مدرسة الصحراء١

قرية ذات نخيل قامت في الصحراء كالأمن بين الخوف، والأمل بين اليأس، والحياة بين الموت، تهوي إليها أفئدة سالكي الصحارى، فيجدون من الظلال والمياه ما يمسح عنهم الجهد والنصب، ويطفئ فيهم العطش والصدى.

لمَن هذه القرية المباركة؟ مَن القوم قد اجتمعوا فيها على أمر جلل، وأمل بعيد، وغاية سحيقة، قد اعتزموا اقتحام الصعاب، ومجالدة الأهوال، وتحدثوا بقلب العالم رأسًا على عقب؟

مَن هؤلاء التلاميذ الذين أنبتتهم الصحراء، وأخلصهم ماؤها وهواؤها، وشمسها وهجيرها، وبردها وزمهريرها، فكانوا كروضة الحزن سقاها الحيا، وأنضرتها الشمس والريح، في قنة لا عهد للأنيس بها؟ مَن هؤلاء العرب قد جلسوا في أسمالهم، وأصغوا إلى معلمهم، يأخذون الحكمة، فتمكن من سرائرهم، فإذا هي خلق وسجية، وإذا هي الأمل والعمل، وإذا هي سعادة الأولى والآخرة؟

وعجبًا لقوم ضعاف فقراء يتهيئون لما لا قبل لهم به! يريدون أن يكونوا أساتذة العالم وسادته؟ ولولا كرم في نفوسهم، وحكمة في أفعالهم لقُلْنا: بهم الطيش والغرور.

إن الإنسان ليقف في أمرهم بين الإعجاب والسخرية! دعهم في قريتهم، وتَنَظَّر الحوادث تأخذ مجاريها، ثم انظر إليهم بعد أعوام تر التلاميذ الضعاف قد أخذوا كتابهم وسيوفهم، واستووا على صهوات خيولهم، وتطاولوا إلى هداية العالم كله، وحكم الناس أجمعين! دعهم في آمالهم البعيدة، وأمانيهم العظيمة، ثم أبصرهم بعد سنوات قليلة وقد خفقت أعلامهم في مشرق الشمس ومغربها، ودان لهم كل طيِّع وعصي، وإذا العالم ملؤه الإعجاب والخوف والمحبة والفزع، وإذا هم شرر قد انبعث فأصاب الفِطَر الصالحة، فكان نورًا، وأصاب النفوس العليلة، والأخلاق السقيمة، فكان في هشيمها نارًا! ثم انظر إليهم فإذا بهم على العرش قد ورثوا ملك الأرض، وأحسنوا السياسة، وقادوا الناس بالحسنى، ثم دفعوهم إلى الخير، وهدوهم إلى الإحسان! وإذا صفحة من الإحسان ليس للناس بها عهد من قبل، وإذا كتاب في تاريخ المدنية لم تقو على فصوله من قبلهم أمم الأرض قاطبة.

أنبئني كيف وسعت القرية الصغيرة أرجاء الأرض؟! وكيف عمر العدد القليل نواحي العالم؟! وكيف بلغ هؤلاء الضعفاء آمالهم؟! وكيف كان التلاميذ الفقراء، كما أرادوا، أساتذة العالم؟!

فكر جهدك، فلن تجد أساطيل ولا جحافل، ولا طيارات ولا غواصات، ولا معامل ولا مصانع، ولا كتبًا وأسفارًا يضيق بها العد، ولا أنت واجد شيئًا مما يبهر من جبروت الحضارة وزخرفها!

ما الذي خلق من القلة كثرة، ومن الضعف قوة، ومن الذل عزًّا، ومن الموت حياة، وأخرج من الصحراء شرذمة كانت أعظم مَثَلٍ في العظمة والعدل والإحسان والعلم والحضارة؟!

فتِّش ما استطعت، وفكِّر ما قدرت، وقلِّب حوادث التاريخ كما تشاء، فلن تجد إلا شيئًا واحدًا، وأمرًا فذًّا، لن تجد إلا سرًّا إليه مرجع كل ما عرفت، وعمادًا استقل بكل ما وصفت: الإيمان المتين، والخلق الصالح. إن في ذلك لعبرة.

١  ربيع الأول سنة ١٣٤٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤