المثنى بن حارثة١

على ذكر «نادي المثنى» ببغداد

١

كانت قبائل ربيعة ضاربة شرقيَّ نجد، موغلة إلى الشمال حتى أعالي الفرات، وكانت الوقائع تثور بينهم وبين الفرس في الحين بعد الحين، فكانوا أجرأ العرب على فارس، وكان العرب يسمُّون فارس «الأسدَ»، فسموا ربيعة: «ربيعة الأسد».

وكان بنو شيبان من هامات ربيعة في الجاهلية، وهم كانوا أبطال «ذي قار»، وامتد بهم المجد في الإسلام، فكان منهم بيوتات لها في الحرب والمكارم مآثر، يقول أبو تمام:

أولاك بنو الإفضال لولا فعالهم
درجن فلم يوجد لمكرمة عقب
لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد
وحيد من الأشباه ليس له صحب
به علمت صهب الأعاجم أنَّه
به أعربت عن ذات أنفسها العرب
هو المشهد الفرد الذي ما نجا به
لكسرى بن كسرى لا سنام ولا صلب

٢

وقد امتدت أحقاد ذي قار بين الفرس وبني شيبان خاصة، وقبائل بكر عامة، حتى كان بنو شيبان طلائع الفتح الإسلامي في العراق.

لمَّا عمَّ الإسلام الجزيرة وتوطَّد سلطانه سمع أبو بكر بوقائع سيد من شيبان في سواد العراق فقال: من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟

قال قيس بن عاصم المنقري: «هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد، هذا المثنى، هذا المثنى بن حارثة الشيباني.»

ثم قدم المثنى على أبي بكر يسأله أن يؤمِّره على قومه، ففعل، وكان المثنى من قبل على قومه أميرًا، وبقي من بعدُ أميرًا يستعينه أمراء المسلمين إذا حضروا، ويستخلفونه إذا غابوا، حتى مات بين مآثر مشكورة، ومناقب محمودة، وقد صدق عمر حين سماه: «مؤمِّر نفسه».

ولما اشتدت الحرب في العراق، بعث المثنى أخاه مسعودًا إلى الخليفة يستمده، فأرسل خالد بن الوليد إلى العراق، فلما نزل خالد النباج، كتب إلى المثنى وهو معسكر بخفان ليأتيه، وبعث إليه بكتاب من أبي بكر يأمره بطاعته، قال الطبري: «فانغض إليه جوادًا حتى لحق به.» فانظر إلى الرجولة كيف تسارع إلى الطاعة.

ولما توجه خالد إلى الشام، استبد المثنى بإمرة العراق، وكان بطل موقعة بابل، وفيها قتل الفيل الذي أفزع خيل المسلمين.

قال الفرزدق يعدد بيوتات بكر:

وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة
ببابل إذ في فارس مُلكُ بابل

ثم سار المثنى إلى أبي بكر ليخبره بجلية الأمر في العراق، فوافاه مريضًا قد أشفى، فأوصى أبو بكر عمر، قال: «فإن أنا متُّ فلا تُمسين حتى تندب الناس مع المثنى.»

سار الناس إلى العراق وأميرهم أبو عبيد الثقفي، فلما كانت موقعة الجسر التي زلزل فيها المسلمون، وقطع جسر الفرات وراءهم، فتهافتوا في الماء، وقف المثنى في أنجاد من العرب ينادي: «أيها الناس، إنَّا دونكم، فاعبروا على هينتكم، ولا تدهشوا، فإنا لن نزايل حتى نراكم في ذلك الجانب.»

وحمى المثنى الناس حتى عبروا، ثم خلق المثنى من الفلول المهزومة يوم الجسر نصرًا باهرًا في موقعة البويب، برأيه وسياسته وشجاعته، واحتسب فيها أخاه مسعودًا، ثم تكاثر الفرس عليه، فكتب إلى عمر، فأمره أن يتنحى بالناس حتى يأتيه أمره، ثم أرسل عمر سعد بن أبي وقاص في حشد عظيم، وانحاز المثنى إلى ذي قار، وقدم سعد إلى زرود ينتظر المثنى، ولكن الأسد المرزأ، والمسعر المجرب، انتفضت به جراحات يوم الجسر، فبينما سعد يرجو مقدمه جاءته وصيته تحملها امرأته سلمى وأخوه المعنى.

عمل سعد بوصية المثنى، وأمَّر أخاه المعنى مكانه، ثم تزوج سلمى، وقد شهدت وقعة القادسية، فلما حمي الوطيس، واستكلب الموت على الأبطال، نظرت فلم تجد المثنى يقدم الأنجاد، ويقود الجلاد، فصاحت: «وا مثناه! ولا مثنى اليوم للخيل.»

مات المثنى، وشهد له التاريخ أنه «كان شهمًا شجاعًا ميمون النقيبة، حسن الرأي، أبلى في حروب العراق بلاءً لم يبله أحد.»

٣

فيا شباب بغداد الذين أنشئوا نادي المثنى ليحيوا ذكره، اذكروا فيه الرجولة الكاملة، والشجاعة البالغة، والمجد والسؤدد، والعمل المخلد، اذكروه قائدًا مقدامًا، وأميرًا حازمًا، وسيدًا مطاعًا، وجنديًّا مطيعًا، اذكروه حرًّا أبيًّا، ومثلًا عربيًّا، وخلقًا عليًّا، واستمدوا من ذكراه وذكرى أمثاله أخلاقًا صلبة، تقيكم رخاوة الحضارة، وعزيمة ماضية ترفعكم عن ذل الرفاهية، وتقتحم بكم الأهوال إلى الغاية البعيدة والأمل العظيم.

ثم اذكروا أن المثنى فتح العراق جنديًّا مسلمًا، فاذكروا الإسلام ومجده، واعتصموا بأخلاقه، واستمسكوا بمعاليه، وسيروا قدمًا في عزة العروبة، وهداية الإسلام، وأنتم الأعلون والله معكم.

١  ٩ رجب سنة ١٣٥٤ / ٧ أكتوبر سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤