وحي القلم١

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ

١

أنا معجب بالرافعي منذ قرأت له، وأحذر أن يغطي الإعجاب على بصري، وتكل عين الرضا عن العيوب، وقد اتهمت نفسي لتكافئ التهمة الإعجاب، ويعادل الحب الارتياب.

الرافعي نسيج وحده، تقرأ له فتشعر أنك في اختراعه وتصويره وبيانه وتفكيره، لا يذكِّرك بأحد، ولا يذكِّرك به أحد. وحسب الكاتب أن يكون كونًا مستقلًّا يستملي الضمير، ويبدع في التصوير. وكثير من الكتاب قوالب تختلف أحجامها وأشكالها، ولكنها صور مستعارة لا تفتأ تستعير مادة عملها.

بين شعراء الفرس شاعر تَسَمَّى «خلاق المعاني»، والرافعي في وحي القلم جدير بهذا اللقب. وما أعسر الخلق هنا، وما أصعب الإبداع! يعمد إلى الحدث الصغير ذي المعنى المحدود، فيحطم حدوده، ويصله بالبشرية كلها، أو يشيعه في العالم كله، ويصوره صورًا تلقى القارئ بجدتها وروعتها، والكاتب الملهم يرى الخليقة أسبابًا متصلة، ومعاني متجاوبة، وصورًا متجاذبة، فما يبصر ذرة إلا رأى وراءها الفلك، ولا يقابل شعاعًا إلا جذبه إلى الشمس، وكأن كل شيء في الوجود عين تطل على العالم غير المحدود، تنثال عليه الفِكَر، وتتزاحم أمامه الصور؛ فيكون همُّه أن يشق طريقه بين المعاني المتزاحمة، ويجد سبيله بين الطرق المتشعبة، وأن يطرد المعاني التي لا يريدها عن المعاني التي يقصدها، فهو من الخصب في نصَب؛ نصب الكاتب المقلد من الإجداب والإجبال.

العالم أمام الرافعي كتاب مفتوح، يدرك فيه جمال الحروف، وحسن السطور، ثم ينفذ إلى ما لا ينتهي من المعاني. وما يزال يعرض المعنى الواحد في صور رائعة، حتى يدع القارئ معجبًا حيران، قد اجتمعت على القراءة خفقات قلبه، ونظرات عينه، وأسارير وجهه، فلو أن الرافعي صوَّر هذه الخفقات، وبيَّن هذه النظرات والقسمات؛ لاسترد البيان الذي أفاضه على قارئه.

والرافعي يُغرب أحيانًا، أو يدق فينبهم معناه. وفي هذا ثورة بعض الأدباء عليه، ولكن الذي آمن بقدرته فيما وضح واستبان من كلامه يؤمن أنه حين يغمض يتحيل لمعنًى دقيق خفي لم تَرُضه الألفاظ، ولم يذلله الكُتَّاب، أو يتلطف لفكر نفور آبد ليختله. وكثيرًا ما يخيل إليَّ وأنا أقرأ آبدات الرافعي، أني أتبع بصري طائرًا يرتفع في اللوح، ثم يرتفع حتى تُضمره السحب فلا تراه العين، ولكنها تعرف أنه في جو السماء، فإن قيل: إن هذا حكم الإعجاب والرضا قلت: فإني أتهم نفسي فلا أدفع عن هذه الأوابد، ولكن وحي القلم بريء من الغموض والانبهام، وإنما أكتب اليوم عن وحي القلم.

٢

هذا الكاتب النابغة نزَّاع إلى الجمال، طمَّاح إلى الفضيلة، مولع بكل خلق كريم، فلا يعالج أمرًا إلا حلَّق به إلى الجمال، والرأفة، والرحمة، والإحسان، والحرية، والإقدام، وهلم جرًّا.

وقلبه فياض بالإيمان والطهر، فإذا كتب في الدين وما يتصل به ارتقى إلى حيث تنقطع المطامع. اقرأ مقاله: «سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم». إنها تملأ القارئ إعجابًا، وتسمو به حتى يحسب نفسه ملكًا محلقًا يرى مآثم الناس ومصائبهم من حيث لا تتعلق به ولا تستهويه، ولا يُوفَّق لهذا البيان إلا مسلم ملهم كالرافعي، يكتب في حقيقة علوية كالنفس المحمدية، ثم اقرأ في مقاله: «الله أكبر» وصف المسجد ونشيد الملائكة. لقد قرأتُ فكانت تنبعث التكبيرة من قرارة نفسي، فأمسكها مؤثرًا الاستماع إلى هذا التكبير الذي يدوي به المسجد، فلما انتهى المقال لم أملك أن رفعت صوتي بآخر كلمة منه: «الله أكبر».

هذه النزعات العلوية، والسمو الروحي يتجلى في مقالاته: الإشراق الإلهي، فلسفة الإسلام، حقيقة المسلم، وحي الهجرة، فوق الآدمية، درس من النبوة، شهر للثورة، ثبات الأخلاق.

والرافعي كاتب الإسلام والعروبة يتناول الحديث الصغير في تاريخ الإسلام ومآثر العرب، فيجعله عنوان فصل بليغ من الحكمة والموعظة، يسايره فيه القارئ متعجبًا: كيف ولَّدت الواقعة الصغيرة هذه المعاني التي تحاول أن تكون تاريخ جيل. اقرأ «زوجة إمام» و«السمكة»، واقرأ «يا شباب العرب»، و«يأيها المسلمون».

وهذا الكاتب السماوي أبرع الناس تحليقًا بالحب الطاهر، وأعظمهم ترفعًا به، وأبصرهم بالمهاوي والمهالك التي يحلق عنها هذا الحب العلي الأبي. نظرة إلى السماء تصف العلاء والمضاء والطهر والسمو الروحي الذي لا يحد، ونظرة إلى الأرض تصف السقوط الحيواني والهوى الشيطاني، فترى القارئ مدعوًّا إلى السماء، ومطرودًا عن الأرض، طائرًا إلى الخير، نافرًا عن الشر.

وإذا وصف صاحبنا الجمال بثَّ في العالم معانيه، ونفض عليه ألوانه، فكأنما خلق العالم خلقًا جديدًا: يخلق من الشعاع شمسًا، ومن القطرة نهرًا، ومن الوردة حديقة، ثم يغرد فلا يُدرَى: أهذا التغريد تفسير هذا الجمال، أم هذا الجمال تصوير هذا التغريد، ولا يدري القارئ: أهو في ربيع باهر، أم في بيان ساحر؟ وما أشبه قلمه وهو يشقق المنظر الغفل عن سرائر الجمال بإبرة الحاكية تسلط على الصفحة الجامدة السوداء، فتردها كلامًا وأنغامًا وألحانًا. اقرأ «عرش الورد» تر كيف جعل ابنته على عرشها مركزًا يحيط بها الجمال فلكًا دائرًا.

٣

ولله مصطفى حين يتغلغل في الجماعات، فيحس آلامها ويصف أسقامها، ويعرب عما في ضمائر البائسين، وعما في رءوس المتكبرين! ولا يزال بالمعنى الذي يراه الناس جمادًا يقدحه حتى يخرج منه النار والنور. يأخذ الحادثة الصغيرة يُنطقها بما وراءها، ويكشفها عما انطوت عليه، حتى يقيم بها للإنسانية عرسًا أو مأتمًا. اقرأ «أحلام الشارع» تسمعْ أنات البشرية، وترَ عبراتها، وتلمس مصائبها مصورة ملونة بدم المهج، وماء العيون، ونار الزفرات، وحز الحسرات، وواد الفاقة والذلة، ثم تسمع لغة الإنسانية على لسان ما سنت من قوانين.

والعجب أنك كلما أسال الحزن عبراتك طبع البيان الساحر على شفتيك بسمة إعجاب لا تملك نفيها. اقرأ «عربة اللقطاء» ترَ أنه صاغ من أساريرهم حروفًا للهجاء تسع كل معنًى، وتتمثل الآثام التي ولدت هؤلاء، والمصائب التي يحملها هؤلاء، والمفاسد التي سيلدها هؤلاء، وتقرأ «لحوم البحر» فتستمع إلى الشيطان والملك كل ينشد أناشيده، ويستخرج الرافعي منها دعوة إلى الفضيلة، ولعنة للرذيلة، وهو قادر على تسخير الشيطان لبيانه؛ فقد أعطي في البيان ملك سليمان.

وإذا وعظ «الصادق» نفذ إلى السرائر، وصور للإنسان فضائله ورذائله تصويرًا لا يدع له أن يختار إلا الأولى، وأن يهجر إلا الثانية. وهو لا يعمد إلى النذر يصبها على النفس صب السياط، يألم لها الجسم، ويموت القلب، بل يعمد إلى الحياة يصورها على حقائقها، نافيًا عنها تلبيس إبليس، وإلى القلب ينفخ فيه العظمة، ويبث فيه الفضيلة والطهارة، والطموح إلى كل خير، والنفور من كل شر. اقرأ له «وحي القبور».

٤

وهذه المقاصد الجليلة، والنزعات السامية تخالطها دعابة رقيقة وسخرية نافذة، ترى الكاتب يرتفع فوق العالم، ثم يسخر مما عبد الناس من أباطيل وأهواء، فإذا التماثيل التي يسجدون لها تهاويل، وإذا الهول الذي يفزعون منه تهويل، وإذا العظمة والكبرياء والسلطان والجاه والغنى وكل ما عدَّه الاجتماع عظمة لقوم وحقارة لآخرين أضاحيك يخلقها الجهل، ويهدمها العقل، ويقدسها الإنسان حيوانًا، ويحطمها الإنسان إنسانًا. وأعوذ بالله من الرافعي إذا انطلق ساخرًا، يرسل بيانه طعنات دراكًا وهو يضحك ضحك البرق في السحاب الراعد، أو لمع السيف في يد الضارب.

•••

وبعد، فهذا وصف الروض في كلمات لو كانت أزهارًا ما مثلته، ونعت البحر في سطور لو كانت أمواجًا ما صورته، فأما الروض في بهجة جماله، والبحر في روعة جلاله، فهُما ما خطه الرافعي، فإن شئت فقل: جنات في صفحات، وعباب في كتاب، وإن شئت فقل: إنه العالم في سطور قد انتظم، ووحي إلهي سماه الرافعي «وحي القلم». ذلك الفضل من الله.

١  ١٢ من ذي القعدة سنة ١٣٥٥ / ٢٥ يناير سنة ١٩٣٧ كتبت حينما أخرج المرحوم مصطفى صادق الرافعي كتابه «وحي القلم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤