إبرة المغناطيس١

جلست إلى مكتبي البارحة، فوقع بصري على «بيت الإبرة»، فانفتحت أمامي سبل من الفِكَر لا تحدها غاية، وإني حين أحاول أن أقيِّد هذه الفِكَر على القرطاس لَمحاول أن أسلسل بهذه الأحرف خطرات الفِكَر التي تطوي الأجيال في لمحات، وتجمع السماء والأرض في طرفة عين.

قلت: ما أعجب هذه الإبرة! إنها هادية لا تضل، عارفة لا تخطئ، تنتحي الشمال مهما أدرتَها عنه، ولا تنسى عهد المغناطيس مهما أبعدتها منه، ومهما جمعت عليها من الحجب والظلمات، وأضعفت لها في المسافات، فهي مولية وجهها شطره، محسة جذبه، موصولة به، خبيرة بوحيه، لا تنساه، ولا تُشرك في هواه، ليت شعري أأهدَى من الإنسان هذه الإبرة الصغيرة؟ أجل، إنها لتهدي الإنسان في البر والبحر، والسفر والحضر.

أحسست حينئذ خفقان قلبي يذكرني أن في صدر الإنسان إبرة أخرى مرشدة هادية، تتوجه شطر معدنها أبدًا، لا يصدها عنه تطاول الأمد، وبُعْد المدى.

ألم تهد هذه الإبرة الأمم في ظلمات الجاهلية، وغيابات القرون، فعصمتهم على العلات من الهلاك، وأخرجتهم إلى النور على تكاثف الظلمات، ولا تزال هادية بصيرة بالغاية، خبيرة بالسبيل إليها؟ كم عبدت الإنسان شهواتهَ! وأضلته عن الخير مطامعه! فما زالت هذه الإبرة تضطرب في صدره حتى اهتدى سبيل النجاة، ووضع على هداها منار الطريق.

كم طغت بالإنسان ضغائنه وأحقاده، فما زالت هذه الإبرة تخفق في جوانحه حتى عرف إلى الحب والمودةِ السبيلَ، واستقام على النهج لا يميل!

وكم غلا الإنسان في ظلمه وعدوانه، فما زالت تتحرك في أضلاعه حتى أشعرته نفسها، ثم ردته إلى خطة للعدل محمودة، وسبيل من الإنصاف رشيدة!

وكم غدر الإنسان ثم اهتدى بها إلى الوفاء، فندم على ما قدم، واغتبط بما أقدم!

وكم أجرم الإنسان، فوخزته فأفاق، فكأنما صُوِّر خلقًا آخر ينفر من الإجرام، ويركن إلى السكينة والسلام!

وكم سفلت بالإنسان سجاياه، فعملت في صدره، حتى سمت به إلى العلياء، وطارت به من الحضيض إلى عنان السماء!

وكم وقفت بالإنسان همته، فدفعته هذه الإبرة العجيبة، فمضى قُدُمًا إلى العمل، وهمزته فدأب لا يعرف الكلل!

وكم أظلم على الإنسان طريقه، وعميت عليه أرجاؤه، وأطبقت عليه سحائب سوداء، وأحاطت به ظلمات لا شِيَةَ فيها من الضياء، فنظر إليها، فإذا هي إلى الغاية دليل، وإذا هي في الظلمات قد استقامت على السبيل!

وكم جارت بالإنسان آراء مضلة، وأفكار غائلة، وأقوال ساحرة، فلما هلك أو كاد، ودارت به الحيرة والإلحاد، أحس اضطرابها في نفسه فسكن، فتهافتت الآراء، وتهاترت الأقوال، وثاب إليه هداه، فوجد أمامه الله!

•••

إيه أيتها الإبرة الهادية! ضل الإنسان في صباه وهرمه، وجهله وعلمه، وسعادته وشقائه، ووحدته واجتماعه، وحله وترحاله، لولا هداية الله فيك، وبصيص من نوره في نواحيك، وصلة به لا تنقطع، وشعور به لا يضل، وجذوة من حبه لا تخمد.

وأما الذين أضلتهم الأهواء، فعميت عليهم الأنباء، وتخطفتهم في الحياة المآرب، فتذبذبوا بين شتى المذاهب، وشرق بهم مطمع، وغرب مطمع، وتلونت لهم غيلان من الآمال والأعمال، والذين فقدوا أنفسهم وهم لا يشعرون، وضل سعيهم وهو يحسبون أنهم مهتدون، والذين يلبسون كل يوم زيًّا، ويبدلون كل حين رأيًا، ويلبسون لكل دولة وجهًا، ولكل سلطان زيًّا، ويتخذون لكل ساعة لسانًا، ولكل فرصة وجدانًا، فأولئك أغفلوا النظر إليك، فحرموا الاهتداء بك، أولئك في إبرتهم خلل قد عرض، أو أولئك في قلوبهم مرض.

١  شوال سنة ١٣٥٢/يناير سنة ١٩٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤