الفصل الثالث عشر

نفير الحرب

أرُوح إلى القُصَّاص كُلَّ عشيَّةٍ
أُرَجِّي ثوابَ الله في عدد الخُطَا

قالت العجوز الثكلى: إني لأجد ريحَ عتبةَ والنعمان، وأسمع رَجع غنائهما، فانظروا لي مَنْ ذلك الذي يُرَجَّعُ هذا الصوت، وإني به لبعيدة عَهْد.

قالت نوار: ذاك عتيبة، ما يزال منذ أيام يُرَجِّع هذا الصوت غاديًا ورائحًا …

– رحِم الله أباه وعمه، وبُورِكَ لي فيه وفي بشير، لقد أذكَرَنِي غناؤه أباكِ وعمَّكِ يا نوار؛ إذ كانا يُردِّدان هذا الصوت كلما غَدَوَا على المسجد أو راحا، فإن هؤلاء القُصَّاص الذين يغشَون مساجد المِصر للوعظ، والتذكير، ورواية الأخبار والنوادر ليوهِمُون من يَغشى حلقاتهم من الفتيان أنَّ يومًا في مجلسهم ذاك خيرٌ عند الله من سبعين صلاة، فما يزالون يجتذبونهم بهذا الخيط الدقيق حتى يلزموا حلقاتهم، ثم لا يزالون ينفثون في عُقَدِهِم من سحر القول حتى يسوقوهم إلى المنايا باسم الجهاد في سبيل الله.

ودخل عتيبة خفيف الخطا، فسمع، فقال: ماذا تقولين يا جَدَّة؟ أحرامٌ أن نغشى المساجِد، وأن نستمِع إلى القُصَّاص، وأن نخرج مجاهدين في سبيل الله؟!

– لم أقل هذا يا بُنَي.

– فما هذا الذي سمعت من قولكِ؟

– لقد قلتُ إنَّ في عتيبة ملامح من أبيه، وفي صوته أيضًا، وكان أبوك ينشد هذا الشعر إنشادَك كلما غدا على المسجد أو راح، ثم ذهب إلى الميدان البعيد، فلم يعُد، كما ذهب أخوه من قبل، طار على جناح شاعِر، ثم وقع …

– ولكن عتيبة سيطير فلا يقع.

– لقد هممت إذن؟

– نعم.

– وتعرف سبيكةُ أنك ذاهبٌ لحرب الروم؟

– قد عرفَتْ.

– وطابت بذلك نفسًا؟

– قد طابت نفسًا ورضِيَتْ.

– حسبتُها تأبى أن يشرع ولدُها سيفًا لحرب الروم.

– ولِمَهْ؟

– لأن … لأنها قد عرفت ما حرب الروم.

– لم أفهم!

– أعني أنها كانت خليقةً بأن تُشفِقُ عليك.

– عليَّ؟ …

– وعلى غيرك.

– من تعنين؟

– رجوت أن تشفق أمك عليك وعلينا، من سوء ما ينالنا به فراقُك.

– بل عنَيْتِ معنًى آخر يا أُم!

– أيُّ معنى؟

– تسألينني؟

– لقد ظننتني أُضمِرُ وراء كلماتي معنًى غير ما فسَّرتُ لك، فسألتُك …

– بل إنكِ لتُضمِرِين معنًى آخر …

وكانت نوار صامتة تستمِع إلى ما يدور بين الفتى وجدته من حوارٍ بدأ رفيقًا هيِّنًا، ثم أوشك أن يكون خصامًا، فقالت في رقَّة: إنَّ جدتك لتعرِف حميِّتَك يا ابن عمِ، ولكنها تُشفِقُ عليك وتجزع لفراقك، وإنك لتذكر ما قلت لك قبل أن تتحدث إليك جدتُك …

فاعتدلت الجدة في مجلسها، ونظرت إلى نوار قائلة: هل قلتِ له؟

– حاولت يا أم أن أحول بينه وبين ما اعتزم، فلم يستمِع إليَّ.

– أكذلك يا عتيبة؟

– نعم.

– ورضيَت أمك؟

– كانت أدنى إلى الرضا من نوار، ومنكِ.

– وأذِنَت لك أن تشرع سيفك لحرب الروم؟

– وإذِنَت لي طيبة النفس.

– ولم يَسُؤها أن يفارقها ولدها إلى حيث تتوزَّعها الهواجِس والهموم، وتصطرع في نفسها المخاوِف؟

– بلى، قد ساءها، ولكنها قد علِمَت أنه حق البطولة على كل عربي.

قالت نوار: بل حق البطولة على كل أمٍّ عربية.

قالت الجدة: قد صدقت سبيكة وبرَّت.

ثم أطرقَت وهي تقول، وقد جال في عينيها الدمع: فاذهب مأجورًا يا عتيبة والله يكلؤك.١

وقف عتيبة في فناء الدار مُشَمِّرًا حاسر الذراعين يشدُّ متاعه إلى ظهر راحلته وهو يُنشِد:

وأُشفِقُ من وشك الفراقِ وإنني
أظُنُّ لمحمولٌ عليه فراكبه
فوالله ما أدري أيغلبني الهوى
إذا جدَّ جِدُّ البَينِ أم أنا غالبه
فإن أستطِع أغلِبْ وإن يغلب الهوى
فمثل الذي لاقيتُ يُغلَبُ صاحبُه

وكانت عينان دامعتان تَرقُبانه من وراء السَّجف، حيث تورات فتاة موجعة القلب تراه وتسمع نشيده من حيث لا يراها ولا يسمع نشيجها …

وبغتتها سبيكة، فوضعت راحةً على كتِفها، وهي تقول في رقةٍ وعطف: أنتِ هُنا وهو هنالك، فهلَّا تراءَيتِ له لتَشُدِّي عزمه ساعة الفراق؟

قالت الفتاة وأطرقت مُستحيية: خشيتُ أن يَهِنَ حين يراني، أو يرى في عينيَّ الجزع واللَّوعة.

وكان صوتٌ آخر ينبعث من بعض غرفات الدار منشِدًا:

إذا ما أراد الغزوَ لم تثن هَمَّهُ
حصانٌ٢ عليها نظمُ دُرٍّ يزينها
نهته، فلما لم ترَ النَّهْيَ عاقهُ
بكت فبكى مما شجاها قطينها٣

ووضع الفتى ما كان بين يديه، ورفع رأسه مُنصِتًا، ودلفت الجدة الثكلى إلى حيث كانت أمُّ نوار جالسة تُدندن ذلك الشعر، فقالت لها عاتبة: عهدُكِ بالغناء بعيد يا أم بشير، فهلَّا أشفقتِ اليوم على الصبي والصبية أن يسمعا غناءكِ هذا؟

قالت أم بشير ولم ترفع إلى العجوز عينين: لقد كان ذلك والله أحبَّ الشعر إلى عتبة حين يُزمع رحله!

قالت الجدة، وهي منصرفةٌ قد ضاقت نفسها بما سمعت من جواب: فقد رحل عتبة، ولم يعُد.

وسكن الصوت، فعاد الفتى يُنشِد وهو يعالج أحماله:

وأُشفِقُ من وَشْكِ الفراق …

وخفَّت إليه نوار معجلةً قد سوَّت ثيابها، وجفَّفَت دموعًا في عينيها، ثم استقبلته قائلة، وقد اصطنعت الابتسام والمرح: ماذا سمعت من إنشادك يا عتيبة؟ هلَّا كان قولُكَ لنفسك:

أشَوقًا ولَمَّا تمضِ بي غيرُ ليلةٍ
فكيفَ إذا خَبَّ المَطِيُّ بِنا عَشرًا؟

قال، وقد مدَّ يدين إلى يدين، والتقت عينان بعينين: بالله أعيدي يا نوار؛ فقد وقَعْتِ على ما كان يهجِسُ في نفسي، ولا تلفظه شفتاي.

واختلجت يداه في يديها، فدفعهما إلى كتفيها، ومال عليها بوجهه، فأفلتت من بين يديه، وهي تقول مؤنِّبَة: وكنت حريًّا أن تُنشِد:

قومٌ إذا حاربوا شدُّوا مآزرهم
دون النساء ولو باتت بأطهار

ووثبت إلى الدار وخلَّفتهُ في الفناء مبسوط اليدين، قد ذُهِل عما حوله من الزمان والمكان والناس، ثم ترامى على بعض ما ازدحم في الفناء من المتاع، وأخفى وجهه في راحتيه.

•••

الناس جميعًا في شغلٍ بالتهيُّؤ لتلك الحملة العظيمة التي يُجهِّزُ لها مسلمة، كل ذي قوةٍ من شباب العرب يرجو أن يكون له شأن في هذه المعركة …

إنَّ أبا أيوب الأنصاري يدعو ضيفانه إلى المأدُبة العُظمى في رحاب قيصر.

القُصَّاص في مساجد الأمصار قد تأطَّر الناس حولهم حلقات حلقات، يستمعون إلى قصصهم مشوقين، يود كل منهم أن يطير إلى الميدان بجناحين …

الشباب والكهول يُهيِّئون أنفسهم لرحلة طويلة المدى بعيدة الأمد، قد احتقبوا ما قدروا عليه من زادٍ وعتاد وكسوة تصلح للشتاء والصيف …

نساء الأمراء والسادة ينفُضن الطيب والحُليَّ عن غدائرهن يجعلنها في بيت المال أعطياتٍ للجند …

الزوجات والأخوات يغزلن وينسجن ويخبزن ويُقَدِّدن ليهيئن لأزواجهم وإخوتهن كسوة ثقيلة، وغذاء طيبًا يدفع عنهم برد الشمال القارِس …

الأمهات يُصَلِّين ويدعون ويصنعن لأولادهن الرُّقَى والتمائم.

الكواعِبُ الحسناوات — وغير الحسناوات — قد خَطَّ الدمعُ على وجناتهن خطوطًا لم تزل مبتلَّةً أبدًا.

الصبيان والبنات في فرحٍ ومَسَرَّة بما يرون حولهم من مظاهر النشاط، لا يكادون يدرون بما ينتظرهم من أيام القلق والهم والوحشة …

الأيامى والأرامل يبكين أزواجهن، كأن قد فقدْنهم منذ هُنيهات.

الشيوخ قد ردَّهُم ما يرون، وما يسمعون إلى الصِّبَا وذكرياته، فانطلقت ألسنتهِم بالحديث عما خاضوا من المعارِك المُظفَّرَة في الأيام الخالية، وما أبْلَوا في الجهاد، وما حصَّلوا من الغنائم، وما حازوا من السبايا …

•••

البادية الرَّحْبة قد ازدحمت بالخلائِق، وانتثرت فيها خيام الجُند، فضجَّت وعَجَّت؛ ففي كل خيمة حديث بين اثنين أو بين جماعة، وما تزال أصداء الأغاني تتناوح بين المضارِب، تُعبِّر عن ألوان من الإشفاق والرهبة، أو من الشوق واللهفة، أو من العزم والفُتُوَّة.

هذا فتى لم ينسَ آخِر لياليه في الحاضرة، ويُنشد حرَّان الفؤاد:

بنفسيَ من لو مرَّ برْدُ بنانه
على كبدي كانت شفاءً أنامله
ومَن هباني في كلِّ شيء وهِبتُهُ
فلا هو يعطيني ولا أنا سائلُه

وذاك فتى آخر يستقبِل أول أيام الفراق باللوعة، فيُغنِّي:

يطول اليوم لا ألقاكَ فيه
ويومٌ نلتقي فيه قصيرُ
وقالوا: لا يضيرُكَ نأيُ شهرٍ
فقلتُ لصاحبيَّ: فما يضير؟

وثالث يتهيَّأ للغارة قبل إبان الغارة، فيُنشِد:

وإنا لَتُصبِحُ أسيافُنا
إذا ما اصطبحن بيومٍ سَفُوكِ
منابرُهُنَّ بطون الأكفِّ
وأغمادهنَّ رءوسُ الملوكِ

ورابعٌ قد خرج للغنيمة والتماس أسباب الخَفْض والدَّعة، قد خلَّف من أجل ذلك أهله وجيرانه، فيقول:

لا يمنعنَّكَ خفضَ العيش في دَعَةٍ
نزوعُ نفسٍ إلى أهلٍ وأوطانِ
تلقى بكلٍّ بلادٍ إن حللت بها
أهلًا بأهلٍ وجيرانًا بجيرانِ
وآخر يجاذبه هواه وتصطرِع الهواجس في نفسه بين ما خلَّف من النعيم وما يستقبِل من المشقة، فيجذم حباله٤ ويمضِي إلى ما اعتزم مُنشِدًا:
… جَذَّامُ حبلِ الهوى ماضٍ إذا جَعَلَتْ
هواجسُ الهمَّ بعد النومِ تعتكِرُ
وما تجهَّمَنِي ليلٌ ولا بلدٌ
ولا تكاءدني عن حاجتي سفرُ

والسفائِن مُرْسية في الثغور تتأهَّب للإقلاع، عليها الجُند والعتاد والمتاع والزاد، قد اختلطت فوقها الأحاديث، وتنوَّعَت الأمانيُّ، واصطرعت العواطِف؛ فعلى ظهر البحر كما في البادية، مُفارِقٌ حرَّان الفؤاد، ومَشُوق في أول أيام البعاد، وثالث يُهيِّئ سيفه وترسه للدفاع والغارة، ورابع يحلُم بالغنيمة قبل أن يخوض غمار المعركة، وخامس وسادس، وفنون شتى من الخَلق قد توزَّعَت نفوسهم الهواجِسُ، ولكن أمانيهم جميعًا تلتقِي عند غاية واحدة؛ هي الظفرُ بالروم في المعركة واقتحام مدينة قيصر.

وأذَّنَ المؤذِّن بالرحيل؛ فتحرَّكَت الكتائِب في البر، وأقلعت السفائِن في البحر، وكانت قيادة الجيش لمسلمة بن عبد الملك …

وصحب الخليفةُ جيشه حتى بلغ أطراف الشام؛ فأقام ينتظِر بِمَرْجِ دابق — على عدَّة مراحِل من حلب — واستأنف الموكِبُ سيرَه …

١  يحفظك.
٢  الحصان: المرأة المحصنة الشريفة.
٣  القطين: الخدم والأهل.
٤  يقطع علاقاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤