الفصل الرابع

وَيْك مسلمة

ثبتت دعائم العرش لبني مروان، ولم يكن الخليفة عبد الملك في غفلةٍ عما يقتضيه هذا العرشُ من حق التدبير في حياته وبعد موته … فإنه ليخشى أنْ يتواثَب إليه الطامعون من السُّفيانية أو الهاشمية بعد موته، وقد خلَّف عبد الملك بضعة عشر ولدًا كلهم لأبٍ، ولكنَّ أمهاتهم شتَّى؛١ منهن العبسية، والمخزومية، والهاشمية، والسُّفيانية، ومنهن أمهات أولادٍ٢ من الترك والسودان والروم وبنات كسرى، فما أحرى كلَّ واحدة من هؤلاء الضرائِر أنْ تُرَجِّى العرش لولدها، وأنْ ينفخَ فيه أخواله من روح العصبية ما يدفعه إلى الفتنة …٣
لقد كان عبد الملك شيخًا من أهل الرأي قبل أنْ يلي هذا الأمر،٤ وكانوا يسمونه فقيه بني مروان؛ لصلاحه وعلمه وطول ملازمته لأهل الحديث وحَمَلَة القرآن، وأصحاب الرأي من العُبَّاد والصالحين وأهل التحرُّج،٥ فما كان أجدر شيخًا هذا مكانه أنْ يترك أمر المسلمين شورى بينهم، يختارون بعده من يشاءون لِيَلِي أمرهم، لولا أنه يخشى عليهم الفتنة، فليُوَلِّ عهده رجُلًا من أهل هذا البيت المرواني، ينهض بأمر الدولة من بعده؛ ليذهب إلى ربِّه راضيًا مطمئنًّا قد أَمِنَ على هذه الأمة أنْ تتوزَّعها الفتنُ وأسبابُ المطامع.
إنَّ أباه مروان قد جعل العهد من بعده لأخيه عبد العزيز بن مروان، ولكنَّ عبد الملك يرى بنيه أحقَّ بهذا العرش وأقدر على صيانته، لولا أنَّ بنيه كثير، قد تقاربوا أعمارًا، وتشابهوا مزايا، وتشاكلوا كفاية.٦
لو لم يكن الوليد لحَّانًا لا يكاد يُقيم لسانه بالعربية، متلافًا لا يكاد يُمسك درهمًا … إنه لأحبُّ إلى عبد الملك، وإنَّ أمه لأدنى إلى قلبه منزلة.٧
لو لم يكن سليمانُ بطينًا أكولًا تيَّاهًا كثير العجب بنفسه … إنَّ أمه العبسية لترجوه كما ترجو أخاه الوليد، ولكن الوليد أسَنُّ منه.٨
وإنَّ هشامًا لحقيق بأن يَلِي هذا الأمر يومًا، لولا أنه جبانٌ بخيل، ولولا خشيةُ ما يتدسَّسُ إليه من حُمقِ أمِّه المخزومية، وما كان عبد الملك ليولي عهده ابن مطلَّقَته الحمقاء، ويَدَع الذين نشئوا على عينيه من بنيه.٩
وإنَّ يزيد لأعْرَقُ بنيه أمومة،١٠ فأُمُّه عاتكةُ بنتُ يزيدَ بن معاوية، أبوها خليفة،١١ وجدُّها خليفة،١٢ وزوجها خليفة،١٣ فما أحرى ولدها أنْ يكون خليفة كذلك فيضمَّ المجد من أطرافه، لولا أنَّ يزيد لم يزل صبيًّا لم يبلُغ مبلغ أهل الرُّشد.
وهناك — إلى هؤلاء — عبد العزيز بن مروان أخو الخليفة، ما يزال يطمع في العرش بعد عبد الملك، بعهدٍ من أبيه مروان.١٤
ولكن ما بالُ عبد الملك لم يذكر ولده مَسْلَمَة، وإنه لأشبُّ بنيه شبابًا، وأجرؤهم قلبًا، وأسدُّهم رأيًا، وأكثرهم حَمِيَّة، وله الراياتُ البيضُ لم تزل تخفِق على السفائن غاديةً على سواحِل الروم للغزو، أو مرفرفةً فوق رءوس الجند في البَرِّية لبَيات العدو١٥ … ولكن مسلمة — إلى كل ذلك — من أبناء الجوارِي، فكيف يليها ابن الرومية، ويُحرَمها أبناء الحرائِر من بنات عبس ومخزوم وأمية! …١٦

•••

أقيمت حَلْبَةُ السِّباق في ظاهر دمشق على العادة في كل موسم،١٧ وتقدَّم فتيانُ العرب بأفراسهم المضمَّرة، يطمعُ كل منهم أنْ ينال بالسبق جائزة أمير المؤمنين عبد الملك، وجلس عبد الملك على شرفٍ في طرف الحلبة،١٨ قد أقيم له سرادق من خز، ونُصبت على رأسه راية بيضاء، وكان الشوط الأول للأمراء من بني عبد الملك؛ الوليد، ومسلمة، وسليمان، ويزيد، وهشام.
وأشار رائضُ الحلبة إشارته،١٩ فوثب الأمراء على ظهور الجياد، وشدوا اللجُم، ومالوا على الأعناق، يتبعهم الآلاف بعيونٍ جاحظةٍ، وأنفاسٍ مبهورة، وأعناقٍ تتلوَّى على كواهلِ أصحابها، وبدا كأنَّ مسلمة سيبلُغ آخر الشوط قبل إخوته، فبدت الكراهة في وجه عبد الملك، على حين انبعث من جوانب الحلبة هُتافُ الجماهير باسم الأمير المظفَّر في كلِّ غَزَاة: مسلمة بن عبد الملك.

ولكن فرس مسلمة لم يلبث أنْ عثر براكبه، ثم لم يكد ينهض ليستأنِف عدوه، حتى سبقه إخوته جميعًا وبلغوا آخر المدى …

وطأطأ مسلمة رأسه أسفًا وهو يتقدَّم في صف من إخوته إلى مجلس أبيه في سرادقه ذاك؛ ليستمع إليه وهو يُنشِد متمثِّلًا:٢٠
نهيتكمُ أنْ تحملوا فوق خيلكم
هجينًا٢١ لكم يوم الرهان فيُدرَك
فتعثر كفَّاه ويسقُط سوطه
وتخدر ساقاه فما يتحرَّك
وهل يستوي المرءان هذا ابن حُرَّةٍ
وهذا ابن أُخرى ظهرها متشرَّك

قال مسلمة وقد بدا في وجهه الغضب: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، ليس هذا مثلي، ولكن كما قال الآخر:

فما أنكحونا طائعين بناتهم
ولكن خطبناهم بأرماحِنا قسرًا٢٢
فما زادنا فيها السِّباءُ مذلَّةً
ولا كُلِّفَت خبزًا ولا طبخت قِدرًا٢٣
وكم قد ترى فينا من ابن سبيَّةٍ
إذا لقى الأبطال يطعنهم شَزْرًا
ويأخذ ريَّان الطِّعَان بكفِّهِ
فيوردها بِيضًا ويُصدرها حُمرا …
ثم أردف: إنَّ الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات يا أمير المؤمنين، وقد كانت أم إسماعيل بن إبراهيم جارية٢٤

ولمعت دمعتان في عيني عبد الملك واختلجت شفتاه، فقال وهو يميل على مسلمة فيُقبِّل رأسه وعينيه: أحسنت يا بني، ذاك والله مكانُك.

وانفضَّت الحلبة، وعاد عبد الملك إلى قصره وعاد بنوه، ولكن حديثًا ما ظلَّ يدور في رأس عبد الملك منذ ذلك اليوم، ويدورُ مثلهُ في رأس مَسملة وفي رءوسٍ أخرى …

١  كان لعبد الملك أربع زوجات وعديد من الحظايا، وله من هؤلاء وأولئك أولاد، بلغت عدتهم بضعة عشر.
٢  الجارية إذا ولدت لسيدها، ارتفعت منزلةً، فصارت في مكانة وُسطى بين الجارية والحرة، وتسُمى حينئذٍ: أم ولد.
٣  لكل ولد عصبية من أسرة أمه.
٤  قبل أنْ يصير خليفة.
٥  التحرُّج: خوف الله.
٦  أعمارهم متقاربة، وصفاتهم متقاربة، وكفايتهم متقاربة.
٧  من عيوب الوليد بن عبد الملك، أنه كان يلحن في العربية، ويُسرِف في النفقة.
٨  ومن عيوب سليمان، أنه كان نهِمًا لا يكاد يشبع، كثير الإعجاب بنفسه، وكان أصغر سنًّا من الوليد.
٩  وكانت أم هشام معروفة بالحماقة؛ ولذلك طلَّقها.
١٠  يعني أنَّ أم يزيد كانت أعرق نسبًا من جميع الأمهات، ولكنه كان طفلًا …
١١  هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ثاني ملوك الدولة الأموية.
١٢  هو معاوية مؤسس الدولة.
١٣  هو عبد الملك نفسه.
١٤  كان عبد العزيز بن مروان، أخو عبد الملك، أميرًا في مصر، وكان أبوه مروان بن الحكم قد جعله وليًّا للعهد بعد أخيه.
١٥  البيات: الهجوم الباغت.
١٦  عبس، ومخزوم، وأمية: قبائل عربية.
١٧  كان للعرب عناية بسباق الخيل، لا للمراهنات، بل لتشجيع الفروسية …
١٨  شرف في طرف الحلبة: منصَّة في صدر الميدان.
١٩  رائض الحلبة: هو الحكم.
٢٠  متمثلًا: قائلًا من شعر غيره.
٢١  الهجين: هو غير الخالص العروبة.
٢٢  خطبناهم قهرًا، بسيوفنا!
٢٣  السباء: الأسر.
٢٤  إسماعيل بن إبراهيم: هو أبو عرب الشمال، وكانت أمه جارية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤