الفأل

كان ممعنًا في القراءة حين سمع صوتًا عذبًا يدعوه، فلما رفع رأسه رأى زوجه قائمة أمامه، وقد أشرقت في وجهها كله ابتسامة حلوة فيها كثير من الخَفَر وفيها شيء من خوف ضئيل وشيء من العجب أيضًا. قالت له في صوت يريد أن يضحك، ولكنه يقاوم الارتياع: إن في حجرة الاستقبال ضيفًا ينتظرك. وهمَّ أن يسألها عن هذا الضيف، ولكنها أخذت يده في رفق، وأنهضته فاستجاب لها مداعبًا مخفيًا لبعض الوجل، فلم يكن أحب إليه من أن يمضي في قراءته لتلك القصة الرائعة التي يعرض فيها مكسيم جوركي حياته أثناء الصبا.

وقد سعت به زوجه سعيًا رفيقًا إلى حجرة الاستقبال، فلما بلغ باب الحجرة لم يجد أحدًا، وإنما وجد هدهدًا قد استقر على البيانو في هدوء واطمئنان، فلم يكد يراه حتى أغرق وأغرقت زوجه معه في ضحك متصل لم يكد يفرغ منه حتى تلا الآية الكريمة: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ثم داعب خد امرأته وقال لها في صوت حازم جازم: انتظري نبأً عظيمًا يبلغك اليوم أو غدًا. فنظرت إليه كالحائرة المستفهمة، ولكنه قال لها في صوته الحازم الجازم: قد علمت أن الهدهد لا يكذب ولا يحب الكذب. ثم عاد إلى كتابه ولكنه لم ينظر فيه، وانتظرتْ هي أن ينصرف الهدهد عن البيانو. فلما انصرف أقبلت على الموسيقى، ولكنها لم تعزف، وإنما جعلت أصابعها تذهب وتجيء في غير انتظام، كان مشرد النفس أمام الكتاب، وكانت مشردة النفس أمام البيانو.

كان كل منهما بعيدًا عن صاحبه، ولكنهما كانا يفكران في شيء واحد، أو في أشياء مؤتلفة متقاربة، يتكون منها جزء قيم من نسيج الذكرى هذا الذي يعمر القلوب ويمتع العقول، ويضيء في النفوس، حين تظلم الأحداث وتدلهم الخطوب. فقد كان للهدهد أثر عظيم الخطر في حياتهما الأولى. كان رسول البِشر والغبطة والحبور إلى أبنائهما حين كانوا أطفالًا لا يكادون يعقلون. كان الهدهد هو الذي يحمل إليهم ما تريد أمهم أن تمتعهم به من طرفة وما يريد أبوهم أن يسرهم به من هدية، وكان الهدهد يستخفي بطرفه وهداياه ينثرها في حجرات البيت وغرفاته نثرًا، وينشرها في أبهاء الدار ودهاليزها نشرًا، وربما ألقاها إلقاءً في هذا الفناء المنبسط أمام الدار، وربما أخفاها إخفاءً في أعشاب الحديقة وبين أشجارها ونجومها، وربما علقها في الأغصان أو تركها على حافَات النوافذ.

ولم يكن يمضي يوم حتى يتصايح الأطفال في الصباح أو في المساء بأن الهدهد قد زار الدار وترك فيها شيئًا، وكان الأطفال يحبون الهدهد أشد الحب، ويَوَدُّون لو استطاعوا أن يؤنسوه ويحدثوه ويسمعوا منه، ولكنهم كانوا يرونه قد وقف منهم غير بعيد، في هذا المكان أو ذاك «من الحديقة»، فإذا دعوه لم يستجب لهم كأنه لا يسمع منهم، وإذا سعوا إليه ارتفع في الجو ارتفاعًا يسيرًا، ثم انصرف عنهم دون أن يؤنسهم من منظره، ودون أن يبخل عليهم بصوته هذا الذي لم يكن يخلو من التحدي.

وكان الأطفال يسألون أمهم حينًا وأباهم حينًا آخر، ما بالهم لا يرون الهدهد حين يحمل إليهم طُرَفَهُ وتُحَفَهُ، وإنما يرونه دائمًا فارغًا خاليًا إلى نفسه، نافرًا منهم منصرفًا عنهم؟ فكانت أمهم تجيبهم، وكان أبوهم يجيبهم أيضًا، بأن الهدهد حذر لبق ظريف يحب المداعبة، ويؤثر أن يفجأ أصدقاءه بما يترك لهم من الهدايا. وقد شب الأطفال وعقلوا واستبانوا الحقائق من أمر الهدهد، وما كان يحمل إليهم من الهدايا، ولكنهم مع ذلك خادَعُوا أبويهم حينًا وخيلوا إليهما أنهم كانوا يصدقون ما يَقُصَّان عليهم من أمر الهدهد، ثم خادعوا أنفسهم حينًا آخر وأرادوا أن يصدقوا ما كان يُقَص عليهم من أمر الهدهد. ثم لم يجدوا بُدًّا من الإذعان لحكم العقل والانحراف عن قصة الهدهد، فجعلوا يتندرون بها في كثير من الحنان ساخرين من أنفسهم ومداعبين لأبويهم. ثم صُرفوا إلى شئون الصبا والشباب عن شئون الطفولة، وشُغلوا بالدرس والتحصيل عن هدايا الهدهد وطُرَفِه.

كان صاحبنا يستعرض هذا كله، وهو ينظر في كتاب مكسيم جوركي دون أن يرى ممَّا كُتِبض فيه شيئًا. وكانت زوجه تستعرض هذا كله وهي تجري أصابعها على البيانو دون أن تستخرج منه لحنًا مستقيمًا؛ على أنها لم تلبث أن حزمت أمرها، وأقبلت على موسيقاها، فانغمست فيها انغماسًا، أما هو فلم يستطع أن يحزم أمره ولا أن يعود إلى مكسيم جوركي؛ لأنه لم يكد يفرغ من استعراض طفولة أبنائه حتى استعرض طفولة نفسه.

فقد كانت الصلة بينه وبين الهدهد بعيدة جدًّا، أبعد من الصلة بينه وبين زوجه وبنيه. كان يعرف الهدهد منذ طفولته الأولى؛ يراه فيعجب بشكله، ويسمعه فيحن إلى صوته، ويتمنى أن يتاح له هدهد يمسكه في الدار ويتخذه له رفيقًا. وما زال يلح بهذا التمني على أبيه وإخوته وذوي معرفته حتى رفق به بعض أهل القرية فجاءه ذات صباح بقفص ظريف قد استقر فيه هدهد ظريف. وهو يذكر ابتهاجه بهذه التحفة وإسراعه إلى أمه راضيًا مسرورًا، يخرجه الرضى والسرور عن طوره، وهو يذكر كيف ابتسمت له أمه في رفق، وكيف تقدمت إليه في ألا يعذب الهدهد ولا يرهقه من أمره عسرًا، وكيف نهضت فأخذت منه القفص وعلقته إلى جدار من جدران الدار، ووضعت فيه إناءين صغيرين في أحدهما قليل من ماء وفي الأخر قليل من حَبٍّ، وطرحت إلى جانب الجدار وسادة، وقالت لابنها وهي تمسح على رأسه: هذا مكانك من صديقك الهدهد، تستطيع أن تأوي إليه كلما أحببت أن تراه أو تسمع منه.

وقد وفى الصبي لهدهده أيامًا طوالًا؛ فكان يسرع إليه كلما عاد من الكُتَّاب وسط النهار وآخره فيتحدث إليه، ويسمع منه، ويطيل الحديث والاستماع …

ولكن الرجل الذي أهدى إليه الهدهد لم يحسن الفهم عنه فيما يظهر، كما أنه هو لم يحسن الفهم عن نفسه؛ فقد أقبل ذلك الرجل عليه في الضحى ذات يوم وأهدى إليه صقرًا صغيرًا لطيفًا بعد أن قص من جناحيه، وفرح الصبي بصقره ذاك الجميل، وخيل إليه، بل أُلقي في نفسه، أن هذا الصقر سيؤنس الهدهد في وحدته، وسيكون رفيقه حين يشغل هو بهذا الكُتَّاب البغيض الذي كان يذهب إليه أول النهار ويعود منه لحظة للغذاء ثم يرجع إليه مسرعًا ولا يعود إلى صديقه الهدهد إلا آخر النهار. وكان الصبي يشفق على هدهده من هذه الوحدة المتَّصلة، فأي غرابة في أن يسعد بهذا الصديق الجديد الذي سيسلي الهدهد ما بعد صاحبه؟ فإذا عاد لم يتحدث إلى الهدهد وحده، وإنما تحدث إليه وإلى الصقر جميعًا، وما هو إلا أن يُدخل الصقر على الهدهد في قفصه وينصرف لبعض ما ينصرف إليه الصبية، ثم يعود بعد ساعة قصيرة أو طويلة فيرى — ويا هول ما يرى — يرى الهدهد ميتًا قد نقر الصقر رأسه واستخرج ما فيه، لم يكن يعرف أن الطير يعدو بعضها على بعض!

ويرى أمه حزينة تلومه وتعنف به في اللوم، وترسل إلى ذلك الفلاح الذي أهدى إليه الصقر شتمًا قبيحًا، وقد أخذ صاحبنا وهو ينظر في كتاب مكسيم جوركي دون أن يرى ممَّا كتب فيه شيئًا يستعرض هذه الذكرى، ويستعرض حزنه على الهدهد وحبه له من بعيد بعد تلك الكارثة، واقتناعه بأن الخير له وللهدهد في أن يتراءيا ويتحدَّثا من بعيد، ثم ينتقل من هذا الاستعراض إلى ما عرف من أمر الهدهد حين حفظ القرآن واستظهر سورة النمل وعرف قصة سليمان وملكة سبأ.

كل ذلك جعل يستعرضه وهو ينظر في كتابه دون أن يرى ما فيه، وقد استقر في نفسه أن لزيارة الهدهد لداره شأنًا، وأنه قد جاء بالنبأ اليقين، وأن النهار لن ينقضي حتى يبلغه أمر ذو بالٍ. والغريب الذي تستطيع أن تصدقه أو تكذبه — فلن يغير تصديقك ولا تكذيبك من الحق شيئًا — هو أن النهار لم ينقضِ دون أن يأتيه النبأ العظيم.

والحق أن صاحبنا قد عاد في ذلك اليوم طفلًا فعلَّق نفسه من بعض نواحيها الأخرى بالجرس، وعلَّقها من ناحية ثالثة من نواحيها بساعي البريد، وتستطيع أن تقول إنه جلس في مكتبه واجمًا وخصص إحدى أذنيه للتليفون وإحداهما الأخرى للجرس، ومد عينيه أمامه إلى النافذة يرقب من يمكن أن يصعد سلم الدار من الزائرين، وقد طال به ذلك وشق عليه، ثم أقبلت عليه شئون الحياة اليومية فصرفته عن هذا السُّخْفِ صرفًا ظاهرًا، ولكنَّ قلبه ظل بقية النهار ينتظر شيئًا غامضًا، وقد دعاه التليفون حين أقبل الأصيل، فلما استمع إلى ما قيل له وأجاب بكلمات قصار أسرع إلى زوجه يقبِّلها ويقول مستبشرًا: ألم أقل لكِ إن الهدهد قد جاء بالنبأ اليقين؟! قالت زوجه: وما ذاك؟ قال: استقالت الوزارة ودُعيتُ إلى الاشتراك في الحكم!

ولم تشرق الشمس من غدٍ حتى كان صاحبنا وزيرًا، ولم يرتفع الضحى من اليوم نفسه حتى كان صاحبنا لا يخاف شيئًا كما يخاف الهدهد، ولا يبغض شيئًا كما يبغض الهدهد، ولم يكن بالأمس يأنس إلى شيء كما كان يأنس إلى الهدهد، ولم يكن بالأمس يحب شيئًا كما كان يحب الهدهد، ولكنَّ صِدقَ الهدهد قد استقر في نفسه كما استقر في نفسه أيضًا أن الهدهد لا يستطيع أن يأتيه بعد الوزارة نبأ يسرُّ أو يروق؛ فمن يدري إن أقبل الهدهد لعله يحمل نبأ استقالة الوزارة. وليس الهدهد صديقًا له وحده من دون الناس يحمل إليه وحده الأنباء السارة، فقد يكون للهدهد أصدقاء آخرون يمكن أن يحمل إليهم أنباء سارة صادقة، ويمكن أن يكون من هذه الأنباء نبأ استقالة الوزارة والدعوة إلى الاشتراك في الحكم.

قُلْ إن هذا منطق سخيف، وأؤكد لك أني أرى هذا منطقًا سخيفًا، ولكني أؤكد لك أيضًا أن للحوادث منطقًا غير منطق الناس، وأن التفاؤل والتشاؤم يعبثان بعقول الناس، فيفسدان منطقهم في رأي «أرسططاليس» وفي رأي الأستاذ لطفي السيد، ولكنهما يُقرِّبان بين هذا المنطق وبين منطق الحوادث أحيانًا. والشيء الذي ليس فيه شك هو أن صاحبنا قد تطيَّر بالهدهد طيرة شديدة كما كان يتفاءل به من قبلُ تفاؤلًا شديدًا، وأنه لم يسْعَ قط إلى غرفة استقباله إلا وفي نفسه إشفاق شديد أن يرى الهدهد قائمًا على البيانو في مكانه ذاك، ولو استطاع لتقدم إلى أهله في أن تغلق نوافذ الدار ما أشرق النهار، وفي ألَّا تفتح إلا حين تنام الطير، والشيء الذي لا شك فيه أيضًا هو أنه استحى أن يتقدم في ذلك إلى أهله مخافة أن يظنوا به الظنون، ولكنه تقدم إلى أعوانه في الوزارة ألا تفتح نوافذ مكتبه، وزعم لهم أنه يكره أن يأتيه منها الضجيج والعجيج، ويشفق من تيارات الهواء، ويؤثر الضوء الرفيق على الضوء العنيف.

وحياة الوزراء حافلة بخطوب السياسة وأحداثها، فهم يرضون إذا أصبحوا، ويغضبون إذا ارتفع الضحى، ويعودون إلى الرضى حين ينتصف النهار، ويردون إلى السخط حين يجلسون إلى الغداء كل ساعة من ساعات الليل والنهار تحمل إليهم في دقائقها ألوانًا من الرضى والسخط ومن الأمن والخوف ومن القلق والهدوء. فكان صاحبنا كلما حدث حادث مُغضِب أو مقلق، وكلما نُشر خبر مسخط أو مثير للخوف، لم يذكر إلا الهدهد، ولم يَرَ أمامه إلا الهدهد، فقد كان الهدهد رسول النعمة إليه قبل أن يرقى إلى الحكم، فأصبح الهدهد نذير النقمة إليه بعد أن ارتقى إلى الحكم.

ولكل أجلٍ كتاب، ولكل وزارة آخرة. وقد أقبل صاحبنا مع الضحى ذات يوم على مكتبه، ولكنه لم يكد يدخل حتى رأى حبيبه أمس وعدوه اليوم قائمًا بشكله الجميل البشع على حافة النافذة وقد نسي الخدم إغلاقها لأمرٍ ما. ولست أصف لك ثورة الوزير الظاهرة، فقد تعرفها، وهي لا تعنيني، وإن كان خادم مكتبه قد سمع ما لا يرضى وقضى ساعة منكرة. وإنما أصف لك تشاؤم الوزير فيما بينه وبين نفسه: فقد أظلم قلبه، واربدَّت نفسه، وساء خلقه، وقبح لقاؤه للموظفين والزائرين جميعًا، وعاد إلى أهله غضبان أسفًا لا يكاد يبتسم ولا يكاد ينطق، وجلس إلى الغداء فلم يكَد يصيب منه شيئًا حتى قالت زوجه: إنك لمحزون منذ اليوم، هل من جديد؟ قال وهو يتكلف الابتسام: ما أدري! ولكني رأيت الهدهد البغيض. قالت وقد كادت العَبرة تخنق صوتها: لقد أصبح الهدهد بغيضًا الآن، وما أكثر ما كان يملأ قلوبنا غِبطة وسرورًا! ثم خلت إلى أبنائها فضحكت وضحكوا.

ولكن المساء لم يقبل في ذلك اليوم حتى كان صاحبنا يستأنف القراءة في كتاب مكسيم جوركي من حيث تركها، وحتى كانت زوجه تعزف على البيانو شيئًا من ألحان «موزار»، أما هو فكان محزونًا يلعن الهدهد، وأما هي فكانت راضية تثني على الهدهد ثناءً كثيرًا، وأما الناس فكان منهم الراضي المستبشر وكان منهم من مزق الغيظُ قلبه تمزيقًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤