الرحيل جنوبًا

وخرَج النبيُّ إبراهيم عليه السلام من مصر.

وتتابع التوراة روايتها عن رحلات الخليل، فتقول:

صعد إبرام من مصر وامرأته، وكل ما كان له، ولوط معه «إلى الجنوب»، وكان إبرام غنيًّا جدًّا في المواشي والفضة والذهب، وسار في رحلاته من الجنوب إلى بيت إيل، إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة.

تكوين ١٣: ١–٣

ولنتذكر قول التوراة: «أراميًّا تائهًا كان أبي» (تثنية ٢٦: ٥)، فهو ما لا يجب أن ينساه اليهودي عن جدِّه إبراهيم: «أراميًّا تائهًا» كان أبي! والمتأمِّلُ في سيرة النبي إبراهيم التوراتية يستشعر مدَى صِدق هذا الوصف وحال النبي، فمن الواضحِ في إصحاحات التكوين، أنه لم يستقرَّ زمنًا في مكان واحد، وكلما أناخ في موطن بنى مذبحًا لربه، أو بالتعبير المتواتر في التوراة «فبنى هناك مذبحًا، ودعا باسم الرب».

وعلى الطرف الآخر نجد كتب التراث الإسلامية تصرُّ من جِهَتِها على علاقةٍ وطيدة للنبي إبراهيم بجزيرة العرب، وأنه جدُّ النبي محمد عبر إسماعيل، وأن إبراهيمَ وولدَه إسماعيل من بناة الكعبة الحجازية البيت الإلهي الذي قدَّسَه العرب قبل الإسلام بزمانٍ، وهو مما يثير أمامنا الإشكالَ من جديد حول الأصل الآرامي للنبي إبراهيم بعد أن أغلقناه، حيث سنجد احتمالًا آخر للآرامية في الجزيرة العربية، ورغم أنَّ التوراة لم تأتِ بذكرٍ واضح لرحلة قام بها إبراهيم لجزيرة العرب، ورغم أن التراثَ الإسلامي لم يحاولْ نسبةَ الأصل الإبراهيمي لجزيرة العرب إنما عده وافدًا وزائرًا، فإنَّ الإشكاليةَ تظهر فيما تمدنا به وثائق التاريخ العربي، حيث نجد تقسيمًا — لا شك لم يأت من فراغ — للعرب إلى: عرب عاربة بائدة، وعرب مستعربة باقية، وكان أشهر العرب البائدة أهل «أرم»، حتى صار اسمهم علمًا على العرب البائدة فعرفوا بالأرمان.

وقد ذكر «حمزة الأصفهاني» في تاريخِه: أن العرب العاربة عشرة: عاد وثمود وطسم وجديس و«عماليق» وعبيل وأميم ووبار ورهط وجاسم وقحطان، فكانت هذه الفرق تؤرخ بسني إرم، إلى أن بادت كلها الواحدة إثر الأخرى، وبقي منهم بقايا يسيرة، وكانوا يسمون الأرمان،١ وقد فسَّرَ المسعودي سببَ إطلاق التسمية «أرمان» على مُجمل العرَب البائدة في قوله: «إنما سموا بذلك لأن عادًا لما هلكت قيل لبَقاياها إرم، فلما هلكتْ ثمود قيل لبقايا إرم أرمان»،٢ وقد احتسبنا العرب البائدة من العرَب العاربة، أو أن العاربة بعض البائدة استنادًا لابن خلدون الذي استخدَم كِلَيهما بمعنى واحد، فقال: «إن العربَ العاربة شعوب كثيرة، وهم: عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل و«عبد ضخم»، وجرهم وحضرموت وحصور والسلفات، وسمي هذا الجيل العرب العاربة، بمعنى الرسوخ في العروبية، أو بمعنى الفاعلة للعروبية والمبتدعة لها، بما كانت أول أجيالها، وقد تسمَّى البائدة أيضًا الهالكة.»٣
والإصرار الواضح في رحيل النبي نحو الجنوب يحيلنا معه باستمرار إلى جزيرة العرب جنوبًا، فالتوراة تكرر دائمًا التعبير:

ثم ارتحل إبرام ارتحالًا متواليًا «نحو الجنوب».

تكوين ١٢: ١٩

فصعد إبرام من مصر … «إلى الجنوب».

تكوين ١٣: ١

وانتقل إبرام من هناك إلى «أرض الجنوب»، وسكن بين قادش وشور، وتغرب في جرار.

تكوين ٢٠: ١
وقد حاول الباحثون تفسير اللفظة «ﻫ-نجب» في الأصل العبري، بأنها تعني «النقب»؛ أي: صحراء النقب جنوب فلسطين (والهاء أداة التعريف العبرية)، وتأسيسًا على أن كنعان التوراتية هي فلسطين، لكن «ﻫ-نجب» تعني أيضًا مع استخدام ظاهرة القلب «الجنوب»،٤ وهو ما أخذتْ به الترجمة العربية كما في النصوص السابق إيرادها، فترجمت «ﻫ-نجب» بمعنى الجنوب، والجنوب بالنسبة للنبي إبراهيم — وهو خارجٌ من مصر، وبعد أن مر بمملكة «جرار» جوار غزة حسبَ خرائط التوراة — ليس شيئًا آخر سوى جزيرة العرب.

وإذا كانت التوراة قد أوضحَتْ أن إبرام لما خرجَ من مصر اتَّجه إلى الجنوب، فإنها تستمرُّ بسرعة خاطفة، لتقول: «وسار في رحلاته من الجنوب إلى بيت إيل، إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة.» مما يشير إلى فجوة كبرى وسط الرواية، فهي بسرعة تقول إنه عاد من الجنوب، ولا تعلمنا لماذا خرج من مصر واتجه جنوبًا من الأصل، ولأي هدف كان نزوله جنوبًا، ولا الأحداث التي جرت له هناك، ولا المدة التي قضَاها في هذا الجنوب كما هي عادة التوراة التي عهدناها مُفصَّلة إلى حدِّ الإملال، كما لو كان هذا الجزء من الرواية قد اقتطع اقتطاعًا، فيعود النبي فجأة من الجنوب إلى الشمال حيث بيت إيل، المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة.

وهنا يبدو أن إصرار الإخباريين المسلمين على علاقة إبراهيم بجزيرة العرب اكتسبَ مسوِّغاته، بل أصبح واضحًا أن العلاقة يمكن أن تملأَ فراغًا وفجوة كبرى بالرواية التوراتية، لهذا وجبَ أن نقف هنيهة مع ما أورده الرُّواةُ المسلمون عن زيارة الخليل لجزيرة العرَب، والتي ترتبط بميلاد إسماعيل من المصرية هاجر.

وإذا كان الهبوط جنوبًا يرتبط بإسماعيل، فربما لو توقفنا مع قصة التوراة عن ميلاد إسماعيل وجَدْنا شيئًا أكثرَ وضوحًا عن مسألة هبوطِه جنوبًا، تقول التوراة:

وأما ساراي امرأة إبرام فلم تلِدْ له، وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر، فقالت ساراي لإبرام: هو ذا الرب أمسَكَني عن الولادة، ادخل على جاريتي لعلِّي أُرزق منها بنين، فسمع إبرام لقول ساراي … فدخَل على هاجر فحبَلت، ولما رأتْ أنها حبلت صغرُت مولاتها في عينيها، فأذلتها ساراي فهربتْ من وجهها، فوجدَها ملاك الرب على عين الماء في البرِّيَّة، على العين التي في طريق شور، وقال: يا هاجر جارية ساراي … ارجعي إلى مولاتك، واخضعي تحت يديها. وقال لها ملاك الرب: تكثيرًا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حُبلى فتلدين ابنًا وتدعين اسمه إسماعيل، لأنَّ الرب قد سمع لمذلَّتِك وأنه يكون إنسانًا وحشيًّا، يده على كل واحد ويدُ كل واحد عليه.

تكوين ١٦: ١–١٢
أما لماذا استعجل إبراهيم تحقيق الوعد بالنسل الموعود، وخشي مزيدًا من الشيخوخة فدخل بهاجر؟ فهو ما يعقب عليه «ماير» وهو يتحدث عن سارة: «لماذا لا يتبع زوجها عادة أهل زمانه «السخيفة»، ويتزوج تلك الجارية المصرية، التي إما أن يكونا قد اشترياها من أحد الأسواق المصرية، أو أهديت إليهما من فرعون مع باقي الهدايا التي خلَعَها عليهما، وضعف إيمانه في قدرة الله بأنه قادر أن يحقق وعده بطرق أخرى غير الطرق الطبيعية؟ كل هذا دفعها لتقديم اقتراحها، لعل هذا الهاتف قد خطَرَ على باله في أوقات ضعفِه، كان يحملُ في طياتِه علامات الشك في قدرة القدير؛ لأنه كان يتضمن التعجيل في تحقيقِ وعدِ الله وبلا تردد، ودون الرجوع إلى الله. قبل إبراهيم هذا العرض، وإذا أصبحت هاجر سيدة موقرة في المحلة، احتقرت سيدتها العاقر.» ثم كعادة المستر ماير الذي لا يجد فرصة للطعن على المصريين إلا وانتهزَها، فيستطرد بالقول: «نحن لا نندهش من تصرفات هاجر إزاء سيدتها إذ عيرتها بوقاحة، فماذا يمكن أن ينتظر من جارية كهذه «وضيعة الأصل».»٥
ونتابع القصة التوراتية التي تستطرد:

ولما كان إبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لإبرام، وتكلَّمَ اللهُ معه قائلًا: أما أنا فهذا عهدي معك، وتكون أبًا لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيرًا جدًّا وأجعلك أممًا، وقال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدع اسمها ساراي، بل اسمها سارة، وأباركها وأعطيك أيضًا ابنًا منها، سارة امرأتك تلد لك ابنًا وتدعو اسمه إسحاق. وأقيم عهدي معه أبديًّا لنَسلِه من بعده، وأجعله أمة كبيرة. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه، وأجعله أمة كبيرة … «ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة» … وظهر الرب له عند بلوطات ممرًّا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه ونظر، وإذا «ثلاثة رجال» واقفين لديه، فأسرع إبراهيم إلى الخيمة، وقال لسارة: أسرعي بثلاث كيلات دقيقًا سميدًا، اعجني واصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقَر وأخذ عجلًا رخصًا وحيدًا وأعطاه الغلام، فأسرع يعمله، ثم أخذ زبدًا ولبنًا والعجل الذي عمله، ووضعها قدَّامَهم، وإذ كان واقفًا لديهم تحت الشجرة «أكلوا»، وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحيواة، ويكون لسارة امرأتك ابن … «فضحكت» سارة في باطنها قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزحُ، فقالت لإبراهيم: اطردْ هذه الجارية وابنَها؛ لأن ابنَ هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق، فبكر إبراهيم صباحًا، وأخذ خبزًا وقربةَ ماء وأعطاهما لهاجر، واضعًا إياهما على كتفيها والولد وصرفهما، فمضتْ وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرَغَ الماء من القربة، طرحت الولد تحتَ إحدى الأشجار، ورفعت صوتها وبكَتْ، فسمع الله لصوت الغلام وفتح الله عينيها، فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة وسقتِ الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية، وحدث من بعد هذه الأمور أنَّ الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم، فقال: ها أنا ذا، فقال: خذ ابنك «وحيدك» الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك، فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بنى هناك إبراهيم المذبح ورتَّب الحطب وربط إسحاق ابنه، ووضعه على المذبح فوق الحطب، ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء، وقال: إبراهيم، إبراهيم، فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تمد يدك إلى الغلام، ولا تفعل به شيئًا؛ لأني قد علمت الآن أنك خائف من الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم عينيه ونظر، وإذا كبش وراءه ممسكًا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة، عوضًا عن ابنِه، فدعا إبراهيم اسم ذلك المكان يهوه يرأه، حتى إنه يقال اليوم: في جبل الرب يرى.

تكوين ١٦، ١٧، ١٨، ٢١، ٢٢

وهنا يحاول الداعية «ماير» أن يُوعِزَ لقارئيه بأن إنجابَ إسماعيل من هاجر، كان عصيانًا لأمر الله، وبالطبع ما يترتَّبُ على هذا المعنى من لفظ العقل الإيماني للنسل الإسماعيلي، ويضعُ غرضَه في صيغةِ تساؤُلٍ يقول: «هل كان هناك ارتياحٌ خفيٌّ لذلك التدبير، أن يدخل إبراهيم على هاجر ليرزق منها نسلًا؟ الذي حقق غايةً محبوبةً على الأقل، «ولو أنَّ الله لم يكنْ راضيًا عنه»، هل كان يخشى أنه دُعي ليقدِّمَ إسحاق ذبيحة، وجد ذلك أمرًا هيِّنًا، إذ يستطيع أن يستعيضَ عنه بإسماعيل كوارث له؟» وهكذا فالمبشر «ماير» يريد القول أنَّ النبي علم بمسألة التضحية مسبقًا، فأراد التحايل على القدر الإلهي بإنجاب طفلٍ من هاجر ليكون بديلًا، بمعنى أن يضحي بابن الجارية؛ ليُحيى ابن الحرة. والعجيب أن تجد مثل هذا المنطق لدى كاتب تترجم كتبه وتباع في مختلف الأنحاء، والعجب إنما في عدم اقتناعه الابتدائي بشأنِ إسماعيل، ثم إسقاط هذا الشعور على تفسير يجعل النبي يخدع هذه المرة ربَّه نفسَه، بمحاولة تنفيذ القدر والهرب منه في آن معًا، فينجبُ إسماعيل للذبح وإسحاقَ للوراثة، والقرار أو النية بذلك قد عقدت مسبقًا قبل أن يُنجبَ إبراهيم أيًّا منهما، وعليه فإن النبي جهَّزَ ابن الجارية للذبح فداءً لابن الحرة، وهو منطق وفهم يمجُّه عرف أدنى الشعوب إلى الهمجيَّة، فما بالنا والأمر مع النبي، ثم وما بالنا وصاحب المنطق والافتراض مبشِّرٌ وداعية من بين أكثر المبشرين انتشارًا وأطولهم باعًا؟!

وإن مثل هذه المعاني تصبح واضحة عندما يبدأ المستر «ماير» في استخلاص العبر من القصة، وأن العظةَ هنا أنه يجبُ على المؤمن انتظار التوقيت الإلهي دون استعجال، ولا نفعل مثل إبراهيم عندما استعجل الوعد بالولد٦ فأغضب ربَّه، وكان محالًا أن يرثَ الأرضَ الموعُودة — في رأي التوراة ورأى المستر «ماير» — ولدٌ يَسري في عروقه دم مصري، فنقاء الدم العبري شرط أساسي وأول، لذلك يقول المستر «ماير»: «تسللت غيمة صغيرة قاتمة وسوَّدت نفس سارة، فإنَّ عينها الحاسدة أبصرتْ إسماعيل يمزح، وقد كان إلى عهد قريب هو الوارث الوحيد لكلِّ المحلة، وتحت سِتار الهَزْل والمزاح هزَأ بإسحاق بطريقةٍ كشفتْ عن مرارة نفسه، التي لم يكنْ من السهل أن يُخبِّئَها، وهذا حرَّكَ كلَّ غيرة سارة الكامنة في نفسها، التي لم تطق إخفاءها، لماذا وهي السيدة وهي ربة البيت وهي «أم الوارث الشرعي»، تحتمل الإهانات من عبدٍ؛ لذلك قالت لإبراهيم بتهكُّمٍ: اطرد هذه الجارية وابنها، لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق، على أنه لا يزال هناك معنى أعمق، «أن هاجر الجارية تمثل روح العبودية»، وروح التمسك بحرفية الناموس وطقوسه، الذي يحاول أن يربح هذه الحياة. ترمز هاجر إلى عهد جبل سيناء في بلاد العرب، «أما سارة الحرة فإنها ترمز إلى عهد جبل النعمة المجانية»، وأبناؤها هم أبناء الإيمان والرعاء والمحبة، أيها القارئ العزيز … «ثق في المسيح واقبل خلاصه، واطرد الجارية وابنها»، عش حياة الحرية والسعادة كإسحاق «ولا تعش حياة إسماعيل».»٧

أما أي قارئ متعقل فإنه سيلمس مباشرة وضوح التوراة إلى حدِّ السذاجة في محاولة سحب البساط من تحت النسل الإسماعيلي؛ لتكون أرض كنعان خالصة لبني إسرائيل أحفاد إسحاق أخي إسماعيل، بمبررات مثل: غيرة النساء، وصراع الميراث والبنوة للأمة، أم للحرة، وخضوع الرب التوراتي ونبيه لمثل هذه الترهات.

وهكذا لم يُوردْ كاتب هذا الجزء من التوراة أيةَ إشارة لجزيرة العرب. وفي ذات الوقت تعمد إهدار وضع إسماعيل لكونه ليس خالص العبرية، وشابتْ دمَه المِصرية، لكن ما لا يفوت باحثًا مدقِّقًا، أن هذه الأحداث جميعًا قد تتالتْ بعد خروج النبي إبراهيم من مصر على طريق غزة (طريق جرار)، وأنه عندما خرج من مصر حسب الرواية التوراتية يمَّمَ نحو الجنوب، ولا جنوب في هذه الحال إلا جزيرة العرب، هذا إضافة إلى أن إبراهيم قد بدل اسمه من «إبرام» إلى «إبراهيم»، وبدَّل اسم زوجته من «ساراي» إلى «سارة» مما يشير إلى سُكنى إبراهيم وزوجته بعض الوقت بين قوم لحَنوا في اسمه واسم زوجته، فتغيَّر نطقه في لسانهم من إبرام إلى إبراهيم، ومن ساراي إلى سارة.

هذا ناهيك عن قصة تضحيةِ الأرض وفداء الدم، الذي اعتاد ربُّ التوراة طلبه مقابل أعطياته، وعطاؤه هنا هو أرض كنعان، والعجيب في أمر التوراة إشارتها إلى أن الابن المضحَّى به كان هو إسحاق، والتوراة بذلك تخالف شرعتها التي استَنَّتْها هي في التضحية بالبكر، ثم زيادةً في تأكيد إسحاق للتضحية، فإنها لم تر بأسًا في تكرار أن إسحاق هو وحيد إبرام، وهكذا ألغتْ إسماعيل من التاريخ العبراني (ولوجه الحقِّ فإننا من جانبنا نرى التوراة حسنًا قد فعَلت)، وواضح أن التوراة قد استبعدت إسماعيل؛ لأن دمَه ليس عبرانيًّا خالصًا، لأنه قد شابه الدَّم المصري، وهو كما تعلمنا الكتب الإخبارية، ذلك الدم الذي ساد العرب بعد ذلك الزمن بزمان.

وعليه فإن اليهود قد استَنْكفوا أن يكون المذبوح إسماعيل؛ لأنه سيكون أضحيةً مُعابة الدم، وعليه فلابد أن المذبوح كان إسحاق، حتى لو خالف ذلك شرعة التضحية بالبكر، وحتى لو أنكر إسماعيل تمامًا وأصبح إسحاق بكر إبراهيم ووحيده.

وقد ذكر القرآن الكريم قصة الذبح، لكنه لم يذكر الذبيح بالاسم، وإن كان التراث الإسلامي يعرف النبي محمدًا بابن الذبيحين، والمقصود بالذبيحين: أبوه عبد الله، الذي كاد يكون ضحيةً للإله هبل، إيفاءً لنذر جده القريب عبد المطلب، وإسماعيل جدُّه البعيد الذي كاد يكون ضحية للإله «إيل»، والذي انتسب إليه إسماعيل باسمه «سمع-إيل»!

ومن الواضح أن قضية الذبيح قد شغلت المسلمين الأوائل فيما يبدو لنا من قولِ الثعلبي النيسابوري: «واختلف علماء السلف من عامة المسلمين، في الذي أمر إبراهيم عليه السلام بذبحه من بَنيه، بعد إجماع أهل الكتاب على أنه كان إسحاق عليه السلام، فقال قوم: هو إسحاق. وذهب إليه من الصحابة: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب، ومن التابعين وأتباعهم: كعب الأحبار (ولنلحظ أن كعبًا كان يهوديًّا، تأسلم). وقال الآخرون: هو إسماعيل. وإلى هذا القول ذهب عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ومجاهد. وكان الشعبي يردد: «رأيت قرني الكَبش منوطَين بالكعبة».»٨
أما ابن كثير فيعقب بالقول: «الظاهر من القرآن … أن الذبيح هو إسماعيل؛ لأنه ذكر قصة الذبيح، ثم قال بعده: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (الصافات: ١١٢). ومن جعله حالًا فقد تكلَّفَ، ومستنده أن إسحاق إنما هو إسرائيليات، وكتابهم فيه تحريف، ولاسيَّما ها هنا قطعًا لا محيد عنه، فإن عندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنَه وحيده، وفي نسخة من المعرَّبة: بكره إسحاق، فلفظة إسحاق ها هنا مقحمة مكذوبة مفتراة، لأنه ليسَ الوحيد، ولا «البكر» ذاك إسماعيل.»٩
ورغم متابعة ابن كثير لكثيرٍ من التفاصيل التوراتية، فإنَّ له كثيرًا من المواقف العلمية المحمودة، ولديه في هذا الأمر تحليلٌ جميل، وضَّح أولًا في رؤيته للنص التوراتي، بحيث نكتفي بحذف إسحاق، ليستقيم الأمر إسماعيليًّا، منطقًا وشرعًا، ثم وضَّح ثانيًا في شرحه لقصة مولد إسماعيل، وهو يكاد يطابق عبارات التوراة ذاتها، لكنك تجد أيضًا ابن كثير يقف محلِّلًا ناقدًا عالمًا. ولنقرأ معًا قوله: «فلما حملتْ هاجر، ارتفعَتْ نفسها وتعاظمت على سيدتها، فغارتْ منها سارة، فشكَتْ ذلك إلى إبراهيم، فقال لها: افعَلِي بها ما شئتِ، فخافتْ هاجر فهرَبت ونزلتْ عند عين هناك (دون تعيين لمكان هذه العين بالتحديد)، فقال لها ملك من الملائكة: لا تخافي فإن الله جاعلٌ من هذا الغلام الذي حمَلَت به خيرًا. وأمرها بالرجوع، وبشَّرها أنها ستلد ابنًا، وتسميه إسماعيل، ويكون وحش الناس، يده على الكل ويدُ الكلِّ به (لاحظ أن ابنَ كثير أصلح من شأن النص التوراتي القائل يد الكل عليه إلى يد الكل به)، ويملك جميع بلاد إخوته، فشكَر الله عز وجل على ذلك، «وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده «محمَّد»»، فإنه الذي سادتْ به العرب، وملكت جميع البلاد شرقًا وغربًا»،١٠ وحتى لا ننسى، وحتى نتذكر، فالنبي محمد الذي سادت به العرب وحقق نبوءة «لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات»، هو بالدم من جهة الأم مصري، فهو حفيد «هاجر» حسبما وضع النسابة المسلمون.
وهكذا وجدت الرواية التوراتية لها ترديدًا في كتب الأخبار الإسلامية، وقد رددت هذه الكتب قصة ترك إبراهيم لهاجر وولدها في فلاةٍ أو برِّيَّة، وحددَت الآيات القرآنية موضعَها بالقول: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (إبراهيم: ٣٧). ويعقب المسعودي بالقول: فأجاب الله دعوته فأنس وحشتهم «بِجُرْهم والعماليق»،١١ بعد أن فجَّر الله بئر زمزم تحت خدِّ وليدها وهو يبكِي عطشًا، مما جذَب الطير الذي هدى بدوره جرهم والعماليق إلى المكان، كما يؤكد المعنى نفسه الثعلبي في قوله: «فذهب بهما إبراهيم حتى قدمَ مكةَ، وهي إذ ذاك عضاة وسلَم وسمر، وبحواليها خارج مكة أناسٌ يقال لهم «العماليق»، وموضع البيت يومئذٍ ربوة حمراء.»١٢ وقد ذكر المسعودي أن إسماعيل قد صاهر القبيلتين، وتزوج «عملاقة وجرهمية»،١٣ وهو الأمر الذي يستدعينا مرة أخرى العودة إلى ما جاء في التاريخ العربي عن العرب العاربة البائدة، نستوضحه أمر جرهم والعماليق.
١  حمزة الأصفهاني: تاريخ سني الملوك، بيروت، ١٩٦١م، ص١٠٥.
٢  المسعودي: التنبيه والإشراف، الطبعة الأوربية، ص٧٨-٧٩.
٣  ابن خلدون: طبعة بولاق، ١٢٨٤ﻫ، ج٢، متكررات، ص١٦، ١٩، ٧١٢، ٢٥٩.
٤  د. كمال صليبي: التوراة جاءت من جزيرة العرب، ناقش المؤلف مسألة «ﻫ-نجب»، وانتهى إلى أن صدق ترجمتها هو «الجنوب»، أي كما ترجمتها التوراة العربية ص٨٦–٨٩.
٥  ماير: حياة إبراهيم، ص٨٣، ٨٤.
٦  ماير: حياة إبراهيم، ص١٣٦، ١٣٧.
٧  ماير: حياة إبراهيم، ص١٣٦، ١٣٧.
٨  الثعلبي: عرائس المجالس، ص٩١.
٩  ابن كثير: البداية والنهاية، ج١، ص١٤٩.
١٠  المصدر السابق: ص١٤٤.
١١  المسعودي: مروج الذهب، طبعة المكتبة الإسلامية، تحقيق محمد محي الدين، بيروت، ج١، ص٤٦.
١٢  الثعلبي: عرائس المجالس، ص٨٢.
١٣  المسعودي: مروج الذهب، ج٢، ص٤٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤