما يؤهله لأن يعرض على قراء «الرسالة» في هذا الأسبوع المبارك.

٢

كان السلطان محمد بن غياث الدين تُغْلُق شاه يملك «دهلي» وما يتصل بها، وبلاد «الدكن»١ في الربع الثاني من القرن الثامن الهجري «٧٢٥–٧٥٢ﻫ»، وكان ملكًا ذكيًّا سخيًّا، عظيم البطش، جبار السطوة!

وكان يحتفي بالغرباء الوافدين عليه، ولا سيما العزب، وخاصة من انتمى منهم إلى بيت النبوة، كان يبذل لهم من ماله، ويوطئ لهم من كنفه، ويبلغ من إكرامهم وإجلالهم ما يملأ النفس عجبًا!

٣

وكان آل ربيعة من طيء أمراء على قبيل عظيم من العرب في أطراف الشام في عهد الدولة الأيوبية ودولة المماليك … كان ملوك مصر يستنجدونهم في اللزبات، ويفوضون إليهم الرياسة على القبائل، ويبالغون في إكرامهم إذا وفدوا عليهم، وقد قدم منهم: فرج بن حية على المعز «أيبك»، فأنزله بدار الضيافة أيامًا، وأنفق على ضيافته وهداياه ستة وثلاثين ألف دينار! وكان من أمرائهم في القرن السابع والثامن آل مهنى بن عيسى، «وكلهم رؤساء أكابر، وسادات العرب ووجوهها، ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة، وصيت عظيم، إلى رونق في بيوتهم ومنازلهم.

من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري»٢

٤

قدم الأمير سيف الدين غدا بن هبة الله بن مُهنى على السلطان محمد، فأكرم وفادته، وأنزله بقصر في «دهلى» يسمى «كشك لعل»؛ أي القصر الأحمر، وجزل له العطايا، وأكثر الهدايا، ثم زوَّجه أخته الأميرة فيروز.

وكان الرحالة ابن بطوطة إذ ذاك مقيمًا بدهلي في كنف هذا السلطان، فشهد العروس العظيم، وتولى بعض شئونه، ووصف زفاف الأمير سيف الله والأميرة فيروز. فانظر كيف وصف:
ولما أمر السلطان بتزويج أخته للأمير غدا، عين للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها «الملك فتح الله»، وعينني لملازمة الأمير غدا، والكون معه في تلك الأيام، فأتى «الملك فتح الله» بالصيوانات، فظلل بها المشورين٣ بالقصر الأحمر المذكور، وضرب في كل واحد منهما قبة ضخمة جدًّا، وفرش ذلك بالفرش الحسان.

وأتى شمس الدين التبريزي، أمير المطربين، ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص، وكلهن مماليك السلطان.

وأحضر الطباخين والخبازين والشوائين والحلوانيين والشربدارية والتنبول داران،٤ وذبحت الأنعام والطيور، وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يومًا، ويحضر الأمراء الكبار والأعزة ليلًا ونهارًا.
فلما كان قبل ليلة الزفاف بليلتين جاء الخواتين٥ من دار السلطان ليلًا إلى هذا القصر، فزينه وفرشنه بأحسن الفرش، واستحضر سيف الدين، وكان عربيًّا غريبًا لا قرابة له، فحففن به، وأجلسنه على مرتبة معينة له. وكان السلطان قد أمر أن تكون أم أخيه مبارك خان مقام أم الأمير غدا، وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته، وأخرى مقام عمته، وأخرى مقام خالته، حتى يكون كأنه بين أهله، ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه، وأقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن، وانصرفن إلى قصر الزفاف، وأقام هو مع خواص أصحابه.

وعين السلطان جماعة من الأمراء تكون من جهته «الأمير»، وجماعة يكونون من جهة الزوجة، وعادتهم أن تقف الجماعة التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جلوتها على زوجها، ويأتي الزوج بجماعة، فلا يدخلون إلا أن يغلبوا أصحاب الزوجة، أو يعطونهم آلاف الدنانير إن لم يقدروا عليهم.

ولما كان بعد المغرب أتي إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة، قد غلبت الجواهر عليها، فلا يظهر لونها مما عليها من الجواهر، وبشاشية مثل ذلك، ولم أر قط خلعة أجمل من هذه الخلعة، وقد رأيت ما خلعه السلطان على سائر أصهاره مثل: ابن ملك الملوك عماد الدين السمناني، وابن ملك العلماء، وابن شيخ الإسلام، وابن صدرجهان البخاري، فلم يكن فيها مثل هذه.

ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده، وفي يد كل منهم عصا قد أعدها، وصفوا شبه إكليل من الياسمين والنسرين، وله رفرف يغطي وجه المتكلل به وصدره، وأتوا به الأمير ليجعله على رأسه، فأبى ذلك، وكان من عرب البادية لا عهد له بأمور الملك والحضر، فحاولته وحلفت عليه حتى جعله على رأسه.

وأتى باب الصرف، ويسمونه باب الحرم، وعليه جماعة الزوجة، فحمل عليهم بأصحابه حملة عربية، وصرعوا كل من عارضهم فغلبوهم، ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات — وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله — ودخل إلى المشور وقد جعلت العروس فوق منبر عالٍ مزين بالديباج، مرصع بالجواهر، والمشور ملآن بالنساء والمطربات، وقد أحضرن أنواع الآلات المطربة، وكلهن واقفات على قدم إجلالًا له وتعظيمًا، فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر، فنزل وخدم٦ عند أول درجة منه، وقامت العروس حتى صعد، فأعطته التانبول بيدها، فأخذه وجلس تحت التي وقفت بها. ونُثرت دنانير الذهب على رءوس الحاضرين من أصحابه ولقطتها النساء والمغنيات يغنين حينئذٍ، والأطبال والأبواق والأنقار تضرب خارج الباب.

ثم قام الأمير وأخذ بيد زوجته، ونزل وهي تتبعه، فركب فرسه يطأ به الفرش والبسط، ونُثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه، وجعلت العروس في محفة، وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره، والخواتين بين يديها راكبات، وغيرهن من النساء ماشيات، وإذا مروا بدار أمير أو كبير خرج إليهم، ونثر عليهم الدنانير والدراهم على قدر همته، حتى أوصلوها إلى قصره.

ولما كان من الغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوجها الثياب والدنانير والدراهم، وأعطى السلطان كل واحد منهم فرسًا مسرجًا ملجمًا وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار، وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر، وكذلك لأهل الطرب — وعادتهم ببلاد الهند ألا يعطوا أحدًا شيئًا لأهل الطرب، إنما يعطيهم صاحب العرس — وأطعم الناس جميعًا ذلك اليوم، وانفضَّ العرس.

وأمر السلطان أن يُعطى للأمير غدا بلاد المالوة والجزرات وكنباية ونهر والة، وجعل فتح الله المذكور نائبًا عنه عليها، وعظمه تعظيمًا شديدًا. ا.ﻫ.

١  دكن، ومعناه الجنوب: القسم الجنوبي من بلاد الهند.
٢  صبح الأعشى، ج٢.
٣  المشور: كلمة يستعملها ابن بطوطة في معنى فناء الدار.
٤  الشربدارية: القيمون على الشراب، والتنبول: نبات هندي أحمر يؤكل كثيرًا ويقدم للضيوف، والتنبول دار: من يتولى تقديم التنبول.
٥  الخواتين: جمع خاتون، وهي السيدة باللغة التركية.
٦  خدم: حيا بالانحناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤