الفصل السابع

راهب البلقاء

ويجلس الوليد بن عبد الملك على عرش بني مروان في دمشق، وتستمر الفتوح شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، ويشرع الوليد في بناء مسجد دمشق،١ ومسجد الرسول بالمدينة، ويأخذ في تعمير المرافق، وإعانة الزَّمْنَى،٢ وتأمين المحتاجين وذوي الخلة،٣ ويتردد اسم الوليد بين أربعة أقطار الأرض …

وتقول وَرْدُ لولدها مسلمة: كيف رأيت أخاك الوليد على العرش يا أبا سعيد؟

– رأيتُ خيرًا يا أم، لو وَفَى لأخيه سليمان.

– ماذا؟!

– أحسبهُ يا أم يحاول خلع أخيه من ولاية العهد ليجعلها لولده.

– وعهدُ أبيه ووصاتُه له؟

– لقد همَّ أبوه أنْ يغدر بأخيه عبد العزيز لولا أنْ عَجِلَ إليه أجلُه، فما أجدر الوليد أنْ يغدر بسليمان!٤
– إلا أن يَعجَل إليه أجلُه.٥

– من تعنين يا أماه؟!

– لم أعنِ أحدًا، فليَخْتَر القدر.٦

– ولكن سليمان حقيقٌ بأن يليها!

– كلاهما أخوان لأبٍ وأم.

– ولكن راهبًا في دير منعزل من أرض البلقاء٧ أنبأني أنَّ سليمان سيليها، ويفتحُ الله عليه بلادًا لم تطأها من قبل قدمُ عربي!
– أيَّ بلادٍ حدسْت؟٨

– القسطنطينية …

– مُرادك بعيد يا مسلمة، فما دامت هذه الأسوار، وتلك الحصون، وهذه النار الروميَّة التي يقذفونها على الغزاة، فما تدع من شيء إلا جعلته ترابًا؛ فلستُ آمُلُ أنْ تُفتَح عليكم حاضرةُ الروم من ذلك الطريق.

– ولكننا سنأخذ عليها كلَّ طريق، ونسلك سبيل البحر والسهل والجبل، من الشرق والغرب والشمال والجنوب، فلا تملك إلا التسليم.

– أيُّ شمال وجنوب؟ وأيُّ شرق وغرب؟

– لقد وطيء جيشُ العرب جزيرة الأندلس يا أماه، فما أسرع ما تنثال٩ جيوشهم في الأرض الكبيرة زاحفة نحو الشرق، فيقتحمون على القسطنطينية أبوابها من الغرب، وقد ملك قُتيبة بن مسلم من أقصى بلاد الترك إلى جبال القبج وبحر بنطش،١٠ فما أسرع ما يثب من البحر إلى الساحِل، وهذا جيش مَسلمة١١ ما يزال يُراوحها ويُغاديها من البر والبحر، فهل تَرَيْنَ لها خلاصًا بين هذه القوات الأربع؟

– ويجلس مسلمة على عرش قسطنطين؟

– ويجلس مسلمة على عرش قسطنطين، ويحقِّقُ لأمِّه أمنية، ويدع أبناء عبد الملك يتصارعون على عرش أمية.

– وتُكبِتُ عدوِّي وعدوَّك يا مسلمة؟

– ويبلغ عدوِّي وعدوُّكِ من هوان الشأن ما لا يحمل أحدًا على التفكير في أمره!

•••

كان الإسلام في ذلك العهد دينًا خالصًا لله — كأوَّل عهد المسلمين به يوم نَزَلَ — لم تدخله خُرافةٌ، ولم يغلُب عليه باطلٌ، ولم يبتدِع فيه مُبطِلٌ حَدَثًا، إلا بعضَ ميراث الجاهلية في العامة من الإيمان بالنجوم والتماس علمِ الغد عندها،١٢ وإلا مطمعَ بعض الخاصة في صدق الرؤيا والهاتف وحَدْسِ النفس المؤمنة،١٣ فقد حدَّثهم مَنْ حَدَّث أنَّ النبي قال: إنَّ الرؤيا بَضْعَةٌ من النبوة،١٤ وإلا بعض ما ألهمتهم آياتٌ من القرآن الكريم عما يتوارثه بعضُ أهل الكتاب من علمٍ عن الغد يجدونه مكتوبًا عندهم في الإنجيل والتوراة،١٥ فهم يلتمسونه عند الرهبان المنقطعين للعبادة في الأديار والبِيَع١٦ المنتثرة في أرض البلقاء ووادي الأردن وأرباض الشام١٧ وأطراف الجزيرة؛ وإلا ما أحدثه بعض الفِرق الإسلامية الناشئة مما يسمونه علم الملاحم ويُسندونه إلى فلان، إلى فلان، إلى علي بن أبي طالب، ويزعمون أنَّ فيه علمَ الغد كلَّه مكتوبًا في «جفر»١٨ على سبيل الرمز والإيماء، فلا يحلُّ طِلَّسْمَهُ إلا من أوتي حظًّا من علم.

وكان إيمان الناس في ذلك العهد بهذه المستحدثات يختلف باختلاف بيئاتهم وميراثهم العقلي وحظِّهم من فهم الإسلام.

ولكن كلَّ نفس تستشرف إلى معرفة ما استسرَّ في غدها من غيب الله؛١٩ فلا عجب أنْ نرى — في مثل ذلك العهد — طائفة من أهل التمييز والبصيرة، لا تستنكِف من غِشيان الأديار وصوامع الرُهبان تسألهم بعضَ ما عندهم من علم الغد!

وكذلك رأى مسلمة بن عبد الملك نفسه مَسُوقًا ذات يومٍ إلى دير من هذه الأديار، يسأل راهبها بعضَ ما عنده، وكان يصحبه في سَرْحته تلك مجاهدٌ من أهل اللاذقية اسمه النعمان بن عبيد الله …

•••

قال مسلمة للراهب: يا شيخ، هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟٢٠

– نعم، نجد ما مضى من أمرِكم، وما أنتم فيه، وما هو كائنٌ!

– أَفَمُسَمَّى أم موصوفًا؟٢١

– كل ذلك موصوفٌ بغير اسم، واسمٌ بغير صفة.

– فهل ترى من صفتي وصفة صاحبي هذا عندك؟

– أمير يعزفُ عن الإمارة،٢٢ أو تعزِف عنه الإمارة؛ ينزع به عِرق، ويجذبه عرق٢٣ جرادةٌ صفراء، تحت راية بيضاء، يُفتح به لغيره ولا يُفتح له، عن يمينه على العرش أربعة، وعن يساره أربعة، يدنو حتى يكون قابَ قوسين، فيقف بَيْنَ بَيْن، ثم يُفلتها بعد الأَيْن،٢٤ بينه وبين ما يأمله مائتان ومائتان وثلاثمائة، ثم يكون ما أراد، حين لا متاع له بشيءٍ من ذلك الزاد، إلا عين جارية، وسيرة باقية، ويُذكر أبو أيوب، وأبو سعيد، ومحمد بن مُراد٢٥

– وهذا الخليفة الجالس على العرش؟

– اسمُ صبي٢٦ وما هو بصبي، ترمقه العيون، وتتوهمه الظنون، وهو مما يُراد به في حرزٍ مَصون، يُعلي البناء، ويُوسِع الفناء، ويُجزِل العطاء، ويلدُ النُّجَبَاء، ثم يمضي كما جاء، ويخلفه مَلِكٌ له اسمُ نبيٍّ، ووجهٌ وَضِيٌّ، تُفتَح عليه بلاد لم يسلكها بدوي، ولم تطأها قدمُ عربي، يا سليمانَ بن داود! ارفع الغطاء عن المائدة للضيفان، إنَّ للمأدُبة موعدًا قد حان!
وصمت الراهب برهة، وأطرق، ومال مسلمة على أذن رفيقه يُسِرُّ إليه، ثم رفع الراهب رأسه يقول: وصاحبٌ بالجنب يَنشُدُ ضالَّة، والضالة تَنشُدُ ناشدَها، والباب بين الناشد والمنشود عليه قُفل ورِتَاج، وسِترٌ من ديباج … أيُّها الصبي، أيَّتُها الجارية، إنَّ لكما وراء هذا الباب عُمومةً وخُئولة؛ اختلط الدم بالدم، وتدسَّسَ العِرقُ إلى العِرق،٢٧ ويلك لو انكشف المخبوء وانهتك الستر وأُزِيح النِّقَاب، لقد نذرتَ نذرًا ونذَرَت المقاديرُ نذرًا، فأوفِ بنذرك، أو تجاوز عن ثأرك، فستبلغ المقادير غايتها برغمِك، ويشهد الأميرُ ضاحِكَ السنِّ عاقبة أمره وأمرك، فيحدب٢٨ على الوليد، ويترحَّمُ على الشهيد، ويصلُ رَحِمَ القريب والبعيد!
وتفصَّد جبينُ الشيخ عَرَقًا٢٩ كأنما كان يَمْتَحُ على رأسِ بئر،٣٠ ثم تنفَّس نفسًا عميقًا كأنما خرج من جُبٍّ، وراح يُقلِّبُ عينيه بين الأمير وصاحبه صامتًا، والأمير وصاحبه يتبادلان نظراتٍ لا تكاد تُفصِح عن معنى.

•••

وقال الأمير لصاحبه وقد أخذا طريقهما إلى المدينة: هل فهمتَ مما وصف الراهب شيئًا يا أبا عُتيبة؟

– قليلًا يا مولاي، وغاب عني الكثير!

– أفتدرِي ما المائتان والمائتان والثلاثُمائة؟!

– أحسبه يعني الذين يُستشهدون منَّا قبل أنْ تدين القُسطنطينية بالفتح.

– أكذلك تزعم؟

– وماذا تكون هذه السبعُمائة إلا ذلك!

– ظننته يحصي الأيام أو الأسابيع، فإن كان ذلك فإن بيننا وبين الفتح عامين، أو أربعة عشر عامًا …

– أو بضعة وخمسين!٣١
– وَيْ!٣٢
– بَلَى، فما أراه — إنْ كان يحصي الأزمان — إلا حاسبًا حساب الأهِلَّة،٣٣ لا الأسابيع ولا الأيام.

– ذلك كثيرٌ يا أبا عُتيبة!

– ولكنه في عُمر الدول قليلٌ يا مولاي.

– أخطأ حَدْسُك؛ فإني أزعم أنْ سيكون ذلك في عهد سليمان،٣٤ وتُفتح عليه بلادٌ لم يطأها عربي، أفترى سليمانُ يُعَمَّرُ بضعة وخمسين؟

– أفذلك قوله لابن داود: «ارفع الغطاء عن المائدة للضيفان.»

– ظننته كذلك.

– لقد كان لسليمان بن داود يا مولاي مُلكٌ لا ينبغي — في بني إسرائيل — لأحدٍ من بعده، فما أحرى هذا أنْ يكون بُشرى لسليمان بن عبد الملك أن تُفتح عليه كنوز الدنيا!

– ويكون اللواء في يدي يا أبا عُتيبة!

– ويكون أبو عُتيبة في ظلِّ لواء الأمير!

– ونبلُغُ عرش قسطنطين الأكبر، ونطأ بساطه، ونحطِّم أصنامه، وأدفع إليك عشرةً من بطارقته تحتزُّ رءوسهم ثأرًا لأخيك.

– سيدي!

– ماذا يا نعمان؟

– لقد تحدَّثَ الراهبُ عن الضَّالة وناشِدها حديثًا لم أعِه!

– أفلم يقُل إنني سأشهد عاقبة أمرِك ضاحكَ السن؟

– بَلَى …

– فماذا يعنيك من سائر هَذَيَانه وخلطه؟

– أتراه يهذي ويخلط يا مولاي؟ فلماذا يصدُقُ في الحديث عنك، ويخلط في الحديث عني؟!

– أفظننتَ هؤلاء الرهبان يا نُعمان يَصدُقُون في كل ما يَحكون؟

– ولِمَ لا …؟

– فَهَبْهُمْ قد علِموا من كتبهم غيب الملوك والأمراء، فمن أين لهم غيبُ سائر الناس؟

– وماذا يَحْمِلُهُ على أنْ يكذب؟

– ذلك يا نعمان كلُّ ما بقي في أيدي هؤلاء القساوسة من الجاه في هذه البلاد بعد أنْ أظلَّها الإسلام، أفتحسبهم ينزلون طائعين عن هذا الجاه، فيقولون لبعض العامة: لا ندري!

– قد فهمت.

– بل ما تزال بعيدًا عن الفهم.

– ماذا؟!

– أريد أنْ أقول لك: إني لم أصدِّق حرفًا واحدًا من حديث ذلك الراهب الشيخ، وما قصدتُه مؤمنًا مُصدِّقًا، وإنما أردتُ أنْ ألتمس إلى التسلية سببًا، وأنشد راحة نَفس، فدع عنك حديثه ذلك كله كأن لم تستمِعُ إليه، ولم تجلس بين يديه.

– قد سمِعت!

ومضيا عائدَين من الدير قد أطبقا شفاههما، لا يتحدث أحدهما إلى صاحبه بعد ذلك الحديث، ولكن لكلٍّ منهما مع نفسه حديثًا ضافي الذيول.

١  هو المسجد الأموي بدمشق، وما يزال قائمًا حتى اليوم.
٢  المرضى بأمراض مزمنة.
٣  ذوي الاحتياج.
٤  يعني أنه يريد أنْ يخلع أخاه سليمان، كما أراد أبوه أنْ يفعل بأخيه.
٥  يموت.
٦  هذا أو ذاك، كما يشاء القدر.
٧  في شرق الأردن.
٨  حدست: خمَّنت.
٩  تنثال: تتتابع.
١٠  هو البحر الأسود.
١١  يعني نفسه.
١٢  التماس علم الغيب عند النجوم.
١٣  الإلهام.
١٤  جزء من النبوة.
١٥  في القرآن الكريم آيات تشير إلى شيء من علم الغد في التوراة والإنجيل.
١٦  البيع: المعابد المسيحية.
١٧  ضواحي الشام.
١٨  يعتقد بعض الشيعة أنَّ علم المستقبل كله مكتوب في جفر — والجفر هو جلد الثور — على سبيل الرمز، وأنَّ تفسير ذلك الرمز يتوارثه علماء الشيعة دون غيرهم.
١٩  ما اختبأ في المستقبل من علم الغيب.
٢٠  هل تعرفون واقع أمرنا وأمركم الآن؟
٢١  يعني: أهذه المعلومات مذكورة بأسمائها؟ أو بصفاتها؟
٢٢  يعزف عن الإمارة: يزهد فيها.
٢٣  فيه دم عربي ودم أجنبي …
٢٤  الأين: المشقة.
٢٥  آثرنا ألا نفسر كنايات هذا الحديث؛ لأن فيما يأتي من فصول القصة تفسيرًا لكثيرٍ منها، وهذه الطريقة في الحديث هي طريقة المتحدثين عن الغيب في كل زمان، فهي تشير إلى معانٍ غامضة، يفهمها كل سامع على الوجه الذي يريده.
٢٦  هو «الوليد».
٢٧  اختلط الدم بالدم والنسب بالنسب.
٢٨  يحنو.
٢٩  تفصَّد: تقاطر عرقه.
٣٠  يمتح: يرفع الماء بالدلو من البئر.
٣١  إنْ كان يعني الشهور فهي بضع وخمسون سنة …
٣٢  وي: عجبًا.
٣٣  الأهلة: جمع هلال: يعني أنه يحسب بالشهور.
٣٤  سليمان بن عبد الملك ولي العهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤