تأسيس (٢)

لكن يظل التساؤل: وما الدَّاعي لبحثنا هذا؟ ومن ثَمَّ نرصد مزيدًا من الدواعي والدوافع، فرغم الاختلافات بين التوراة «المسلَّم بها من جانب المسيحيين كمقدس» وبين الإسلام؛ فإننا نجد الأديان الثلاثة «اليهودية والمسيحية والإسلام» في جانبٍ، وعلمَ التاريخ في جانبٍ آخر؛ حيث نجد هذا العلم لا يَعلم من وثائقه الأركيولوجية والآثارية شيئًا البتةَ عن النبي إبراهيم، ورغم اتِّفاق القصة التوراتية مع قِصص الإخباريِّين المسلمين حولَ موطن النبي إبراهيم الأصلي، والتي تقول: إنه هاجر من موطنِه الأصلي في بلاد الرافدين إلى فلسطين، وأنه زار مصرَ زيارة مهمة وخطيرة، و«كانت هذه الزيارة لمصر أساسًا للثروة الطائلة التي تمتَّعتْ بها ذريتُه فيما بعد» فيما يقول المستر «ماير»، فإنه لم يعثُرْ حتى الآن على أيِّ دليلٍ آثاري، سواء كان كتابة أو نقشًا، أو حتى نقش يقبل التفسير، أو في نصوصٍ تقبل — حتى — التأويل يمكن أن يشير إلى النبي وقصتِه سواء في آثار وادي النيل، أو آثار وادي الرافدين، على كثرة ما اكتشف فيهما من تفاصيل ووثائق.

وهذا بدوره سبب كافٍ لدعم دوافع باحث مهتَمٍّ، كي يضعَ المسألةَ كلَّها قيدَ البحث، خاصةً أن عدم معرفة علمِ التاريخِ بهذا النبيِّ رغمَ حضوره الكثيفِ في الديانات الثلاث، قد أدَّى ببعض الباحثين إلى حسبانه شخصيةً أسطورية، لا تمتُّ لعلم التاريخ بِصلة، حتى إنَّ هذا البعض قد احتسب جميع قصص البطاركة القدامى مجرد قصصٍ خرافية لا ظلَّ لها من حقيقة، وقام منهم من يدلل على أن أسماء هؤلاء إنما كانت أسماءً لشخصياتٍ إلهية في عبادات قديمة، وأن أساطيرها كانت مُتداولة قبل التوراة في القصص الأسطوري لبلاد كنعان، وأن العبريين عندما جاءوا أرضَهم وورثوها، ورثوا معها تراثها، فوجد هذا التراث طريقَه إلى التدوين في التوراة، كقصصٍ لأنبياء بني إسرائيل. بينما يشير آخرون بخصوص النبي إبراهيم إلى أسطورةٍ باسم «براما» كانت واسعةَ الانتشار قبل ظهور العبريين، وعُرفت في بلاد إيران والهند وما حولها، وأنها أصل عقيدة «براهما» الهندية، وأن العبريين بدَورهم قد تبنَّوا هذه الأسطورة وحوَّلوها إلى شخصيةٍ إنسانية، واحتسبوا «براما» جدَّهُم البعيد، تأسيسًا على منهج التديُّنِ القديم، القائم على تقديس الأسلاف.١
وكان عدم وجود الدلائل التاريخية مدعاةً لأن يقول باحثٌ مثل «فلهلم رودلف»: إنَّ حفاوة القرآن الكريم بالنبي الخليل ترجع إلى محاولة النبيِّ محمد تألُّفَ قلوب يهودِ يثربَ مع القوة الإسلامية الطالعة. وعندما فشلت المحاولة، أخذه من الجميع عَنوة واقتدارًا، وزعم أنه جدُّه البعيد، وجد جميع العرب المسلمين ومؤسس العقيدة الإسلامية.٢ ولعلنا لم نزلْ بعدُ نذكر تلك الضجةَ الكبرى التي ثارتْ حول ما كتب عميد الأدب العربي «طه حسين»، ويشبه إلى حدٍّ بعيدٍ ما ذهب إليه «فلهلم رودلف» حيث يقول: «للتوراة أن تحدِّثَنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا أيضًا، لكن ورود هَذينِ الاسمين في التوراة، لا يكفي لإثباتِ وجودِهما التَّاريخي، ونحن مضطرون إلى أن نرى «في هذه القصة نوعًا من الحِيلة، في إثبات الصلة بين اليهود والعرَب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى» …»٣

والآن: هل لم يزل ثمةَ مدعاة للتساؤل حول جدوى بحثِنا هذا؟ … ولعل التساؤل حول الجدوى، تلحقه اعتبارات تقلِّلُ من قيمة البحث ونتائجه، تأسيسًا على عدَم وجودِ أية مصادر تاريخية تشير إلى إبراهيم، سواء في مِصر أو الرافدين، ومن ثمَّ ستكون أيةُ محاولاتٍ هي مجرد تخمينات وافتراضات تنتهي بدعم أولئك أو هؤلاء. حقيقة نحن مضطرون هنا إلى الاعترافِ بعدم وجود الأدلة المباشرة، مما سيلجئنا إلى استخدام كلِّ ما يخدم بحثَنا من مناهج، والتعامل مع النصوص بأسلوب التحرِّي والمباحثية؛ لتجميع ما يلزم من قرائن، يمكن إذا تجمعت أن تكتسبَ ثقل الأدلة التي يمكن أن تدلنا على الطريق القويم والنتائج الأقربِ إلى الصدق.

وهنا ستجدنا مضطرين إلى اللجوء للتوراة الحاليَّة «ولا مفرَّ» وكتب التراث الإسلامية، إضافةً بالطبع إلى القرآن الكريم والحديث الشريف. وإن لجوءَنا للتوراة قد يلقَى الاعتراض من بعض المهتمين، لكنَّ لذلك أسبابَه ووجاهته التي ستتضح في حينِه. علمًا أن التوراة — بعكس القرآن الكريم تمامًا — فهي كتابٌ في التاريخ في المقام الأول، وكتاب في الدِّين في المقام الثاني (مع ملاحظة أنَّ هذا التاريخ قد تمتْ صياغته وفقَ أهداف أصحابِه وخططهم)، حتى إن التاريخ يشكل — دون مبالغة — أكثرَ من ثمانين بالمائة من مجموع صفحاتِ العهد القديم المكتظِّ بالأسفار، وتزيد صفحاته على ألف وثلاثمائة صفحة. أما بالنِّسبة لكتب الأخبار الإسلامية، فقد لجأتْ لذات التوراة الموجودة بين الأيدي اليوم، واستقت منها تفاصيل هائلة كمًّا وكيفًا، بحيث أصبحت هذه التفاصيل مرجعًا إسلاميًّا للمسلمين، لورودها في أمهات الكتب الإسلامية وتشكِّل كمًّا هائلًا داخلَ هذه الكتب.

وقد أدرك زعيمُ طبقة كتاب الأخبار والسير «الحافظ ابن كثير الدمشقي» حساسيةَ الأمر، ومع ذلك اعتمد كثيرًا من الأخبار التوراتية، لذلك نجده يبدأُ مقدمةَ مؤلَّفه الموسوعي «البداية والنهاية» بتقديم مبرِّرات الاعتماد على الإسرائيليات، فيقول:

«ولسنا ننقل من الإسرائيليات إلا ما أذِنَ الشارع في نقلِه، مما لا يخالفُ كتابَ الله وسنة رسوله وهو القسم الذي لا يصدَّق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا، مما لا فائدة في تعيينِه لنا، فنذكره على سبيل التحلِّي به، لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتمادِ عليه.»

ثم يدلي «ابن كثير» بسنده الشرعي للأخذ من التوراة، حتى لا يقعَ عليه لومٌ أو تثريب، فيورد حديثَ النبي محمد :

«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وحدثوا عني ولا تكذِبوا، ومَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متعمدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.»

ثم يعقِّب على الحديث بالقول:

«فهو محمول على الإسرائيليات المسكوتِ عليها عندنا، فليس عندنا ما يصدِّقها ولا يكذِّبُها، ويجوز روايتُها للاعتبار، وهذا هو الذي نستعملُه في كتابنا هذا.»٤

وهكذا يعي «ابن كثير» حجم المعارضة التي قد يلقاها من المسلمين نتيجةَ لجوئه إلى الإسرائيليات، فيقرِّرُ — بداية — للجميع أنَّه لن ينقل منها إلا ما وافق الشرع، ولم يخالف الكتاب والسنة، ثم يصفُ ما حشا به مُؤلَّفَه الهائل من إسرائيليات، بأنها — نعم — وردَتْ في التوراة، لكن لم يصدر بشأنها حكمٌ إسلامي بالصِّدقِ أو الكذِب، ولعلَّ «ابن كثير» كان واضِحًا تمام الوُضوح، وصريحًا كلَّ الصراحة، وهو يورد الأسباب التي دعَتْه للأخذ بالإسرائيليات، وهي أولًا: أنه قد جاءَ في الإسلام أمورٌ مختصرة تحتاج لمزيد شرحٍ وتفصيل «مما فيه بسط لمختصر عندنا»، وثانيًا: إعطاء الأسماء والإيضاحات لأمورٍ وردتْ في الشَّرْع الإسلامي، لكنها غير مفهومة «تسمية لمبهم ورد به شرعنا»، أما لماذا كانت مبهمة وغير مفهومة في الإسلام؟ فهو ما يجيب عنه بالقَولِ: لأنه «لا فائدةَ في تعيينها لنا»!

وهنا نقفُ مندهشين من أمر هذا الكاتب الجليل، فإذا كان القصدُ من شرعنا في اختصاره وإبهامه أنه لا فائدةَ من تعيينه لنا، وكانت تلك قاعدة، فلماذا إذن تجاوزَها ابنُ كثير الدمشقي وصحبُه، ومن ضرَب في دَرْبِه من الإخباريين المسلمين وهم كثير؟! الأمر إذن ليس بقاعدة دائمةِ الحضور، ولا ريبَ أنه بعد مرور ستَّة قرون منذ زمن النبي محمد وحتى عصر ابن كثير، كانت كفيلة بظهور إشكاليات لم توجَدْ زمن النبوة، ومن هنا احتاجتْ طبيعة المجتمع الجديد إلى تفصيلِ المختصر وبسط المبهم، ولا ينسى الحافظُ ابن كثير أن يشير بحذَرٍ واضح إلى أن التَّفاصيلَ المأخوذة من التوراة إنما جاءَتْ «على سبيل التحلي بها لا على سبيل الاحتياج إليها»، بينما الواضح أنه قد أورد مقدِّمًا أسباب هذا «الاحتياج إليه» وظروفَه، خاصةً أنه لجأ إلى حجة أخرى غير مجرد التجمُّل والتحلي، فيقول: إنه لجأ إلى إسرائيليات مسكوتٍ عنها في الإسلام، ولم يصدُرْ بشأنها قرار واضح المعالم، لذلك وجبتْ روايتها «للاعتبار» والاعتبار يعني الفائدة الحكمية منها، وأخذ العبرة والعظة، إضافة إلى ما يحمله تعبير «الاعتبار» من معنى عدَمِ الإهمال والتغاضي عنه، والإقلال من شأنه.

وإذا كان عصرُ ابن كثير بعد ستةِ قرون من النبوة قد اضطرَّه إلى اللجوء للتوراة، فإن عصرنا بعد أكثر من أربعةَ عشر قرنًا «قد أصبح يحتاج إعادة نظر في الأمر برُمَّتِه»، وبخاصة في إسرائيليات التراث الإسلامي، التي كانت توراتيةَ الأصل، وأصبحت منذ عهد الإخباريين المسلمين تراثًا إسلاميًّا بَحتًا.

وإعمالًا لكل ذلك، فإن لجوءَنا للتَّوراة، لبحثِ الإشكاليات المثارة في بحثِنا هذا حول النبي إبراهيم عليه السلام، والتي ربما كانت التَّوراة ذاتها سببَ إثارَتِها الأساسي، ليس ابتداعًا من جانبنا لجديد، لكن الرجوع من جانبنا للتوراة، لن يكون لمجرَّد التحلِّي بها، فهي في بحثنا هذا طرف جدلي يسبب إثارة المشكلة، ويشارك في حلِّها ولو مُضطرًّا، مع الاستعانة بكتبِ التراث الإسلامية، التي لم تكُنْ بالطَّبع مجرد تابعٍ أمين للتوراة، إنما خالفت هنا، وقالت كلمتها هناك، كما أنه قد وَرَد عند الإخباريين المسلمين ما نزعم أنه ليس مجردَ أساطير الأولين، ومخاريق الأقدمين، بل فيه للباحث المدقق إشاراتٌ واضحة إلى سُبل عدَّة، يمكن لو استقرأها واستشرفها أن تهدي إلى إضاءاتٍ وكشوف، شرط الالتزام بصرامة شروط المنهج العِلمي، وما تفرضه من وجوب محاكَمة النصوص محاكمة عادلة؛ ليتمكن في النهاية من استصفاء ما يتفق ومنطق الحدث، وزمانه ومكانه وظروفه.

ولا نزعم هنا قدرةَ حل جميع الإشكاليات المطروحة، إنما سنحاول فقط. وربما أثرنا أثناء البحث إشكاليات جديدة، لكن بحثَنا هذا على أية حال، هو توجيه — في المقام الأول — إلى بابٍ حانَ وُلوجُه، ووجب أن يقوم له فرسانه من الباحثين، وهم لا شكَّ كثيرون. وربما قبل ذلك نبهونا إلى أننا قد أصَبْنا هنا، أو أخطأنا هناك، وربما وافَقَنا البعضُ، وربما خالفنا الكثيرون، لكن الذي لا خلافَ حوله، أنه في ساحة البحث العلمي مُتَّسعٌ للجميع.

١  عصام الدين حفني ناصف: اليهودية بين الأسطورة والحقيقة، دار المروج، بيروت، ١٩٨٥م، ص١٣١، ١٣٢.
٢  د. فلهلم رودلف: صلة القرآن باليهودية والمسيحية، ترجمة عصام الدين حفني ناصف، دار الطليعة، بيروت ط٢، ١٩٧٤م.
٣  طه حسين: في الشعر الجاهلي، دار الكتب المصرية، ١٩٢٦م، ص٢٦.
٤  الحافظ ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق مجموعة من الأساتذة، دار الكتب العلمية، بيروت ط٤، ١٩٨٨م، ج١، ص٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤