الإسلام

بعد ١٣٥٥ سنة

مضت خمسة وخمسون وثلاثمائة وألف عام منذ هاجر الرسول وأصحابه إلى المدينة. طوى التاريخ خمسًا وخمسين وثلاثمائة وألف مرحلة منذ خرج محمد وأصحابه يحملون دعوة التوحيد والأخوة، وكلمة الحق والعدل والحرية.

ركم الزمان على عام الهجرة ثلاثة عشر قرنًا ونصفًا، وما زال يخرق الحجب نوره، ويلوح من خلال الأجيال سناه.

مضت أربعة عشر قرنًا في جزر التاريخ ومدِّه، وغِيَر الدهر وخُطوبه، قامت دول وزالت دول، وقويت أمم وضعفت أمم، وحييت مذاهب وماتت مذاهب، والأرض ترجف باعتراك البشر واحتراب الأديان، وتدوي بالآراء تتصادم، والأفكار تتقاتل، ومن وراء هذا خلق يغلب خلقًا، وسُنة تميت سُنة، وآية تنسخ آية، وأثر يعفِّي على أثر.

فأين الإسلام اليوم من مبتدئه؟ أين بلغ المسلمون بعد أربعة عشر قرنًا؟ قال كاتب أوروبي منذ سنتين: إن دعوة الإسلام قد انتهت، وإن الإسلام وهن ولم تبق فيه قوة تحرِّك الأمم وتُسيِّر الأجيال.

أحقٌّ أن الإسلام قد انتهت دعواته، ودرست آياته، ولم تبق إلا أسماء وأوهام، ورسوم وأعلام؟ هل الإسلام اليوم لا تنبض به القلوب، ولا تمضي به العزائم، ولا يقيم المُثل العليا للعمل في هذه الحياة؟ أصار الإسلام تاريخًا دابرًا، وانقلب مجدًا ماضيًا؟ هل طفئت النار، وأقوت الديار؟

ما هي دعوة الإسلام؟ دعوات ذات شعب تنتظم العقائد والأعمال، وتهيمن على العقل والقلب، وتحيط بالجماعة من أقطارها، وتشمل الأمم جميعها، ولكنها في أصولها ترجع إلى أمرين: التوحيد، توحيد الله وتوحيد النفس، بتخليتها من الأوهام المتنازعة والخرافات المتهافتة، وإقامتها على طريق بينة لا حيرة فيها ولا ضلال، ثم توحيد الأفراد في الجماعة بالعدل الشامل والتسوية التامة، وإعطاء كل ذي حق حقه، لا عبد ولا حر، ولا سائد ولا مسود، ولا رفيع ولا وضيع، ثم توحيد الجماعات فلا شرقي ولا غربي، ولا عربي ولا عجمي.

والأمر الثاني: العمل الصالح: أن يسير الفرد والجماعة والأمم إلى الخير، أن يجاهدوا لإقامة الحق وهدم الباطل، ونشر العدل ومحو الجور، أن تمتلئ القلوب نارًا تحفزها للعمل، ونورًا يهديها السبيل، وأن تسمو النفوس عن الصغائر والدنايا، وتطهَّر من الأحقاد والضغائن، وتتحرر حتى تأبى على القيود، وتتسع على الحدود، وتنطلق في الكمال إلى أبعد غاية.

فهل انتهت هذه الدعوة الإسلامية؟ هل أظلم قلب المسلم؟ هل ذلَّت نفسُه؟ هل ذهب الخنوع بآماله؟ هل رده الدهر إلى الصغار، وأنزله اليأس إلى القرار؟ هي يئس المسلم من السيادة، ورأى أن يُسلِّم قياده؟

كلا، كلا، إن في الإسلام من المُثل والأخلاق والفضائل والعزة والإباء والسمو والتاريخ الوضاء ما يملأ المسلمين حياة وآمالًا وطموحًا واعتزامًا. لم تنته دعوة الإسلام ولكنها اليوم تقوى وتعظم، وقد تهيأ الزمان لها، ومهدت الحادثات سبلها. بدأ الإسلام دعوته منذ أربعة عشر قرنًا، ولكنها لم تبلغ غايتها، وأجدر بها اليوم أن تبلغها.

ما تزال النفوس الإنسانية طماحة إلى السمو، نزاعة إلى الخير، مفعمة بحب الحق والعدل، تواقة إلى الأخوة والحرية، فلن تقف دعوة الإسلام.

ما يزال المسلم الحق يرى نفسه خليفة الله في الأرض، مكلفًا أن يقيم العدل بين الناس، موكلًا بنصرة الخير ومحاربة الشر، أنَّى كان ومتى استطاع. كل الأرض داره، وكل الزمان وقته، فلن تقف دعوة الإٍسلام.

ما يزال المسلم ينطوي على عزة تقهر الخطوب، وأمل يغلب الزمان، ونفس لا تسف، وقلب لا يذل، وما تزال سيرة محمد في عقله وقلبه، ولا يزال مجد الإسلام ملء جوانحه، ولا تزال كلمة الحق والعدل ملء ضميره، فلن تقف دعوة الإسلام.

إن دعوة الإسلام لا تقف حتى يموت الخُلق العلي، والقلب الأبي في نفوس البشر.

وقل للذين يزعمون أنهم حماة الإسلام:١ ما أذل الإسلام إن ابتغى في غير أولاده حماة! وما أذل المسلمين إن رضوا بغير حماية الله! يا حسرة على الحق إن التمس من الباطل حاميًا! ويا خسران العدل إن ابتغى من الظلم واليًا! وويل لورثة محمد إن لم تحمهم سيرة محمد وخلفائه ومن أنجبتهم العصور من أئمته وأبطاله!

إن في دين المسلم، وإن في قلب المسلم، وإن في خلق المسلم، ما يربأ به عن كل دنية، ويصمد به إلى كل هول، ويثبِّته في كل كارثة، ويسمو به إلى مقصد جلل.

أيها الحماة الأبرار! لقد أدرتموها على المسلمين حربًا طاحنة في المشرق والمغرب، وغزوتموهم بالسلاح والفتنة والفِرية، وكِدْتُم لهم في السر والعلانية، واستبحتم فيهم كل منكر، حتى إذا ظننتم أنهم هانوا وذلوا، ويئسوا وملوا، قلتم: هلم أيها الضعفاء، فنحن الحماة الأقوياء!

أيها الحماة! شدَّ ما قسوتم على المسلمين ثم شدَّ ما رفقتم بهم!

أيها الحماة! لقد تعلمون أن بضعة ألوف من بني الإسلام ثبتوا لكم، وسخروا بقواكم وفنونكم، وأساطيلكم وجيوشكم وطياراتكم أكثر من عشرين عامًا، ولم يكن سلاحهم إلا عزة الإسلام ومجد الإسلام.٢
سلاحهم عزيمة الجهاد
وقوتهم ما سلبوا الأعادي
يصابرون الأكبد الصوادي
ويأكلون الجوع في البوادي
قد يئسوا يأسًا من الأمداد
إلا ثبات القلب في الجلاد
ونصرة الرحمن للعباد

•••

أبت لهم كرامة الإسلام
أبى إباء العرب الكرام
أن يسلموا الأوطان دون الهام
مُنيتهم مشارع الحِمام

فلما تكسر في أيديهم كل سلاح، وأعوزهم كل قوت، وضاق على عزائمهم كل مجال، خرجوا من ديارهم أنفة أن يروا الصغار في الديار، وإباء أن تجمعهم والمذلة أرض، وهم اليوم مشردون في الأقطار، قد نالت الخطوب من أموالهم ونعيمهم ودِعتهم وجسومهم، ولم تنل من أنفسهم، فكل منهم عَلَم جهاد، وصحيفة فخَار، وسجل مآثر، وشهادة ناطقة بما تتجاهلون من العزة الإسلامية، والأنفة العربية.

ألا إن الإسلام لم تنته دعوته ولم تضعف كلمته، وسيبقى كلمة الله في الأرض، ودعوته إلى الحق، وحجته على الخلق، في أمره بالتوحيد والأخوة والحرية، والعمل في الحياة على أقوم السنن، إلى أكرم الغايات.

ألا إن الإسلام دعوة إلى الحياة لا تموت، ودعوة إلى الحرية لا تُستعبد، ودعوة إلى العزة لا تذل، ودعوة إلى العمل لا تفتر.

ألا إن الإسلام دعوة إلى السلام والإخاء، وإلى الصدق والوفاء، فإن دارت به الأكاذيب، واجتمعت عليه الأباطيل، وسيم الهوان، وقوبل بالعدوان، فهو دعوة إلى العزة والإباء، والصبر على اللأواء، والموت في سبيل الحق، والخلود من وراء الموت.

١  روي عن موسوليني يومئذ أنه قال: إنه حامي الإسلام أو المسلمين.
٢  أعني مجاهدي طرابلس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤