وديعة ميافارقين

١

سيف الدولة علي بن حمدان، أمير حلب والعواصم، يخط بسيفه مملكة في ثغور الروم، ويقزها على الزلازل، ويثبتها على الأهوال، ويمكنها في مضطرب الأمواج، ومدارج السيول.

لبث الرجل عشرين عامًا يغزو الروم، ويدفع غزواتهم، ويجاهد وحده هذا العدو الذي جاهده العرب وجاهدهم، منذ زال سلطان الروم عن الشام. لا تفتر همة علي بن حمدان، ولا يكل عزمه، ولا تفل شباته، وجيوش الروم وأتباعهم تطغى على البلاد العربية، موجة بعد موجة، فتتكسر على هذه الصخور من الشجاعة والعزم، والجهاد والصبر، ويسيل السيل بعد السيل، فيصده هذا السد الذي مكنته شجاعة سيف الدولة وجنده القليل، وكم نكبت جيوش سيف الدولة فما وهن ولا استكان، ولا ساير الزمان، ولا أخلد إلى السلامة، ولا آثر العافية! ولكن الحوادث انجلت عن هذا الوجه الوضاء بسامًا للخطوب، وهذه العزة القعساء راسية على الأهوال:

وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم

وبنو بويه في بغداد، والإخشيديون ثم الفاطميون في مصر بمعزل عن هذه الحوادث، أسلموا الأمير الحمداني لهذا الجلاد الدائب، والعراك المتواصل:

أنت طول الحياة للروم غاز
فمتى الوعد أن يكون القفول
وسوى الروم خلف ظهرك روم
فعلى أي جانبيك تميل؟
قعد الناس كلهم عن مساعيـ
ـك وقامت بها القنا والنصول
ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول

٢

هذه سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة والسيف العربي الذي قارع الروم عشرين عامًا لم يفل، والعزم الذي استكبر على الغِيَر حقبة طويلة لم يضعف، ولكن سيف الدولة مريض، عرضت علة لجسده، وكبرت عن العلل روحه، وقد حاصر الروم طرسوس، واستغاث أهلها الأمير العليل، فلم يقعد به مرضه، ولا بعث للعدو قائدًا غيره، بل ركب في الجيش المرزأ بالسيوف المفللة يجيب الصريخ، ويغيث أهل الثغور:

وغر الدمستق قول العدا
ة: إن عليًّا ثقيل وَصِب
وقد علمت خيله أنه
إذا همَّ — وهو عليل — ركب

وخاف الروم لقاء الأمير الذي عرفوه، وقتال الجيش الذي خبروه، فتركوا طرسوس وقفلوا إلى ديارهم، وانفرجت الغمة عن طرسوس وما يليها.

سبقت إليهم مناياهم
ومنفعة الغوث قبل العطب
فخروا لخالقهم سجدًا
ولو لم تغث سجدوا للصلب
وكم ذدت عنهم ردى بالردى
وكشفت من كرب بالكرب

وبقي الأمير العليل يستقل بأعباء الجهاد، ويحمي وحده الثغور.

أرى المسلمين مع المشركيـ
ـن إمَّا لعجز وإمَّا رهب
وأنت مع الله في جانب
قليل الرقاد كثير التعب

علي بن حمدان مريض، يحارب عدوًّا شديدًا، ويلقى خطوبًا سودًا، ولكن على الأسد أن يحمي غيله، والفحل يحمي شوله معقولًا. يمضي الرجل في جلاده على العلات، وعلى رغم العِلل والحادثات، وأمراء العرب والمسلمين من خلفه كما قال أبو الطيب لهذا الأمير العظيم:

ألهى الممالك عن فخر قفلت به
شرب المدامة والأوتار والنغم

٣

في شهر صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة في مدينة حلب يمرض ابن حمدان البطل مرضه الأخير، وينظر وراءه إلى ثلاث وعشرين سنة من المجد والكد، ويتمثل الخيل المغيرة والنقع المثار، والسيوف المتضاربة، والرماح المتطاعنة، والكر والفر، والهزيمة والظفر، ويتذكر من ثبت ومن فر، ومن وفى ومن غدر، كما يتمثل الشعراء أمامه يسجلون وقائعه، ويخلدون مآثره، والعلماء والأدباء يأتونه من كل صوب، ينشرون العلم في كنفه، ويحتمون من الحوادث في جانبه، وتمر بخياله الحوادث حلوها ومرها، والأيام خيرها وشرها، فيبسم بسمة الرجل أدى واجبه، ووفى بعهده، وترك وراءه صيتًا بعيدًا، وذكرًا حميدًا.

وهذه الساعة الثالثة من يوم الجمعة لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة، والأمير العظيم على فراش الموت يود لو جمع تاريخه في كتاب، وأحصيت وقائعه في سجل يأخذه بيده في ساعته الأخيرة؛ ليلقى ربه بما قدمت يداه في سبيل الله! بل يود لو صُورت الخطوب، ومُثلت الحوادث، وطوي التاريخ في صورة مجسمة ليصحبه في قبره، ويؤنسه في وحشته، ويمضي معه حجة ناطقة، وشهادة ناصعة، وكيف تصور الخطوب، وتمثل الحوادث، ويطوى التاريخ مجسدًا؟!

يقول سيف الدولة: هاتوا اللبنة، قد نفضت دروعي بعد الوقائع، وجمعت ما عليها من الغبار، وصنعت من الغبار لبنة. عليَّ بهذه اللبنة لأراها، فإذا مِتُّ فضعوها في لحدي تحت خدي.١

ونُقلت جثة الأمير الكبير، ولبنة الرجل المجاهد إلى ميافارقين، فدفنا في التربة التي دفن فيها سيفُ الدولةِ والدتَه.

فيا ليت شعري أين في ميافارقين قبر سيف الدولة؟ وأين من تربتها تلك اللبنة؛ تلك الهمة المجسمة، والمجد المجسد؟!

أين تلك اللبنة التي يشاد عليها صرح من المجد منيف، ويبنى بها ملك من العزة شامخ، تلك الحجة التي لم يدل بمثلها بطل، ولا ظفر بنظيرها مجاهد؟!

لقد صور سيف الدولة من غبار الوقائع لبنة، فليصور كتابنا وشعراؤنا هذه اللبنة جهادًا وعزمًا، وعزة ومجدًا، وليجعلوها في المفاخر مثلًا سائرًا، وفي الأدب نثرًا بليغًا، وشعرًا رائعًا؛٢ ليقرءوا فيها شعر أبي الطيب في سيف الدولة، أو فلينشدوا فيها شعرًا أروع من شعر أبي الطيب، فما أنفد شاعرنا مجد أميرنا وإن قال:
شاعر المجد خدنه شاعر اللفـ
ـظ كلانا رب المعاني الدقاق
١  ابن خلكان.
٢  سمعت من الشاعر الأديب رفيق الخوري أبياتًا في قصة هذه اللبنة ونحن في مهرجان أبي العلاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤