القصة

كان النهارُ ذابلَ العينَينِ والأنسامُ وَاهِنَة، فأَوْقَد البقَّالُ مصباحًا ليَقْهرَ الظِّلالَ في أعماقِ دُكَّانِه، وكنتُ واقفًا بلا حَراكٍ صامتًا أُتابِعُ الحديثَ بينَ طفلةٍ وأمِّها. لم يَنتَبِهْ إلى الذي تَبْغيه صاحبُ الدُّكَّان؛ إذ كان مشغولًا بعدِّ ما في الدُّرْج من نُقُود، كي يُسْلِم الدُّكانَ للصبيِّ (وَرْديَّة المساءِ قد تمتَدُّ للصباح).

كانت زُهَيرةً تفتَّحَت كأنها ابتسامةُ الربيعِ لِلزَّمان، تعلَّقَتْ بذَيْل أمِّها تشدُّه على عَجَل، وعَينُها على حلاوةِ العَسَل، وعندما استدارَ صاحبُ الدُّكَّان خارجًا تلفَّتَت في دهشةٍ وجمدَت، ورَاعَها وَجْهي الذي عبثَت به أصابعُ الجرَّاحِ ثمَّ صاحَت: «أمِّي انظري فمَ الرَّجُل!»

كانت كأنَّما قد مسَّها وَجَل، كأنها تخافُ ذلك الغَرِيب، لكنَّها لم تَرْتعِد، وحرَّكَت سبَّابةً منَ العقيقِ ثمَّ أَرْدفَت: «أُمِّي انظُري! أمِّي انظُري!»

«يا بنتُ عَيْب اسكتي!»

وعِنْدَما تلفَّتَت وجوهُ الواقفينَ حَوْلي، تَسْتَطْلع الوَجْهَ المُريب، غامَت بعينَيَّ الرُّؤَى، وخرجتُ أنشقُ المساء، هَوْنًا على ظَهْر الطَّرِيق، وصياحُ تلك الطفلةِ الجَمِيلَة، يقفو خُطَايَ كأنَّه شبحٌ رَهِيب، لم أستدِرْ لأُنَازلَه، أنَّى لمِثْلي أن يُنازلَ القَدَر؟ أنَّى لمِثْلي أَنْ يُطاوِلَه!

هَذَا الذي دهشتِ منه يا صَغِيرتي،
وخلتِ أنَّه كبا به اللسانُ فانكفأْ،
ما زالَ قائمًا … يُرتِّل الآياتِ في الأسحارِ
حتَّى ماجَت الأسحارُ بالألحانْ،
ويُنشِد الأنغامَ في وُجدانِه فيُنشِدُ الزَّمانْ،
وتَلْتقي في عينِهِ عرائسُ الصِّبَا،
وَتَزْدَهي بزينةِ الفَنَاءْ
راقصةً خصورُها النحيلَة
حالمةً شُعورُها المُنْسدِلَة
أريجُها يَنْسَابُ في خَفَرْ؛
ليَنْشُرَ الصحائفَ التي انطَوَتْ،
ويَبْعَثَ الحياةَ كلَّ لحظةٍ بكلِّ قَلْب،
فيُشْرقَ النهارُ في الدُّجى
وتغربَ الشموسُ في الضُّحى،
ويمتدَّ الزَّمن.
هذا الَّذِي خَشِيتِ منه يا صَغيرتي
وخلتِ أنه شعاعٌ انطفَأْ،
ما زالَ في جَنْبَيه جمرُهُ الدَّفِينْ
يئزُّ باللَّهِيبْ
ويَنْشرُ الضياءَ قلبُهُ الأمينْ
فيَهْتدِي السارُونَ بالدفءِ القريبْ
ويَقْبِسونَ من شعاعِهِ اليَقِينْ،
ما زالَ بركانُ الصِّبا في صَدْرِهِ يَفُورْ،
لكنَّهُ كالنارِ إن ثارَ فبَرْدًا وسَلامَا
في كلِّ لَفْظةٍ تَمُورْ،
وكلِّ لفحةٍ تَدُورْ؛
فالنَّبْعُ من نارٍ ونُورْ
لم يَلْبثِ الحالمُ أن هبَّ فقامَا،
هَذَا الذي رَاعَكِ يا صَغيرتي
وخلتِ أنَّه جناحٌ انكَسَرْ،
ما زال يَزْهو بالقَوَادمِ والخَوَافي،
إِنْ شاءَ تحليقًا سَمَت به القَوَافِي،
ورفَّ بين الوردِ والأَقَاحِي؛
لينشقَ العبيرَ هائمًا في كلِّ وَادي،
كُئوسُهُ على الرياضِ مُتْرَعَة،
وعَينُه بالحُسنِ مُولَعَة،
ورُوحُه بالعشقِ مُوجَعَة،
لكنَّه يُكابِدُ المريرَ والأَمَرّ،
ويَعرِفُ المحظورَ إنْ نظرْ؛
فإنَّه رأى الخُلُودَ ذاتَ ليلةٍ حين غَفَا،
وشاقَهُ الأُفْقُ المديدُ إذ بدا ثمَّ اخْتَفَى،
وراعَهُ الزمانُ ساربًا بِلا حُدُودْ؛
إذ حطَّم الفؤادُ ما يَشُدُّه من القُيُودْ،
فأصبح القديمُ كالجديدِ والبَعيدُ كالقَرِيبْ،
ومضًا مُخايفًا كأنَّه سَناؤُهُ الشَّريدْ،
وأصبحَ الزمانُ كلُّه فيضَ خُلُودْ.
هَذا الذي عجبتِ مِنهُ يا صغيرتي
وخلتِ أنَّه غريبْ،
قد عادَ للدنيا كضيفٍ لن يُقيمْ.
من حَولِه الأشياءُ أشباحٌ كأطيافِ السَّدِيمْ،
ورُؤَاه في أعماقِه تنثالُ كالنُّورِ الحَمِيمْ،
في واحةِ الزمنِ القَدِيمْ؛
فهو الذي يَحْيا بماضٍ لا يَرِيمْ،
وكِيانُه يَقْتاتُ بالأملِ العَقيمْ.
هل كانَ للشُّعراءِ يومًا أن يَرَوْا شطَّ النَّعِيمْ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥