جلال الدين منكبرتي١

١

سارت جيوش التتار تقذف بالموت والدمار فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ خرت المدائن لصولتهم، فأسروا وقتلوا، ثم سلطوا الماء والنار فأخربوا ودمروا، وانطلقوا في جحافل من السيوف والسهام، والنار والدخان، والدماء والماء، والهول والفزع.

وعلاء الدين ملك خوارزم قد أوقد النار ولم يستطع إطفاءها، وفتح باب الشر ولم يقدر على إغلاقه، لم يُغن جنده، ولم تثبت عزيمته، فما زال يهجر المدينة بعد المدينة حتى اعتصم بجزيرة في بحر الخزر، فهلك بها.

٢

ورث جلال الدين ملك أبيه، وإنما ورث الضِراب والطعان، وعرشًا في أشداق المنون تخاض إليه الأهوال، وتقطع دونه الآمال. لقد ذهب الملك وعلاء الدين معًا، وورث جلال الدين دَين أبيه من الكفاح والنضال، ورث القتال الحاضر، والملك الغابر.

هلم جلال الدين، ادفع عن رعيتك ما لا يدفع، واختر لنفسك وليس في الشر خيار.

هما خُطتا إما إسار وذلة
وإما دم، والقتل بالحر أجدر

تحفز البطل تحفُّز الأسد، وتقهقر ليثب، ولكن المغول كانوا في إثره حيثما سار، يطوون وراءه الليل والنهار، حتى خرج من ملكه، وقارب الهند، وهنالك صفَّ جلال جنده، وهُمْ:

عصابة ليس لهم ديار
إلا ظهور الخيل والغبار

فهزم عدوه الجبار في ست معارك.

يلقى المنية في أمثال عدَّتها
كاليل يقذف جلمودًا بجلمود

ولكن طوفان المغول أعظم من أن تثبت فيه صم الجلاميد، أو يغني فيه العزم المرير والبأس الشديد.

ذلكم جلال الدين على نهر السند، وأولئكم المغول على النهر يكر عليهم كالأسد المحرج، ويصدقهم القتال من الفجر إلى الظهيرة، يموت في يمينه الحسام بعد الحسام، وينفق تحت عزائمه الجواد بعد الجواد، فلما سُدَّت على العزائم سبل النصر، وضاقت بالمجال حِيَل الأبطال، حمل على عدوه فحطمه، ثم انثنى إلى النهر فاقتحمه، والموت خزيان ينظر. تلك لجة النهر تموج بجلال الدين وجنوده، وفوقهم من سهام المغول وابل منهمر، وفي الهمم القعساء تستوي الغبراء والدأماء. أُعجب الأعداء بهؤلاء الأبطال، فوقفوا معجبين ينظرون.

غرق معظم الجند، وخرج البطل ببقايا القتل والغرق ليلقى بهم عدوًّا آخر، فهذا «جودي» أحد أمراء الهند يغير على البطل المرزأ لينفيه من أرضه، وهذا جلال الدين على العلات يصمد للمُغير فيهزمه.

ثم جاء مدد من جنوده فتقدم في أرض الهند، وأقام بها حيث شاء على رغم «قراجة» أمير السند، وإيلتتُمِش أمير دهلي اللذين تحالفا وحالفا عليه الدهر.

وما جهد هذا الدهر إلا هزيمة
إذا نازلت عزم الكرام كتائبه

٣

أتحسب جلال الدين بلغ من الجهد غايته، ومن الجلد نهايته، وقد أعذر إلى المجد والملك والرعية؟ أتحسبه، وقد فقد ملكه جميعه، وهزم في أرض غريبة، تبلد يطلب في فجاج الأرض مفرًّا، أو يلتمس في زواياها مستقرًّا؟ كلا! إنه فقد ملكه ولم يفقد رجاءه، ولا عزمه ولا إباءه. إن له ملكًا وإن يكن في يد العدو الجبار، وإن له عرشًا وإن يكن في ذمة الزمان الغدار. إن أمامه في عراك الخطوب ثماني حجج تطير فيها بين المشرق والمغرب همته، وتنقله من حرب إلى حرب صرامته، ويسلمه من مصيبة إلى مصيبة حظه.

يشق بين الأهوال طريقه إلى كرمان ففارس فأصفهان فالري، ثم يصمد للخليفة العباسي الناصر، فيهزم جنده، ويقتل قائده، ويسوق المنهزمين إلى أسوار بغداد.

ثم يستولي على تبريز، ويجعلها عاصمة ملكه، ويغير على الكرج، فيزيد في أعدائه، كأن أعداءه ليسوا أكفاء نضاله. وبينما هو في تفليس جاءه نبأ هائل، وناهيك بخيانة الأعوان في حومة الطعان: أنبئ أن براقًا الحاجب والي كرمان قد مالأ المغول. فيبادر من تفليس إلى كرمان ليأخذه بخيانته، ثم يرتد من كرمان إلى الشمال ليحارب التركمان والملاحدة، فيهزمهم ويجزيهم بما اقترفوا في غيبته، ويُشرِّق تلقاء دامغان، ليهزم جيشًا من المغول، ويرجع إلى الغرب حين يعلم أن الكرج تألبوا عليه، فيلتقي الجمعان، وتأبى على جلال الدين شجاعته ومضاؤه إلا أن يبارز أبطال الكرج، وقد قتل أربعة من صناديدهم ولاء، ثم حمل على الكرج فهزمهم أجمعين.

٤

هذه سنة سبع وعشرين وستمائة وجلال الدين يعمل ليُؤلِّف بين أمراء المسلمين، ويضرب بهم هذا العدو المدمر، فلا يمهله عدوه فيباغته ثلاثون ألفًا من المغول، فينهزم أمامهم، ولكن ليستولي على مدينة كنجة.

عشر سنين نازل فيها جلال الدين منكبرتي أحداث الزمان مجتمعة، وغلب فيها جهد الأعداء، وخيانة الأصدقاء، وجالد عدو المسلمين، وخليفة المسلمين، وحارب المغول والتركمان والملاحدة والكرج.

أرأيت جلال الدين نجمًا يدور به فلك من الخطوب بين المشرق والمغرب؟ أعلمت أن الرجل العظيم يخلق أحداث التاريخ ولا ينقاد لها؟ إن يكن ما يروى عن جلال الدين مستحيلًا، فكم بين حقائق التاريخ من مستحيل!

غياث الدين أخو جلال الدين يمالئ الأعداء أيضًا! فانظر إلى البطل العظيم عام ثمانٍ وعشرين وستمائة وقد اجتمع عليه الأعداء، وخانه الإخوة والأصدقاء، وناء بقلبه خذلان أعوانه لا بطش أقرانه. ها هو ذا مكتئبًا حزينًا مشردًا يسير في قرى الكرد، ولعله يحاول أن يخلق من عزمه جندًا وحربًا وانتصارًا وملكًا، ولكن رجلًا من الكرد باغته ففتك به.

أتته المنايا في طريق خفية
على كل سمع حوله وعيان
ولو سلكت طرق السلاح لردها
بطول يمين واتساع جنان

ولكن النفس العظيمة التي ملأت العدو والصديق هيبة وإعجابًا لا تموت بموت الجسد، فقد أكبر الناس أن يموت البطل الذي غلب الموت في كل معترك، فبقوا أكثر من عشرين عامًا يتحدثون أن بطلهم حي، وأنه ظهر في هذا المكان أو ذاك، بل حاول بعض الناس أن يلبسوا عظمته، ويحملوا اسمه، فناءوا بالعبء، فأخذهم المغول بغير عناء.

يا شباب الشرق، قلبوا صفحات مجدكم؛ فإن أعظم المصائب أن تُمحى ذكرى الآباء من صدور الأبناء، وإن لكم في جلال الدين لعبرة.

١  ٢٠ ذو الحجة سنة ١٣٥١ / ١٥ أبريل سنة ١٩٣٣.
جلال الدين خوارزم شاه بن محمد علاء الدين، السابع من ملوك الدولة الخوارزمية، تولى الملك بعد أبيه سنة ٥٨٠، وقتل سنة ٦٢٨ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤