محيي الدين النووي والسلطان بيبرس

كان شيخ الإسلام أبو زكريا يحيى النووي، من أعلام العلماء في القرن السابع الهجري، ذا مكانة عالية بين علماء الفقه والحديث، وكان له في التقوى والورع والزهد سيرة محمودة، وفي نصرة الحق وتأييده مواقف مشهودة.

ولا بأس أن نثبت هنا بعض سجعات ابن السبكي: «كان يحيى — رحمه الله — سيدًا وحصورًا، وليثًا على نفسه هصورًا، وزاهدًا لم يبال بخراب الدنيا إذا صَيَّرَ رَبْع دينه معمورًا، له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة، والمصابرة على أنواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة. هذا مع التفنن في أصناف العلوم متون أحاديث، وأسماء رجال، ولغة، وتصوفًا إلى غير ذلك.»

ولست أبغي هنا ترجمة النووي، ولكن أذكر وقعة كانت بينه وبين الظاهر بيبرس. وهي واحدة لها أمثال في سيرة الشيخ، ولها نظائر كثيرة في تاريخ الإسلام:

كان بيبرس ملكًا مجاهدًا، أبلى في قتال التتار والصليبيين بلاءً عظيمًا، وقد انتظمت شجاعته وعزيمته مع شجاعة أسلافه وأخلافه من الأيوبيين والمماليك، فكانت سطرًا من الجهاد والجلاد وقى البلاد المصرية مصائب الغزاة، وخيَّب دونها آمال الصليبيين مائتي سنة، وكذلك كانت همته وإقدامه هو وجنوده في مصر والشام كالطود، ارتد عنه سيل التتار بعد أن جرف البلاد الإسلامية من سمرقند وخوارزم إلى حلب ودمشق، فعلَّموا جنود هلاكو في «موقعة عين جالوت» وما بعدها، أن مصر أبعد من أن يطمعوا فيها، وأن الشام أعز من أن يسيطروا عليه.

وكان بيبرس في جهاده المستمر وحربه المتمادية يتوسل إلى المال يستعين به على جهاده، وكان الشيخ النووي يكتب إليه ناصحًا كلما رأى في عمل السلطان شدة، أو جورًا، أو مخالفة للشرع، لا يني في هذا ولا يداهن، ولا تأخذه رغبة ولا رهبة.

كتب مرة إلى السلطان هو وبعض العلماء يطلبون رفع بعض المكوس، ويوصون بالعدل والشفقة، فكان في الجواب إنكار وتوبيخ وتهديد، فكتب الشيخ النووي يجادل فيما تضمنه جواب السلطان، ويقول:

وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، وتهديد طائفة العلماء، فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين في الناصحين نصيحةً للسلطان ولهم، ولا علم لهم به؟ وكيف يؤاخَذون به لو كان فيه ما يلام عليه؟ وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان؛ فإني أعتقد أن هذا واجب عليَّ وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى: إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. وقد أمرنا رسول الله أن نقول الحق حيثما كنَّا، وألا نخاف في الله لومة لائم.

ولما ذهب السلطان إلى الشام لمحاربة التتار، أراد أن يأخذ مالًا من الرعية يستظهر به على العدو، واستفتى العلماء فأفتوه، ثم سأل الشيخ النووي أن يشارك العلماء في الفتوى، فلما حضر الشيخ قال السلطان: اكتب خطك مع الفقهاء، فامتنع، قال السلطان: لماذا لا تكتب؟ قال الشيخ:

أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال، ثم منَّ الله عليك وجعلك ملكًا، وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية، لكل جارية حق من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت مماليكك بالبنود الصوف بدلًا من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية.

قال الظاهر للشيخ: اخرج من بلدي. يعني دمشق.

قال الشيخ: السمع والطاعة. وخرج إلى نوى.

فأنكر الفقهاء أن يخرج مثل النووي من المدينة، وسألوا السلطان أن يرجعه، فأمر السلطان بإرجاعه، فأبى الشيخ وقال: لا أدخلها والظاهر بها.

لست أدري أكان السلطان محقًّا في فرض ما فرض من المال أم لا، ولست — لذلك — أعرف أكان الشيخ محقًّا في جبه السلطان بما جبهه به، ولكن لا ريب عندي أن السلطان أحسن حين التمس فتوى العلماء قبل أن يجمع المال، وأن الشيخ أدى واجبه حين صارح السلطان بما يعتقد، ولم يأخذه في الحق خوف ولا طمع، وأن محيي الدين النووي قد فقه أحسن الفقه ما على العلماء من النصيحة لأولي الأمر، والجهر بالحق في غير مداهنة ولا خوف.

رحم الله النووي، لقد كان من علماء المسلمين، ولله تاريخ المسلمين كم فيه من أمثال محيي الدين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤