يا رب رحماك١

سجا الليل، وخفتت الأصوات، وأوت الطير إلى أوكارها، ولجأ كل حي إلى مأواه، وانبعثت بالإنسان أوصابه وهمومه، وأفراحه ومآربه، في شتى المذاهب.

أقلب الطرف بين الأرض والسماء، وأجيل الفكر في الغابر والحاضر، وأبعث إلى نفسي بالسؤال بعد السؤال، فتجيب كل سؤال بمثله، وتشرح كل معضلة بأعضل منها، فإذا أنا باكٍ على الناس، راثٍ لهم، وإذا لساني يضطرب بهذه الكلمات:

رحماك يا رب للفقير الكادح يقض عليه مضجعه ألم يومه، ووساوس غده، وتسلمه هموم النهار إلى المرقد، فإذا هو شقي في مرقده، يثير أشجانه مرأى أطفاله في ألوان من الفاقة، يضاحكهم وقلبه باكٍ، ويبش إليهم وفؤاده شاكٍ.

رحماك يا رب للأغنياء البخلاء، بين تخمة أمعائهم، وشره أيديهم وأفواههم، وفظاظة قلوبهم، وغفلة نفوسهم، حين يتقلبون في النعيم مترفين فكهين، ضاحكين مستهزئين، لا يبالون ما على الأرض من بؤس، وما بين الجدران من آلام. رب رحماك لهم فإنهم وجدوا كل شيء وفقدوا أنفسهم.

رب والعابد الصاف في جوف الليل، هجر الناس ولجأ إليك، ونفر منهم وأنس بك، أنزِل عليه السكينة والطمأنينة، وأضِئ له السبيل إلى جنابك المقدس، ومهِّد له الطريق إلى حرمك الأمين.

رب والعاصون الغارقون في آثامهم، الجائرون في ضلالهم، وكل ذي ذنب طبعت به نفسه، ودنس به قلبه، وعمي به بصره. رب هم أحوج الناس إلى رحمتك، وأولاهم بهدايتك، أنقِذهم من ورطاتهم، ونقِّهم من أرجاسهم، هم أطفالك العرمة، وعبادك الغافلون، وعبيدك الآبقون، وأنت أنت ولي إرشادهم، والقادر على إسعادهم.

رب والمرضى تبرح بهم الآلام، وتبريهم الأسقام، أدركهم برحمتك الواسعة، وأغثهم برعايتك، إنك أنت الرحيم.

ثم المحزونون على حبيب مفقود، أو قريب مفتقد، تتقطع قلوبهم زفرات، وتذهب أنفسهم حسرات، بين الماضي وذكرياته الفاجعات، والمستقبل وآماله الضائعات.

وكل ذي غم يضطرب في بحر من الآلام والأحلام، وخيالات من الموت والحياة، تذهب زفراتهم مع الرياح، ودموعهم مع الأنهار، وتدور بهم الهموم، فنومهم سهاد، ويقظتهم رقاد. قد انبهمت عليهم أمورهم بين اليأس والأمل، والظن واليقين، كالغريق يغشاه موج من فوقه موج. رب فاهدهم إلى ساحل النجاة، وأطلع عليهم نجمك الهادي في الظلمات، وأرسل عليهم روحًا من رحمتك، ومد عليهم ظلًّا من عنايتك.

رب والشريف الذي تقهقرت به الأيام، وكلب عليه الزمان، تدفعه الحاجة، وتمنعه العزة، وتَدُعُّه الفاقة، وتُمْسكه الأنفة، فهو غني النفس فقير اليد، كلما نسج على نفسه سترًا من التعفف والتجمل مزقته يد الزمان العاتية، وكلما تجلد أنحى الدهر على تجلده، يثور في قلبه الذل والكبرياء، والعز والهون، فهو بين طموح نفسه وهوى الحادثات به أشقى الأشقياء، معذب اليأس والرجاء.

رب والراكبون البحر على غواربه الجائشة، وثبجه الهائل، ولجه الذي يلقى كل عين بهولها، وكل نفس بصورة حتفها، فإذا أظلم اليم طغى الماء، وصرخت فيهم الريح الهوجاء، ففي رحمتك نور الظلماء، وسكينة الماء، وهدوء العاصفة الهوجاء.

وسالك البيداء ضلت به الطريق، وانبهم عليه المذهب، لا يدري أيقف على قبره، أم يسير إلى قبر أمامه؟ فإذا الصحراء كلها قبر واسع، يهرع إلى الشراب من خُدع السراب، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت. انصبْ له في البيداء منارك، وابعث له من هدايتك دليلك.

رب حتى النبت الذابل، والشجر المصوح، والأرض الماحلة، أسْبِل عليها غيثك، وأنزِل إليها الحيا بفضلك.

اللهم قلوب ملؤها الرجاء، ونفس تحن إلى الورد وهي ظماء، وأيد مبسوطة إليك وهي من الثقة ملاء، وأعين ناظرة إليك وأنت لها ضياء، فلا تردها خائبة، ولا تزدها حسرة على حسرة. رب كيف يُحرم شجرك الذي غرست، وزرعك الذي زرعت، من غيثك المدرار، وشمسك الساطعة؟ ومَن يصد دنس الخلائق أن يرد نهرك فيطهر، ويسبح في حوضك الكوثر؟

يا سامع خفقات القلوب الحزينة، وزفرات الصدور الكليمة، وعالم نزعات القلوب الضالة، وجمحات الأهواء المردية، لا تدع قلبًا خائفًا إلا أمَّنته، ولا صدرًا زافرًا إلا روحت عنه، ولا عقلًا ضالًّا إلا هديته، ولا هوى زائغًا إلا رددته حكمةً ورشدًا.

اللهم عجز الفكر، وعي اللسان، ووقف القلم، ولا تزال ساحات الرحمة لا يدركها نظر، ولا يحيط بها فكر، ولا يسطرها يراع، وقد فررنا من خوفك إلى رجائك، ومن عذابك إلى رحمتك، ومن جبروتك إلى لطفك، ومن سخطك إلى رضاك، ومن حرمانك إلى نيلك، ومنك إليك. أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت بكل شيء عليم.

١  من قطعة طويلة كتبت في لندرة في ٩ يوليو سنة ١٩٢٥م. وأحسب أن قصيدة فكتور هيجو المسماة الدعاء للكافة La Priere Pour tous أوحت موضوع هذه القطعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤