الفصل الخامس

«حالة ما بعد الحداثة»

الثقة في الحقيقة

يمكن تلخيص أحد الأفكار الرئيسية في جميع ما سبق تحت مسمَّى «ضياع الواقعية»، الذي صحبه ضياع إدراك يُعوَّل عليه للتاريخ الماضي. وقد أشار فريدريك جيمسون بالفعل إلى طابع يميز ما بعد الحداثة؛ ألا وهو «اختفاء الوعي بالتاريخ» في الثقافة، وتوغل اللاعمق، وسيادة «حاضر أبدي» حيث تلاشت ذكرى التراث. يؤمن العديد من أتباع ما بعد الحداثة بأن ثمة مكوِّنًا ما في حالة المجتمع ذاتها هو ما أدَّى إلى ذلك.

كما شهدنا من قبل، يهاجم جزء كبير من تحليل ما بعد الحداثة السلطة والمصداقية في الفلسفة والسرد وعلاقة الفنون بالحقيقة. ويرتبط كل هذا النشاط التشكيكي بعلاقة معقدة، لا مع مواقف الأكاديميين والفنانين فحسب، بل كذلك مع ما اعتُبر أنه فقدان أوسع نطاقًا للثقة داخل الثقافة الديمقراطية الغربية، نتج عن العداء اليساري للألاعيب الخفية التي تُمارسها «الرأسمالية المتأخرة»، والاعتقاد العام تقريبًا — السائد حتى بين أشد الليبراليين تفاؤلًا — بأن الأخبار الحقيقية هي في أغلب الأحيان خاضعة لتلاعب الصور، وأنَّ بثَّ المعلومات الأساسية دائمًا ما يُحرَّف وتشوَّه حقائقه بفعل الشركات التجارية التي تحمي مصالحها، وحتى الأحداث الجارية المروعة — التي تتسبب في معاناة لا يمكن تصورها للأفراد مثل حرب فيتنام وحرب الخليج — قد أصبحت بطريقةٍ ما مجرد «أحداث ممسرحة لوسائل الإعلام تدور على شاشة التليفزيون» في مشاهد تُجمِّعها الكاميرات لأهداف سياسية، مثل مشهد القنَّاص الذي يحمل الكاميرا على كتفه، بينما يأمل مُلقو الخُطب في حديقة البيت الأبيض أن تتحسَّن الأحوال … إلى آخره. يسود شعور قوي — في أعمال نقَّاد مثل بارت وفي روايات ميلان كونديرا ورشدي — بأن الحدث التاريخي والسياسي دائمًا ما يصلنا في صيغة مُتخيَّلة أو في صورة سرد يتلاعب به ما قد نطلق عليه اليد الخفية للمصالح الاقتصادية أو السياسية.

من السهل علينا إدراك مدى نجاح التليفزيون في أداء دور الناقل الرئيسي لتلك المعلومات المُتخيَّلة؛ فعالمنا يعج بهذه المعلومات الشديدة التناقض، التي تحرِّكها بوضوحٍ المصالح الاقتصادية (المهيمنة) والخاضِعة للتسلُّع، والتي تبعث على قدر كبير من الريبة. فهي هدف واضح؛ لأن أداة نقلها تعتمد — فيما يبدو — على مفهوم العرض «الشفاف» الواقعي المرتبط لدينا بالتصوير الفوتوغرافي، وتلك الحقيقة في حد ذاتها تفتح الباب أمام شكوكية ما بعد الحداثة.

صور غير حقيقية

يتبدى هذا الإحساس بأن وسائل الإعلام الجماهيرية تستبدل الصور بالواقع في عدَّة أشكال؛ بَدءًا من الافتراض الماركسي الذي يدفع بأننا جميعًا على أي حال ضحايا «وعي زائف» ناتج عن خطاب «برجوازي»، وصولًا إلى التشكك الليبرالي في فرض المؤسسات لقيود على حرية التعبير. تكمن المشكلة في أن هذا الهجوم على الواقعية الصادقة — الذي بدأ بالتأكيد منذ أن انقلب ذوو الآراء العصرية على واقعية القرن التاسع عشر — قد طال به الأمد حاليًّا لدرجة أن الارتياب فيما هو خيالي قد أدى بالفعل إلى محو ثقة الكثير فيما هو حقيقي، كما رأينا في الجدل الدائر حول كتابة التاريخ. يُفضِّل جيمسون — بوصفه منظِّرًا ماركسيًّا — فكرة وجود «أزمة عامة في الوصف». تزعم فكرته أن رموز اللغة — في ظل حالة ما بعد الحداثة — قد تحرَّرت من وظيفتها في وصف العالم، و«قد أدَّى ذلك إلى اتساع رُقعة سلطة رأس المال في مجال الرمز والثقافة والوصف، بجانب ضياع مساحة الاستقلال التي اكتسبت أهمية كبيرة في حقبة الحداثة.» ومن ثمَّ، تُرِكنا:

نواجه ذلك التلاعب الخالص العشوائي بالرموز الذي نطلق عليه ما بعد الحداثة، والذي لم يَعُد ينتج أعمالًا بارزة من النوع الحداثي، لكنه لا يتوقف عن إعادة ترتيب الأجزاء المتناثرة من النصوص السابقة والعناصر الأساسية في الإنتاج الاجتماعي والثقافي السابق في تكوين هجين يعلو يومًا عن يوم من الكتب الكبرى التي تلتهم كتبًا أخرى، ونصوص كبرى تجمع شظايا نصوصٍ أخرى.

فريدريك جيمسون، «ما بعد الحداثة ونص الفيديو»، ديريك أتريدج وآخرون (محرِّريْن)، «علم لغويات الكتابة»، (١٩٨٧)

يرى الكثير من فريق ما بعد الحداثة أننا نحيا في «مجتمع الصورة» الذي ينشغل في الأساس بإنتاج واستهلاك «محاكيات سطحية تافهة» ليس إلا؛ إذ أصبحت المعلومات مع قدوم العصر الحالي مجرد بضاعة نبتاعها (ربما البضاعة الأهم في مجتمع تُحرِّكه التكنولوجيا وتهيمن عليه المعرفة). فنحن دومًا نسعى إلى تعلم برامج كمبيوتر جديدة. وفي الوقت نفسه، يدعم نوعٌ من اليأس المتشكك في حقيقة السياسة والمؤسسات في حياتنا الاجتماعية المشتركة — التليفزيون والصحف — نوعًا من اليأس المتشكك كذلك في وظائف الفن التقدمية أو التوافقية، بينما يتغلغل الافتراضُ المتأثر بأفكار نيتشه بأن جميع تلك الظواهر — بدءًا من تصريحات البيت الأبيض إلى المسلسلات الدرامية اليومية الطويلة — تمارس تأثيرها على نحو سري نوعًا ما في الحفاظ على القوة الاقتصادية أو غيرها من القوى لدى هذا الشخص أو ذاك، لا لصالح أي حقيقة. وقد أدى ذلك إلى تفشي نزعة غريبة من جنون الريبة في الفن ونظرية ما بعد الحداثة، وكذلك في تلك الأفلام الشهيرة التي تدور أحداثها حول مؤامرات خيالية أو حقيقية. فكم عدد مَنْ يؤمنون أن فيلم أوليفر ستون «جيه إف كيه» — الذي يقدِّم لنا محاميًا من نيو أورليانز يتحدى ببسالةٍ مَنْ تآمروا في المؤسسة العسكرية لاغتيال الرئيس كيندي كي تستمر الولايات المتحدة في حرب فيتنام — يقدم أحداثًا واقعية لا من وحي الخيال كما يتراءى؟

على الأرجح، قدَّم جان بودريار أشهر جزم فاضح حول الزيف الجوهري لثقافتنا؛ إذ صرح — مردِّدًا أفكار فوكو — قائلًا:

لقد أُنشئت ديزني لاند لإخفاء حقيقة أن الدولة «الحقيقية» — أمريكا «الحقيقية» بأسرها — هي «في جوهرها» ديزني لاند (مثلما أُقيمت السجون لإخفاء حقيقة أن المجال الاجتماعي بأكمله وبوجوده الكلي العادي هو السجن).

fig18
شكل ٥-١: شارع «ماين يو إس إيه» (المصمَّم كي يحاكي مدينة أمريكية في مطلع القرن العشرين) من تصميم فريق المصمِّمين في ديزني لاند، بمدينة أناهايم، كاليفورنيا. (أهذا هو الشارع الذي تسكن فيه؟)
ثم يواصل حدثيه واصفًا ديزني لاند (بديكوراتها وألعابها الخيالية التي تصور عوالم القراصنة والغرب الأمريكي المتوحش وحياة المستقبل) بأنها:

تُقدَّم على أنها خيالية لكي نؤمن بأن باقي البلد حقيقي، بينما في الواقع لم تَعُد لوس أنجلوس وأمريكا بأكملها التي تحيط بديزني لاند حقيقية، بل أصبحت تنتمي إلى عالم ما فوق الواقع، عالم المحاكاة. ولم تعد القضية قضية التمثيل الزائف للواقع (الأيديولوجية)، بل أصبحت تتعلق بإخفاء حقيقة أن الواقع لم يعد واقعًا، والتمكن بهذه الطريقة من الحفاظ على مبدأ الواقع.

إنَّ أوهام ديزني ليست حقيقية ولا زائفة، بل هي آلة ردع أُنشئِت بهدف إعادة إحياء وَهْم الواقع في اتجاه عكسي.

جان بودريار، «المحاكيات»، (١٩٨٣)

نحن ببساطة أسرى عالم من الرموز خاضع لسيطرة الإعلام، خلقته الرأسمالية لأغراض خسيسة تتعلق بتصنيع رغباتنا، ويشير كل رمز فيه إلى رمز آخر ليس إلَّا، ضمن سلسة مخادعة من الأفكار. إن تلك الرموز ليست سوى محاكيات سطحية تستبدل الأشياء الحقيقية وعلاقاتها الفعلية (التي لا يدركها حقًّا سوى معتنقي الفِكر اليساري مِمَّن يستطيعون كشف تلك الأوهام) في عملية يطلِق عليها بودريار «التحوُّل إلى ما فوق الواقع». ومن ثمَّ، فإننا لا نحصل أبدًا على ما نرغب فيه على أي حال. لكن قد نقول خلافًا لذلك إننا نحصل بالفعل على ما ندفع ثمنه، بغض النظر عن طريقة الإعلان عنه، على سبيل المثال، لا تختلف شطيرة هامبرجر من ماكدونالدز عن مليارات الشطائر التي ينتجها المطعم بنفس الطريقة، وهي لذيذة المذاق فعلًا في رأي الكثيرين. وعلى نفس المنوال، إذا انبعثت منك رائحة عطر ديون، فإنك تضع عطر ديون. هذه النماذج ليست «مجرد» لعب بالرموز، رغم كمِّ الإعلانات التي تحاول تحفيزنا على الاقتناع بشرائها. لكن، حتى أولئك الذين لم يقرءوا أيَّ أجزاء من نظرية ما بعد الحداثة لم ينخدعوا تمامًا بها، ولا يؤمنون حقًّا بأن أي شخص قد انخدع إلى حدٍّ كبير. فلتقرأ — على سبيل المثال — استطلاعات الرأي حول السياسيين في جميع أنحاء العالم، أو حتى أبحاث السوق التي تدرس تأثيرات الإعلانات. لكننا عندما نسمع بودريار وغيره من أتباع نفس الفكر، يُخيَّل إلينا أننا نأكل ونشرب وننام فوق رموز ومع رموز ليس إلا. يجمع هذا النوع من الجدل بين الهجوم الليبرالي القديم على الإعلانات (بوصفها تختلق احتياجات ليست لدينا «في الحقيقة») وبين بعض سمات التشاؤم الفرويدي الذي يدَّعي أن الرموز الدالة على الأشياء دومًا ما تخدع، وأننا لن نستطيع أبدًا بلوغ الشيء المرغوب فيه «حقًّا» من خلالها. على سبيل المثال، عندما استبدلت السلطات الفرنسية نسخة طبق الأصل من كهوف لاسكو في فرنسا بالكهوف الأصلية، طالبنا بودريار بتصديق أن لا فارق فعليًّا بين الاثنين. لكن حتى أشد زوار الكهوف سذاجة — فضلًا عن مؤرِّخ متخصص في الفن — يمكن تعريفهم بسهولة بطرق التمييز بين الكهوف الحقيقية والزائفة وقد يفهمون كذلك دواعي حماية الآثار — حال وجودها — التي استدعت استخدام نسخة طبق الأصل للعرض على السُّيَّاح.

يتسم بعد الحداثيين عمومًا بتشاؤمهم؛ فالكثير منهم تؤرقه آمال ثورية ماركسية ضائعة، وغالبًا ما يُسيطر على المعتقدات والفن الذي يوحون به طابع سلبي لا بنَّاء. وهم يعتقدون أن الرفاهية العامة ليست ظاهرة جيدة؛ لأنه عندما يمتلك الناس احتياجاتهم الأساسية، يسعى رجال الإعلان والتسويق إلى ملء الفجوة الناتجة عن ذلك كي يختلقوا قيمنا (المادية) ويحددوها لنا، بينما يطوي النسيان المحتاجين الحقيقيين بمنتهى السهولة؛ لذا، يحظى التسويق بالأولوية على الإنتاج. لقد أصبحنا نشعر أنه حتى العدالة أصبحت — أو قد تصبح — حدثًا إعلاميًّا، مثل محاكمة أُو جيه سيمبسون التي بثَّها التليفزيون، والتي تأثرت بوضوح جلي بأداء المحامين المسرحي والمبالغ فيه، وملابس المشاركين المختارة بعناية في هذه المسرحية الدرامية، والملخصات المنحازة سياسيًّا والمتحيِّزة لقوالب نمطية يقدمها المحامون ومراسلو التليفزيون في مقاطع صوتية. ألا تبدو المحاكمة بأكملها وهمية إلى درجة تثير الاشمئزاز؛ إذ يستخدم المشاركون الإعلام كي يتلاعبوا بالآراء من خلال التقمص الزائف لما يعتبرونه قوالب نمطية خيالية ونماذج مثالية مقبولة؟ أليس منطقيًّا أن نتساءل عن كيفية تحقيق عدالة نزيهة على منصة القضاء تلك؟ هل سينخدع القاضي والمحلفون حقًّا — وهم في النهاية أفراد ينتمون لمجتمعنا — بكل هذا التمثيل السافِر؟ أم من المفترض أن نؤمن بوجوب تمتع إجراءات تحقيق العدالة في المحاكم بمصداقية أكبر من ذلك؟ يوجد شكٌّ حيال هذا داخل كلٍّ منا (وبالتأكيد داخل كُتَّاب العديد من روايات المحاكِم المثيرة)، وذلك الشك هو ما كان بعد الحداثيين على حق عندما أصروا على وجوده.

لكنهم نزعوا كذلك إلى تقديم وصف تشاؤمي مضلِّل للمعلومات التي نتلقَّاها وللنزاعات وحلولها؛ إذ ينتمي الكثير منهم في الواقع إلى اتجاه ما بعد نيتشوي طويل الأمد يجسد اليأس من المنطق. فعندما يقدم بعد الحداثيين رؤية سليمة تدفع بأن جميع الخطابات ترتبط في جوهرها بأنظمة السلطة التي قد تدعمها لأنها تعبر عن سلطتها، فإنهم يعطوننا انطباعًا بأن ثقافتنا لا تزيد عن تفاعل معقد بين تهديدات متعارضة باستخدام القوة. إن تشكُّكهم في الحقيقة يحرمهم في أغلب الأحيان من إبداء اهتمام سليم بأنشطة تقديم المبررات والتفاوض العقلاني والعدالة الإجرائية؛ إذ غالبًا ما يفترض التأثير الماركسي والفرويدي ضمنيًّا أن كل ما نقوله يحمل إيحاءات السلطة وتهديد العِرق والطبقة والمكانة الاجتماعية وألاعيب الهيمنة الجنسية. لكن هذا بالكاد ما يسمح للاتفاقات والقيود القانونية في المجتمعات الديمقراطية بأداء وظيفتها أو بتفعيل الاعتبارات الأدبية التي تؤدي إلى حماية حقوق الإنسان المفترض كونها عالمية ومتجاوزة للخصوصية الثقافية وليست مِلكًا لمجموعة بعينها. ولا يسمح كذلك بحقيقة أن السعي نحو التمتع بالصدق وبالتفكير الصائب ومحاولة دعم الادعاءات بأدلة قابلة للإثبات، وغيرها من المساعي، هي أمور لا غنى عنها إذا كنا نأمل أن نأتي إلى مائدة المفاوضات، حاملين في جُعبتنا ما هو أكثر من بعض التهديدات الضمنية (أو أن نتعامل مع كتابة التاريخ أو اللاهوت أو الرواية على أنها أكثر من مجرد محاولات لإيقاع القارئ في شرَك رواية خرافية). تخيَّل، على سبيل المثال، شخصًا يعتقد أن أيَّ شيء يتلفظ به أيُّ سياسي (سواءٌ أكان أمريكيًّا أم إسرائيليًّا أم روسيًّا أم من أي جنسية أخرى) هو دومًا نوع من الإرهاب الإمبريالي أو اللاهوتي أو الذي تفرضه «دولة مارقة»؛ لا لسبب سوى أن حديثه يعكس ضمنيًّا — على سبيل المثال — سلطة المؤسسات السياسية والقوات المسلحة في الدولة التي ينتمي إليها.

بالطبع، تعكس العديد من تصريحات أولئك السياسيين بالفعل هذا الإرهاب وإلى حدٍّ مروع، لكن في حالات النزاع تحديدًا قد يصبح من الأهم إبراز الأصوات الأكثر عقلانية، على سبيل المثال، أولئك الأكثر تقبلًا لإصدار حكم عقلاني فيما يخص الذنب والمسئولية التي تنتج عن النزاعات.

إنَّ أفضل ما يستطيع المرء قوله هنا، وما سأقوله بالفعل، هو أن بعد الحداثيين بارعون في مجال النقد التفكيكي لكنهم فاشلون تمامًا في مجال البناء، وعادةً ما يتركون هذه المهمة لأولئك الليبراليين الصبورين في مجتمعاتهم ممَّن لم يزالوا على استعداد لمحاولة تحديد بعضٍ من تلك الاختلافات بين الحقيقة والخيال على الأقل، التي يطمسها بعد الحداثيين تحت أكوام من الافتراضات المتشائمة حول حتمية الصراع الطبقي أو النفسي.

على الصعيد الآخر، أجال بعد الحداثيين الفِكر على نحو واضح ولهدف أكبر في طبيعة التغيرات الثقافية منذ عام ١٩٤٥، مطلقين عليها في النهاية «حالة ما بعد الحداثة». حسب تلك الرؤية لا يُنظر إلى الوضع الدولي للمجتمعات على أنه خاضع للأطر السياسية أو الاقتصادية التقليدية، بل على أنه «وضع ثقافي». يشكِّل هذا الاعتماد على التحليل الثقافي (الذي يحظى بالاهتمام حاليًّا إثر حركة «الدراسات الثقافية» المزدهرة التي تأثرت تأثرًا شديدًا حتى هذه اللحظة بأفكار ما بعد الحداثة) إحدى أبرز المساهمات التي قدَّمتها ما بعد الحداثة إلى المجتمع المعاصر. إنَّ أنشطة «الرأسمالية المتأخرة» والمجتمعات الديمقراطية هي بالطبع قضايا سائدة على الساحة، ولا يوجد حاليًّا بديل متاح لها (بالتأكيد منذ عام ١٩٨٩). وحسب افتراض عامٍّ — حتى إن كان وهميًّا — يقتضي الوفرة المستمرة، ينظر بعد الحداثيين إلى هذه الأنشطة على أنها تنتج معلومات في الأصل لا أشياء؛ مما يتطلب في المقام الأول تحليلًا ثقافيًّا.

وهكذا، فإن نظرةً ما بعد حداثية إلى التغيرات التي أحدثت أكبر تأثير في المجتمع المعاصر ستركِّز على قضايا مثل التكثيف الاستثنائي للزمان والمكان عبر وسائل الإعلام الجديدة (أتبنى هنا إجمالًا رؤية ديفيد هارفي). (فقد أصبح في وسعنا الآن الاطلاع فورًا على أحداث ومعلومات من أي مكان في العالم تقريبًا عبر التليفزيون والإنترنت.) إنَّ شبكة الإنترنت في العصر الحاضر ظاهرة ما بعد حداثية نموذجية؛ فهي (حاليًّا) غير مرتَّبة هرميًّا، وقطعًا غير منظَّمة؛ أي تشبه الكولاج، وهو ما يتماشى مع تحوُّل التركيز على إنتاج البضائع إلى التركيز على إنتاج خدمات المعلومات. (إنها قصة الثروات الهائلة التي تُجمَع أو تتبدد كل يوم، لا عن طريق بيع أشياء وشرائها، بل عبر عمليات تجارية في أسواق المال على يد مضاربين جالسين أمام شاشات تليفزيونية تتيح لهم الوصول عبر الكمبيوتر إلى معلومات تزيد عمَّا كان متاحًا في أي وقت سبق.) يرى البعض أن ذلك ناتج عن الآراء (آراء صنَّاع القرار بالأسواق) المتذبذبة وصور الأخبار المتغيرة التي تفرض نفسها فرضًا مخزيًا فوق الواقع، وتلك أيضًا سمة نموذجية من سمات «حالة ما بعد الحداثة»؛ فالكثير منا يعمل في عالم مُنقاد وغارق في المعلومات إلى حدٍّ لا يمكن تصديقه (أما مَنْ هم خارج هذا الإطار، فغالبًا ما يعانون من الجوع أو الأمية أو المرض العقلي أو يكافحون في قاع الهرم الاجتماعي). إنه عالم يفوق قدرتنا على الاحتمال، فأينما نذهب يرهق حواسنا كمٌّ مفرط من الصور المنتشرة في المجلات والإعلانات وعلى شاشات التليفزيون وعلى ناطحات السحاب، وغيرها من الأماكن (تكررت هذه الشكوى كذلك في حقبة الحداثة)، بينما تؤدي تغييرات بسيطة في الأذواق إلى زيادة مبيعات البضائع بحيث تسيطر الموضة على الثقافة، وتصبح عملية تشكيل الآراء التي يتولاها الإعلام أحد مقومات العملية الاقتصادية.

إن جُلَّ هذا التشخيص الذي يقدمه بعد الحداثيين لحال مجتمعنا يعرِّضهم لتهمة المغالاة الشديدة في تقدير سذاجة مواطنيهم؛ فالكثير من نقدهم اللاذع لا يزيد عن محاولات مبالغ فيها لحمايتنا من مخاطر بديهية، تستحق بالكاد وضعها في هذا الإطار الجليل من النظريات غير المكتملة. في حين لا يرى البعض مشكلةً في هذا الوضع؛ ففي عالم ما بعد مكلوهان (الفيلسوف صاحب نظرية تكنولوجيا وسائل الإعلام) الذي تحوَّل إلى قرية كونية حيث نعيش جميعًا الآن تقريبًا، ويجمع بيننا التواصل الإلكتروني بدلًا من العلاقات الاجتماعية الحقيقية، «بالطبع» قد تحظى الرموز بقيمة تفوق قيمة البضائع.

يجدر بنا إذن طرح السؤال التالي: إلى أي مدًى يمكن تبرير «تفسيرية الشك» ما بعد الحداثية؟ إذ يكمن على أي حال تناقض تعجيزي في صميم هذا التحليل، فمثلًا إذا زعم أحدهم أن كل شيء يتكون «فعليًّا» عبر صورة خادعة لا عبر الواقع، فكيف تأتَّي له أو لها «معرفة» ذلك؟ فَهُم يفترضون مسبَّقًا نفس الفروق التي ينتقدونها. على أفضل الأحوال، يقدم أولئك النقاد سلسلة من الملاحظات المتعالية والتافهة على ما يمارسه «الآخرون» من خداعٍ (لِلذَّات)، أو يكتفون بالتعبير عن استنكارهم — المبني على أسس أخلاقية ليبرالية راسخة — لنجاح صناعة الإعلانات والتليفزيون وغيرها من وسائل الإعلام في دفع الناس نحو استهلاك أشياء يعترضون هم عليها، بل وتصديقها. إنها رؤية لا تختلف عن تفضيل آراءِ سياسيٍّ على سياسي آخر، وليست دليلًا جيدًا على التمتع بإدراك مبتكر لوضع جديد حقًّا في المجتمع المعاصر.

لكن المشكلة الأهم هي التراجع الأكيد في قبول الأيديولوجيات والمعتقدات التقليدية الشائعة لدى أقلية مؤثرة. قد ينزع أحد أتباع شكوكية ما بعد الحداثة — مع استعداداه للاقتناع بجزء من مبدأ النسبية وإثر ملاحظة الكم الاستثنائي من التصورات المتنازعة حول الواقع، والمتاحة لنا داخل مجتمع يتسم بتعددية جلية وتسامح ملحوظ — نحو تفضيل اتجاه مثل ذلك الذي طرحه ريتشارد رورتي تحت مسمَّى «سخرية ما بعد الحداثة». لدى أتباع هذا الاتجاه شكوك حول حقيقة وجود أي «مفردات نهائية» ويدركون أن الآخرين لديهم مفردات مختلفة؛ أي إنهم لا يرون مفرداتهم «أقرب إلى الواقع» مقارنةً بمفردات بقية الناس؛ ومن ثمَّ لا يساورهم القلق إلا حيال احتمالية اختيارهم مفردات لا تناسبهم من بين مفردات اللغة المتنوعة؛ ومن ثم اكتساب هوية غير مناسبة. إنَّ مَنْ ينتمي إلى هذا الاتجاه:

لا ينشغل بتقديم منهج أو برنامج أو أساس منطقي خاص به وبرفاقه، بل يكتفي بفِعل ما يفعله جميع المؤمنين بسخرية ما بعد الحداثة ليس إلا؛ أي محاولة تحقيق الاستقلال الذاتي؛ فهو يحاول الخروج من أَسْر الاحتمالات الموروثة وخلق احتمالاته الخاصة، يحاول التخلص من مفردات نهائية قديمة وتكوين مفردات خاصة به. ويتسم أتباع هذا الاتجاه عامةً بأنهم لا يطمحون إلى حسم شكوكهم حيال المفردات النهائية عبر كيانٍ أكبر من ذواتهم؛ مما يعني أن معيارهم لتبديد الشكوك — معيارهم لتحقيق الكمال الخاص — هو الاستقلال الذاتي لا الاتحاد مع قوة خارج ذواتهم.

ريتشارد رورتي، «الاحتمال، والسخرية، والتضامن»، (١٩٨٩)

تتمحور الفكرة هنا حول إدراك أن الافتقار إلى الأسس وإمكانية حدوث أي شيء هو أمر جيد؛ إذ سيؤدي إلى مزيد من الليبرالية لأنه سيحدُّ من القيود المفروضة على المناقشات حول الممكن، فضلًا عن تكوين وعي لدى المرء بأن موقفه في تلك المناقشات نسبي؛ بمعنى أن وجهة النظر المعارضة قد يكون لها كذلك ما يبررها. يعتبر رورتي ذلك نوعًا من السخرية الوجودية، فمَنْ يتبنَّون هذا الاتجاه تساورهم الشكوك حول المفردات التي يستخدمونها؛ إذ إن مفردات الآخرين تبدو كذلك ناجحة في أداء مهمتها. ولا يمكن محو تلك الشكوك عن طريق أي «إجابة نهائية» أو موقف تأسيسي؛ إذ لن يتيقن المرء قَطُّ من أن الآخرين أدركوا أجزاءً من الواقع تزيد عما أدركه هو (عبر مفرداته الخاصة). أما في المجالات الفنية لا الفلسفية أو السياسية، فيزعمون تعدد أساليب الإبداع الفني مع عدم وجود أسلوب مفضَّل لتفسيره. بالطبع، من المفترض أن تتشابه الفلسفة مع النقد الفني أو الأدبي تشابهًا أكبر من المُعتقَد؛ ومن ثمَّ، تنبع السخرية من عجزنا الدائم عن النظر إلى أنفسنا أو إلى المفردات التي نستخدمها أو إلى النظرية أو المجال الفني الذي نتبناه نظرةً جِدية تمامًا؛ إذ لم يعد بوسعنا (في سياقٍ ما بعد حداثي) الاعتماد على الأفكار أو الحُجج الكبرى المتجاوزة والفاصلة، بل علينا الاعتماد بعضنا على بعض وعلى النتائج التفسيرية التي تترتب على الحوارات التي نجريها بيننا (بما فيها الإبداع الفني). وهكذا، تصبح معايير النجاح معاييرَ عملية تمامًا. لقد تعاقبت المفردات المختلفة وتعاقب المتنافسون عليها على مرِّ التاريخ، فمنذ فترة قصيرة كان «الرسم الهندسي الجديد» سائدًا، والآن أصبح الفنانون البريطانيون الشباب ومعرض «سينسيشن» يتصدران المجال. ولا تتمتع الحركات السياسية بوضع أفضل من الحركات الفنية في هذا السياق. فعلى سبيل المثال، التحول من السياسة التاتشرية إلى سياسة حزب العمل الجديد ليس سوى تغير مفردات من منظور رورتي — يتضمن كذلك القصص الملفقة التي تهدف إلى تلميع صورة السياسيين، والتي تصاحب كل حكومة — ولا يتعلق بظهور مناقشات أو مبادئ سياسية جديدة قائمة على أساس وجيه.

إذا قبلنا هذا النوع من وجهات نظر ما بعد الحداثة، فسيصبح لدينا بالقطع شكل من ليبرالية ما بعد التنوير، وهو نموذج قد يتمتع بالتأكيد بأكبر قدر من الجاذبية في الولايات المتحدة؛ نظرًا لالتزامها العام بمبدأ التعددية الثقافية، ولإيمانها بالحقوق وبفكرة تحسين الذات، فضلًا عن احتوائها على نسبة كبيرة من المؤمنين بالمعتقد المسيحي داخل إطارها الواسع كدولة علمانية. وهي أيضًا وجهة نظر علاجية — لا فلسفية — فهي تقترح ببساطةٍ «مناقشة الأمر تفصيلًا»، لكن هذا الاقتراح يظل بالطبع مجرد اقتراح، وفي حالة تبنِّي هذا الشكل (الساخر) من أشكال الليبرالية وفقًا للنمط ما بعد الحداثي الدقيق، فلن يزيد عن كونه شكلًا من أشكال الحياة المتعددة.

ربما كان من الأصعب رؤية هذا النوع من نظرة ما بعد الحداثة، الذي يدعو إليه رورتي شاغلًا قائمًا ومستمرًّا في بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا، فضلًا عن الدول المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي؛ حيث يتبنَّى الكثير مِمَّن قبلوا الجلوس إلى مائدة الحوار مواقف غير قابلة للنقاش، حتى وإن لم تكن مواقف (قومية أو إسلامية أو مسيحية أو ماركسية) تقليدية يتجلى ثباتها وفقًا للنظرية. لكن عندئذٍ سيطرح بعد الحداثيين المتشككون تعليقًا صائبًا على ذلك يزعم أن المشكلة تكمن تحديدًا فيما يعتنقه بعض الناس من معتقدات يقينية غير مبرَّرة تمامًا. ومن ثمَّ، عندما نطالب بإجراء «حوار بنَّاء» في أيرلندا الشمالية، فعلينا كذلك — وفقًا لوجهة نظر ما بعد الحداثة — أن نطالب بتمتع أطراف الحوار الرئيسية بدرجة ما من النسبية الساخرة، وهو شرط قد يجدون صعوبةً واضحة في تحقيقه.

إذن، تميل معتقدات ما بعد الحداثة نحو نسبية وتعددية ثقافية. وفي خضمِّ ذلك تقبل بسهولة وسذاجة كبيرتين الوضع اليقيني السائد حاليًّا؛ وهو أن معظمنا في الغرب الآن نؤمن بأننا نحيا في مجتمعات تحطمت فيها وجهات النظر التقليدية. وعلى الرغم من أننا قد نؤمن ﺑ «منطق» الوفاء بالوعود، فهل يمكن أن نظل مؤمنين به لوقت أطول في ضوء السياسة الواقعية الحداثية، وفي إطار يشبه على أيِّ نحوٍ الإطارَ الذي آمن به كانط وهيوم؟ إن تلك المبادئ التقليدية — وبدائلها — تفتقر حاليًّا على ما يبدو إلى أساس راسخ. يعبِّر جون جراي عن هذا الرأي قائلًا:

إنَّ حالة ما بعد الحداثة التي تتضمن وجهات نظر متعددة ومؤقتة، وتفتقر إلى أي أساس عقلاني أو متجاوز أو إلى رؤية موحَّدة للعالم، هي حالة خاصة بنا، قَدَرٌ كتبه التاريخ علينا، ومن العبث التظاهر بغير ذلك.

جون جراي، «صحوة التنوير»، (١٩٩٥)

رغم ذلك — وكما حاولت التوضيح فيما سبق — ينبغي مقاومة هذه الحالة، ومنعها من تبرير نوع من الاتجاه اللاتفريقي الساخر. إن الادعاء بامتلاك بصيرة تفكيكية راجحة يعتمد على مفاهيم الحقيقة، فالفكرة التي تزعم أن الذات تخضع للتشكيل الاجتماعي بطرق متنوعة ومختلفة تعجز على ما يبدو عن تدمير فكرة البشر كأفراد لكلٍّ منهم قصة حياة فريدة يكتبها بنفسه، أو فكرة أن حقوق الأفراد القانونية ينبغي الدفاع عنها في الإطار السياسي من خلال الرجوع إلى مبادئ أو مُثل عالمية، مثل تلك التي تدعو إلى المساواة أمام القانون. ومن ثمَّ، ينبغي عدم تجاهل المعتقدات التي تؤدي إلى الرَّجم العلني لامرأة «زانية» بوصفها انعكاسًا ﻟ «نمط الحياة السائد هناك» مقارنةً بالنمط «السائد هنا». يبدو أن نسبية ما بعد الحداثة — سواء كانت ساخرة أم لا — قد لا تزيد في الحقيقة عن دعوى مستترة لتقبُّل التعدد، تناسب الأنماط الشديدة الاختلاف من المواقف العِرقية والجنسية والفردية التي حظيت باهتمام كبير — في مجتمعات الرخاء والعيش المترف على الأقل — أثناء حقبة ما بعد الحداثة. لقد بذل فِكر ما بعد الحداثة جهدًا عظيمًا من أجل توضيح اختلافات الهوية المتضمنة هنا والدفاع عنها، لكن تلك الاختلافات غالبًا ما تؤدي في واقع الأمر إلى صراعات مريرة يحتاج حلها إلى مبادئ أفضل من مبادئ ما بعد الحداثة تلك. يرى البعض أن المثلية الجنسية تتعارض مع دينهم، بينما يرى آخرون، مثلي، أنها مسألة أذواق ولا تشتمل في ذاتها على عواقب أخلاقية، ويعتقد آخرون أنها تتضمن المشاركة في ثقافة أو اتباع نمط حياة يستحق بالفعل الدفاع عنه كنظام كامل لكن لا يمكن قبوله كحق إلا عندما لا يؤثر سلبًا على حقوق الآخرين. بناءً على ذلك، ما زال الكثير من مفكري ما بعد الحداثة في حاجة إلى قبول الحقيقة الأخلاقية النهائية المتضمَّنة في فِكرهم، التي ينبغي في رأيي ألا تعبر عن نسبية لا مبالية، بل تعبر في أفضل الأحوال عن تقبُّل حقيقة أن القيم المتضمنة في الأعمال الفنية المختلفة وأنماط الحياة المتباينة هي — كحقيقة لا تقبل الشك — غير متساوية ومتنازعة غالبًا. لكن تقبُّل مزاعم بعد الحداثيين المتنوعة على سبيل المثال ليس تقبلًا نسبيًّا «بطبيعته» (رغم أنه كثيرًا ما يُظن هكذا خطأً). إن التقبل هو استعداد قائم على مبدأ لتحمل التعبير عن معتقدات يرى المرء أنها خاطئة ويمارسها من أجل هدف أكبر؛ مثل حرية البحث أو تمتع الآخرين بالاستقلال الذاتي أثناء تشكيل هويتهم أو كتابة روايتهم الخاصة، لكن في رأيي شريطة ألا يؤذوا الآخرين في أثناء ذلك. لكن ينبغي ألا يُسمح لأي قدر من التقبل أو الشكوكية ما بعد الحداثية بالتعارض مع المُثل التي يعبِّر عنها إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان (رغم أن بعضها قابل للمناقشة) أو اتفاقية جنيف على سبيل المثال.

كما زعمتُ على مدار هذا الكتاب، تشبه ما بعد الحداثة إلى حدٍّ ما بيانًا حزبيًّا، فهي في الأساس مجموعة من المعتقدات لا يعتنقها الجميع في حقيقة الأمر، ومن المُستبعَد أن تعكس الحالة العامة التي يعيشها الرجال والنساء في المجتمع المعاصر. فإذا لم يكن لدينا إيمان مسبَّق بفِكر ماركس وفرويد — أو أيديولوجية أخرى — فسيستحيل علينا تعميم معتقدات ما بعد الحداثة باعتبارها تشخِّص الأوضاع «الفعلية» التي نعيشها. (وبالطبع، إذا فعلنا ذلك فسنصبح عندئذٍ متقبلين لذلك النوع من الالتزام الأيديولوجي الأكبر الذي طالما هدفت ما بعد الحداثة إلى مقاومته.) يعبر هانز بيرتينز تعبيرًا بليغًا عن هذا فيما يلي:

لا يعتنق الكل — رغم أن وجود ما بعد الحداثة ومناصريها في كل مكان قد يوحي بغير ذلك — وجهةَ النظر التي ترى أن اللغة تشكِّل الواقع لا تمثله، أو أن الفرد الحداثي المستقر والمستقل قد حلَّت محله دُمْيَة ما بعد الحداثة التي غالبًا ما يحدد الآخرون هويتها ودائمًا ما تخضع للتشكيل، أو أن المعنى أصبح مؤقتًا وخاضعًا للمفاهيم الاجتماعية، أو أن المعرفة لا يمكن اعتبارها معرفة إلا ضمن بنية خطابية محددة؛ أي ضمن هيكل سلطة محدد.

هانز بيرتينز «فكرة ما بعد الحداثة»، (١٩٩٤)

البدائل

لقد حقق نقد ما بعد الحداثة نجاحًا كبيرًا في إطار النُّصْح الأخلاقي، لكنَّ ادعاءه بتقديم إدراك فريد لحقيقة الحالة التي نعيشها، أو وصف كامل ودقيق للمجتمع، لا يقوم على أسس مقنِعة. من المهم إذن أن ننظر إلى أفكار أتباع ما بعد الحداثة وإنجازاتهم باعتبارها جزءًا من صورة أكبر تعكس التفاعل مع الاتجاهات العقائدية الأخرى؛ ففي جميع المجالات التي تناولناها — من الفلسفة إلى الأخلاقيات والنشاط الفني — توجد اتجاهات فكرية بديلة مفعمة بالحيوية خارج تلك التي روَّج لها بعد الحداثيين، أشهرها الاتجاه الليبرالي الأنجلو أمريكي. من بين مَن تبنوا هذا الاتجاه — على سبيل المثال — كُتَّاب مثل جون راولز، وجوزيف راز، ومايكل ساندل، وستيوارت هامبشير، وإيمي جتمان، ومارثا ناسبام، وويل كيمليكا، وجون جراي، ورونالد دوركين، وبرايان باري، ومايكل والزر. يبدو أن ريتشارد رورتي هو الفيلسوف الأنجلو أمريكي الوحيد المعروف لدى معظم مُنظِّري ما بعد الحداثة.

لذا، لن نجد على الأرجح إنجازات راسخة لفِكر ما بعد الحداثة في مجالي الفلسفة أو السياسة أو حتى في مجال الفِكر الأخلاقي، بل في الثقافة الفنية. ربما تخرج سياسيات حقبة ما بعد الحداثة من دائرة الاهتمام مع تغير الظروف التي تسبَّبت في ذيوعها، لكن ما سيبقى — إذا بقي كذلك تصوُّرٌ ما للتاريخ والتراث — هو تصور لما بعد الحداثة بوصفها ظاهرة ثقافية، تركت لنا مجموعة من الأعمال الأصلية الكبرى على مدار الثلاثين عامًا الأخيرة التي شهدت تأثيرها، تحديدًا لكُتَّاب مثل أبيش، وبارثلماي، وكوفر، وديليلو، وكثيرين غيرهم. وبالتأكيد يحتل عدد كبير من أولئك المشتغلين بالفنون الأخرى نفس المكانة باعتبارهم نماذج ﻟ (بعض) أفكار ما بعد الحداثة، من بينهم جوزيف بويس، وكريستيان بولتونسكي، وفرانك جاري، وفيليب جلاس، وجان لوك جودار، وروبرت روشنبِرج، وريتشارد روجرز، وسيندي شيرمان، وفرانك ستيلا، وجيمس ستيرلينج، وكارلهاينز شتوكهاوزن، وفيم فيندارس.

fig19
شكل ٥-٢: «جارية» (١٩٥٥–١٩٥٨) لروبرت روشنبِرج. («الصورة تؤدي إلى النسبية التي تؤدي بدورها إلى الشك.» ما الهدف إذن من الدجاجة التي تعتلي العمل؟)

لكن من المهم تذكُّر أنه في الفنون أيضًا ظلَّت الاتجاهات البديلة موجودة؛ لسببين رئيسيين؛ وهما استمرار الاتجاهات الحداثية، ووجود عدد كبير من الفنانين الذين تعلَّموا بعض الأفكار من حركة ما بعد الحداثة دون أن يتحوَّلوا إلى أتباع مخلصين لها. فيبدو أن بعض الحركات الحداثية قد استأثر بها بعد الحداثيين مباشرةً، مثل «الدادية» وطريقة دوشامب في تقديم الأغراض العادية «المُكتشَفة» كأعمال فنية، والبنائية (من خلال تأثيرها على الرسم التبسيطي أو رسم الحقل اللوني)، والسريالية (التي ألهمت كولاج ما بعد الحداثة بصوره التي لا تجمعها علاقة منطقية، كما في أعمال روشنبِرج على سبيل المثال). ليس من الصعوبة بمكان ملاحظة ذلك التشابه والترابط بين حقبة وأخرى (لا يوجد جديد هنا)، ويرجع التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة هنا إلى مجموعة من القيم المختلفة (على سبيل المثال، لا تستند سريالية ما بعد الحداثة إلى نظرية فرويد الكاملة). كذلك أدى هوس ما بعد الحداثة بالاختلاف السياسي — وبالفن بوصفه تعبيرًا عن مغزًى سياسي — إلى هجوم حتمي على ادعاء الحداثيين (الشامل) بوجود متعة (حتى وإن كانت مجرد متعة فردية برجوازية) مُستمَدة من السمات المباشرة أو الشكلية للأعمال الفنية. ورغم ذلك — كما ذكرتُ سابقًا — استطاع الرسم التعبيري الجديد تطوير سمات حداثية وتحقيق ازدهار في هذه الحقبة، دون أي ولاء كامل أو واضح لمعتقدات ما بعد الحداثة، وهو ما ينطبق أيضًا على الاتجاه التجريدي والاتجاه الواقعي بالتأكيد.

بالتأكيد نجح قدر كبير من النشاط الفني البارز في الفترة التي بدأت منذ عام ١٩٤٥ (وتحديدًا منذ عام ١٩٧٠، لأهداف هذا الكتاب) في التوصل إلى حالة من التوفيق بين الأفكار الحداثية وما بعد الحداثية. (بالطبع، سنواجه قدر الصعوبة نفسه الذي واجهناه في تعريف ما بعد الحداثة عندما نُعرِّف «الحداثة» في مواجهة «ما بعد الحداثة»، ومن الصعب للغاية تصنيف بعض الفنانين في هذا السياق.) فعدد كبير من أكثر الكُتَّاب تأثيرًا — مثل ميلان كونديرا، وإيتالو كالفينو، وسلمان رشدي، وجون بارث، وجوليان بارنيز، وماريو بارجاس يوسا، ومارجريت آتوود، وإمبرتو إيكو — مِمَّن تتضمن أعمالهم الكثير من قضايا هذه الحقبة؛ هم أبعد ما يكون عن الانتماء المطلق لفِكر ما بعد الحداثة. وهو ما ينطبق كذلك على فنانين مثل جنيفر بارتليت، وأنتوني كراج، وريتشارد ديبينكورن، وإريك فيشل، وهوارد هودجكين، وديفيد هوكني، وبيل جاكلن، وآر بي كيتاي، إلى جانب الكثير من المؤلفين الموسيقيين البارزين مثل جون آدامز، وهاريسون بيرتويسل، وجيورج ليجاتي، وفيتولد لوتوسوافسكي.

لذا، توازن روايات إمبرتو إيكو (وهو في حد ذاته أحد منظِّري ما بعد الحداثة البارزين) — على سبيل المثال — بين الحداثة وما بعد الحداثة؛ فروايته «اسم الوردة» (١٩٨٣) تبدو كرواية بوليسية مبنية على السعي الحداثي نحو الحقيقة، لكنها تتبنى أسلوبًا ما بعد حداثي واضحًا عندما «لا تكشف سوى قدر ضئيل جدًّا من الحقائق مع تعرض المحقِّق للهزيمة»، حسبما يصرح إيكو في ملحق الرواية. في الرواية، يقول ويليام باسكرفيل إنه اكتشف أن هورجيه هو القاتل «عن طريق الخطأ»؛ إذ كان يظن أن الأدلة تحوي نمطًا مستمدًّا من سِفر الرؤيا، لكنه في الحقيقة كان نمطًا عرضيًّا. فقد نجح في حل الكثير من الألغاز الفرعية لكن لم يتوصل إلى حل لغز الحبكة الرئيسي إلا عبر تفسير خاطئ (ساخر). لكن حالما لعب شون كونري دور ويليام في الفيلم المقتبس عن الرواية، نجح على ما يبدو في حل اللغز؛ لأنه ليس بوسع الفيلم التجاري تعريض جمهوره للكثير من إحباطات ما بعد الحداثة.

تشتمل أعمال الكثير من الكُتَّاب البارزين مثل إيكو على بعض عناصر ما بعد الحداثة الجلية، لكنها تحوي كذلك عددًا من السمات التقليدية الأكثر ثباتًا، التي تساعد بالتأكيد في وضع تلك الأعمال بالقرب من مركز الثقافة، في الموقع الذي تتمنى على الأرجح أن ترى نفسها فيه.

فيضٌ من الأعمال الفنية العظيمة خارج إطار ما بعد الحداثة

ما زال العنصر الرئيسي في التجربة الفنية لدى الكثير من الأفراد ينتمي إلى نوع من الواقعية الليبرالية، أكثر التزامًا بإمكانية الوصول إلى الحقيقة، وإمكانية بلوغ حقيقة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاعتبارات السياسية والإنسانية، مقارنةً بما بعد الحداثة. لقد قدَّم الروائيون الليبراليون التقليديون — أمثال جون أبدك، وبرنارد مالاماد، ونورمان ميلر، وسول بيلو، وفيليب روث، وهاينريتش بول، وإيان ماكيوان — أعمالًا ما زالت تلعب دورًا بالغ الأهمية في فهم الكثير من الناس للحياة المعاصرة، وهو نفس الدور الذي لعبته أعمال جون آشبيري، وفرانسيس بيكون، وإنجمار بيرجمان، ولوسيان فرويد، وجونتر جراس، وهارولد بنتر، وفرنسوا تريفو، وغيرهم. تلك هي مجرد قوائم أسماء قابلة للنقاش، لكنها تذكرنا هنا بالأساليب التي تمكِّننا كأفراد من تقديم أعمال تسجِّل القيم التي تهمنا وتحفظها، والتي لا تنتمي إلى نظريات أو حتى إلى التزامات سياسية واضحة. لقد كان فن ما بعد الحداثة جزءًا بارزًا حقًّا من هذا الحِراك كله لكنه لم يكن بالتأكيد الجزء المهيمن.

رغم ذلك لعب فن ما بعد الحداثة دورًا بالغ الأهمية في تجديد الصراع بين الشكوكية والإيمان، بين الليبرالية واليسار الماركسي، بين استراتيجيات فرض الأيديولوجيات وبين الحفاظ على الهوية المستقلة. وقد تحمَّل في تلك النواحي الجزء الأكبر من عبء تقديم توصيف ونقد «لنمط حياتنا الآن» منذ ستينيات القرن العشرين. ربما لم يتمكن مفكرو ما بعد الحداثة من إفساح مجال لهم في الأنشطة اليومية الفعلية التي يؤديها السياسيون المحترفون — ولم يؤثروا فيها سوى أقل تأثير في رأيي — على الرغم من أنهم ساهموا مساهمةً كبيرة في وضع منهج يتسم بالمزيد من الليبرالية في التعامل مع سياسات «الهوية» الخاصة بالجنسانية والعِرق. لقد نزعوا بوصفهم نقَّادًا ثقافيين إلى رؤية الاعتبارات الأخلاقية والسياسية بوصفها جدلًا حول شرعية أنواع معينة من النشاط «التمثيلي» الخاضِع لسيطرة الصورة.

في هذا الكتاب، حاولتُ أن أقدم وصفًا ونقدًا لما بعد الحداثة؛ لأنني أُومِنُ أن الفترة التي شهدت أعظم تأثير لها قد انتهت الآن؛ فمؤسِّسو فِكر ما بعد الحداثة يواجهون بدورهم الآن شكوكية جيل جديد؛ لهذا السبب حاولتُ فيما سبق التركيز على أفكار ما بعد الحداثة التي أرى أنها تتمتع بأطول استمرارية ممكنة. إن المعارك التي نشبت حول ما بعد الحداثة (على العكس تمامًا من تلك التي أُثيرت حول الحداثة) تمتعت بسمة مميزة — ويرجع الفضل في ذلك إلى «نشأة النظرية» — ألا وهي طرح الأسئلة الفلسفية الخالدة. إنَّ هذه الجدلية الضمنية العميقة — بين المنطق والشكوكية، وبين الواقع والصورة، وبين قوى الاحتواء والإقصاء السياسية — تقع في قلب فِكر ما بعد الحداثة، وهي جدلية سوف تستمر في الاستحواذ على اهتمامنا لفترة زمنية قادمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤