الشاعر المتفائل المتشائم١

إلى بثينة
إما تجلى الظلام عن غرة الفجر، وتكشف الغسق عن وجه الظلام، فتنفس الصبح، واستيقظت الحياة، وضربت الأشعة في الأرجاء، فانبعثت من مراقدها الأحياء، كما تسطع أشعة الكهربا، فتخلق عالمًا من السيمياء.٢

وإما زُحزح ستار المشرق عن الشمس تنازع الأفق عن نفسها، وتحاول السير إلى أوجها؛ فهلم يا بنيَّتي العزيزة، اصحبيني إلى البرية أنسج لك حديثًا من السعادة، وأقرأ لك كتابًا من الغبطة، وأشدو لك بقصائد الخليقة البهيجة، تضمنت ألفاظها ومعانيها الفرح ظاهرًا وخفيًّا، والنعيم مخيلًا ومرئيًّا، ونطقت أوزانها وقوافيها بموسيقى الحياة تردد الآفاق أصداءها، ويدوي الفضاء بأنغامها.

فإذا رأيتني متهللًا ضاحكًا مازحًا فكهًا، فاصحبيني يا بنية واغتبطي، واستزيدي واطربي، واسترسلي في حديثك وضحكك، ومرحك ولعبك، وسليني ما شئت عن الجمال والحب يتجليان في كل خلق، والنضرة والنعيم ينطق بهما كل شيء، وسليني عن محاسن الناس، صدقهم ووفائهم، وتعاونهم ومواساتهم، فستسمعين عن ملائكة تمشي على الأرض، وأبرار تسعد بهم الحياة.

وحذار يا بنيتي ثم حذار أن تذكريني التعس والشقاء، والنضب والعناء، والشر وفاعليه، والإثم ومقترفيه؛ فإني أشفق عليك أن تهب العاصفة، ويموج القلب، ويتجهم الوجه، فتريني نادبًا راثيًا، ساخطًا زاريًا، يردُّ عليك العالم نسجًا أسود حاكته المصائب والآلام، وطرزته الأوجاع والأسقام. إني أخاف عليك أن يثور بي الغم، فلا أحدث إلا عن مأساة مكانها الأرض والسماء، وستورها الصباح والمساء، وسطورها الدموع والدماء، وأشخاصها كل من نسَل آدم وحواء.

أخاف أن تريني شاعرًا يجيد الأنين والشكوى، ولا يعرف الصبر والسلوى، يعرض عليك قصيدة محبوكة الطرفين بالغم، باكية الأوزان حزينة النغم، تنوح قوافيها، ويولول رويُّها، ليس في تفاعيلها إلا الأنات، ولا في مصاريعها إلا الزفرات، أشفق عليك يا بنيتي ألا أُريك في وميض البرق إلا سواد السحاب، ولا في تلألؤ النجوم إلا رجمة الشهاب، وأن أنشد مع المعري:

إن دنياك من نهار وليل
وهي في ذاك حية عرماء٣

لا أرى في الورد إلا الشوك، ولا في النبات إلا الحنظل، ولا في الميلاد إلا الموت، ولا في الإدراك إلا الفوت.

كذلك يا بنيتي خلق أبوك قيثارة تسر وتشجي، وتضحك وتبكي، وكذلك صب في قلبه مرارة البحار، وعذوبة الأنهار، ليس بينهما برزخ. وهو الصخرة تقدح الشرر، وتنبثق عن الينبوع السلسبيل.

إما رأيتني يا بنية واجمًا مكتئبًا، فلا تعنفي عليَّ، فتنكئي جرح الفؤاد، ويفيض عليك بالحزن كل واد، ولكن اصبري للعاصفة حتى تمر، وللنار حتى تهمد، فإن أشفقت على أبيك أن يملكه الحزن، ويزلزله العذاب؛ فسارعي إلى بِيانك piano، واختاري أسعد الأغاني، ثم تلطفي في العزف، وأرسلي صوتك خافتًا كالبعيد من الصدى، وابعثي إليَّ النغمات كأنفاس الصبا، حتى تمسح على جبيني الملتهب، وتخفف من الحزن الثائر، وترفه عن القلب المائج، حتى إذا انبسطت الأسارير، وتهلل الوجه النضير، فانشطي بصوتك، واشتدي على بيانك.

ثم اختلسي النظرات إليَّ، فإذا أيقنتِ أن أشعة السرور بددت ظلام الحزن، وأن قد أديل من ليل اليأس لصبح الأمل، فأسمعيني ضحكك، ثم سارعي إلى أبيك فعانقيه، وساقطي على جبهته قبلاتك تساقط الندى في أعقاب الظلام، ثم حدثيني أحدثك بما يطربك.

وهكذا يا بنيتي الحبيبة عليَّ أن أسعدك في ساعات عديدة، وعليك أن تفرجي عني دقائق معدودة، عليكِ أن تزحزحي عني ظلام الهموم، وعليَّ أن أخط لك من السعادة هالة لا يقوى عليها جَون الغمام، ولا يذهب ببهائها حلك الأيام، عليك أن تفتحي للبلبل قفصه، وعليكِ أن يملأ لك الدنيا غناءً وتطريبًا، وشدوًا وترجيعًا، عليك أن تدليه على مفتاح الموسيقى، ثم تستمعي لعزفه، وأن تقدمي له طاقة من الورد، ثم تنصتي إلى وصفه.

عليه أن يعرض عليكِ جنة عرضها الأرض والسماوات، وعليكِ أن تعطيه مفتاحها إذا أذهلته عنه الحادثات، وأن تشيري إلى الباب إذا أضلته عنه الغير، وغشى على عينه سواد الفكر. عليكِ أن تمكنيني من القلم، وعليَّ أن أسطر لكِ قصيدة سعيدة النغم، وأنظم لك عقدًا يتلألأ على صدرك، ويسطع في أيامك، عقدًا مثل أبيك مَن يَنظمُه، ومثلك مَن يَحملُه.

وبعد فيا بثينة، قد وقف القلم، وغام الحزن على وجه أبيكِ، فليتكِ هنا لتنقذيه مما به.

١  كتبت بلندرة الساعة ٨ من مساء ١٠ أكتوبر سنة ١٩٢٦م.
٢  أعني السيما.
٣  عرماء: منقطة بسواد وبياض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤