حياته وشخصيته

في عدد المقتطف الصادر في يونيو سنة ١٩٣٩ ترك لنا خليل مطران مفتاح شخصيته في هامش ص٨٧؛ حيث قال: «في المعاودة وحدها تاريخُ تكوُّن شخصيتي، فقد كان هناك عاملان يفعلان في نفسي؛ شدة الحساسية ومحاسبة النفس. ومن هذين العاملين خلصت بتكوين نفسي على نمط خاص، وعلى هذه العبارات نستطيع أن نقيم دراستنا لهذا الشاعر الكبير.»

فالمعاودة أو محاسبة النفس لم تؤثِّر على فن الخليل وعلى أفكاره وعواطفه فحسب، بل أثَّرت أيضًا على معرفتنا بتاريخ حياته التي تقتصر في الواقع، على خطوطها العامة الخارجية دون حقائقها العميقة، وتطوراتها الداخلية، ومن الممكن الإلمام بما نعرفه عنها في كتاب الأستاذ إسماعيل أدهم أو الأستاذ نجيب جمال الدين؛ وذلك لأن نزعة المعاودة التي يعترف بها الشاعر نفسه جعلت منه شيئًا يشبه دودة القز التي تنسج الحرير من حولها لتختفي داخله. فشِعْر الخليل لا يكشف عن حقائق حياته، بل يغلِّفها، وذلك مع أن تقاليد الشعر العربي، بل وغير العربي، تسمح للشعراء بأن يتحدثوا عن أنفسهم وعن مشاعرهم الخاصة على نحو لا تتسع له تقاليد الأدب النثري، فالشاعر يستطيع أن يفتخر، وأن يباهي، وأن يمجِّد نفسه، بل وأن يهجوها إذا أراد، كما يستطيع أن يتحدث عن حبِّه وغرامه ومغامراته دون أن يستنكر الرأي العام منه مثل هذا الحديث، بينما لا يستطيع الناثر شيئًا من كل هذا. ولكن صفة المعاودة ومحاسبة النفس وشدة الحساسية أبت على الخليل أن ينهج هذا النهج التقليدي، حتى ليكاد يختفي الضمير «أنا» من شعره، وإنه ليحقُّ لنا أن نفترض أن هذا الشاعر الكاثوليكي ذا الثقافة الفرنسية الواسعة، قد قرأ وتأثَّر بالكاتب الروحي الكبير «باسكال» الذي كان يمقت — على حد قوله — «الأنا البغيض والجدير بالبغض» le Moi haï et haïssable. وبالرغم من أن الخليل قد عرف — فيما يبدو — الحب كما عرفه جميع الناس، بل وعلى نحو أعمق وأشد استبدادًا بالنفس من معظم الناس، فإنه لم يفصح يومًا عن هذا الحب، الذي يدَّعيه كذبًا غيره من الشعراء في بعض الأحيان؛ ليُظهِر القدرة على وصف لواعجه وما يسيله من دموع أو يصعده من زفرات. وعندما حَزَبَ الخليلَ الأمرُ واشتد به الإحساس المضني فالتمس في الشعر مخرجًا لآلامه، روى قصةَ غرامه المبرح بضمير الغائب في سلسلة قصائد جمعها تحت عنوان واحد هو: «قصة عاشقين»؛ حيث يحدِّثنا عن حب عذري رفيع، جمع بين فتًى وفتاة، ثم ماتت تلك الفتاة بمرض يبدو أنه ذات الصدر. ومن الواضح أن هذا الفتى هو الخليل نفسه الذي مات عَزَبًا، مع أن حياته امتدت ثلاثة أرباع قرن، لم ينسَ خلالها تلك الفتاة التي تنكَّرت في ديوانه خلف أسماء عديدة؛ كهند وسلمى وليلى وغيرها؛ بل لقد روى بعضُ معاصريه أنه أنشد عدة قصائد غزلية في ابنة جودت باشا وزير العدلية التركية التي التقى بها في الآستانة سنة ١٨٩٣ أثناء مرافقته للخديوي عباس مندوبًا عن جريدة الأهرام، ولكن الشاعر أنكر، وظلَّ يُنكر طوال حياته هذه الواقعة وتلك القصائد بالرغم مما عُرف من توثُّق الصلة بين جودت باشا وأسرة الشاعر أثناء إقامة هذا الباشا في لبنان قبل تولِّيه الوزارة، وإكرامه وضيافته للشاعر أثناء تلك الرحلة. وكذلك الأمر في عواطف الشاعر وآرائه السياسية والاجتماعية. وبالرغم مما قيل من تمرُّده على استبداد العثمانيين، ونقمته على سياستهم، فإننا لا نجد في ديوانه الذي أشرف هو نفسه على جمعه قصيدةً واحدة يجهر فيها بنقمته على تلك السياسة، مع أن التاريخ يحدِّثنا أنه هاجم — في صدر شبابه — تلك السياسة، كما يحدِّثنا أنه كان يرقى هو وأحد أصدقائه إحدى رُبى بيروت؛ حيث يتغنَّى بالمارسلييز نشيد الثورة الفرنسية، الذي كان يُعتبر عندئذٍ نشيد الحرية في جميع بقاع العالم. وفي جميع الديوان لا نعثر إلَّا على بضعة أبيات جاهر فيها الشاعر بحبِّه للحرية وثورته العارمة على الاستبداد ثورةً سافرة مدمرة؛ وذلك عندما كُمِّمت حرية الفكر في مصر وسُلِّط عليها سيف قانون المطبوعات حوالي سنة ١٩٠٩، فقال الشاعر:
شرِّدوا أخيارها بحرًا وبرًّا
واقتلوا أحرارها حرًّا فحرا
إنما الصالح يبقى صالحًا
آخر الدهر ويبقى الشر شرا
كسِّروا الأقلام هل تكسيرها
يمنع الأيدي أن تنقش صخرا
قطِّعوا الأيدي هل تقطيعُها
يمنع الأعين أن تنظر شذرا
أطفئوا الأعين هل إطفاؤها
يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا
أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم
وبه مَنجاتنا منكم … فشكرا

وعندما توعَّدته الحكومة المصرية بالنفي على أثر نشر الأبيات السابقة جَابَهَ هذا الوعيد بالأبيات الآتية:

أنا لا أخاف ولا أرجِّي
فرسي مأهبة وسرجي
فإذا نبا بي متن بر
فالمطية بطن لج
لا قول غير الحق لي
قول، وهذا النهج نهجي
الوعد والإيعاد ما
كانا لديَّ طريق فلج

وأما فيما عدا هاتين المقطوعتين فقد دفعت المعاودة الشاعر إلى تنكير أفكاره وعواطفه في ثياب التاريخ؛ حيث نراه يتحدَّث عن ظلم الحكام وغدرهم واستبدادهم، ووقاحتهم في فتك كسرى ببزرجمهر، أو إحراق نيرون لمدينة روما ليتلهَّى بمنظر الحريق، وما شاكل ذلك من قصائد الملاحم أو الدراما التي سنعرض لها فيما بعد.

وهكذا يتضح كيف أن طبيعة خليل مطران النفسية لم تسمح لحياته وآرائه وعواطفه بأن تظهر سافرة في شِعره، وإن كنا نستطيع أن نستنتج بطريق غير مباشر بعض هذه الحقائق التي حرص على تنكيرها.

ومع ذلك فإن بعض حقائق حياته الخارجية لا تخلو من تأثير على مادة شعره وصورته.

وأول تلك الحقائق هي عروبة الشاعر الأصلية التي كشف عنها الباحثون، وذلك بالرغم من بعض المظاهر التي قد توحي بعكس تلك الحقيقة؛ مثل مولد الشاعر سنة ١٨٧٢ في مدينة بعلبك، التي أثبتت آثارها القديمة أنها كانت فينيقية النشأة، بل وتغنَّى الشاعر نفسه بتلك الفينيقية. ثم غريزة المهاجرة التي يُظَنُّ أن إخواننا اللبنانيين قد توارثوها عن الفينيقيين القدماء الذين جابوا البحار للاتجار والتماس أسباب الرزق، وذلك فضلًا عن نجاح الشاعر في الأعمال المالية والتجارية أثناء إقامته في مصر، وتولِّيه منصب السكرتير العام المساعد للجمعية الزراعية الخديوية زمنًا طويلًا، وإن يكن قد فقد قبل تولِّيه هذا المنصب ما كان قد جمعه من ثروة نتيجة المضاربات في سنة ١٩١٢. وأخيرًا انتماؤه لأسرة كاثوليكية قد يُظَنُّ أنها لم تعتنق الإسلام لانتمائها إلى أصل غير عربي؛ نقول إنه بالرغم من كل هذه المظاهر استطاع الباحثون أن يثبتوا أن أسرة الشاعر كانت خالصة العروبة؛ فهي تتفرَّع من الأزد الذين كانوا يسكنون في الأزمنة البعيدة أرض اليمن، حتى إذا كانت كارثة سد مأرب نزحوا إلى الحجاز؛ حيث نزلوا في تهامة عند نبع ماء يقال له غسَّان، ومنه اشتُقَّت لفظة الغساسنة، ثم نزحوا إلى الشام واستوطنوها عنوة، ثم امتدت الروابط بينهم وبين الدولة البيزنطية واعتنقوا الأرثوذكسية، حتى ضاقوا بسيطرة قساوسة ذلك المذهب من اليونانيين، فتخلوا عنه ليعتنقوا الكاثوليكية. ولما انتشر الإسلام احتفظوا بدينهم كأهل ذمة لا يُكرههم الإسلام على تغيير دينهم، بل يحفظ ذمارهم ويُكرم معاملتهم. وأما أمه «ملكة الصباغ» فكانت من أسرة فلسطينية عريقة، وكانت تتذوَّق الأدب، بل وتقرض الشعر، وكذلك كانت جدته لأمه.

على أن عروبة الشاعر لم تمنعه من تنوع ثقافته وإجادته اللغات الأخرى، فبعد أن تلقَّى علومه الابتدائية في الكلية الشرقية بزَحْلة انتقل إلى بيروت؛ حيث أتم دراسته في المدرسة البطريركية للروم الكاثوليك، وفيها أجاد اللغة العربية على الشيخين خليل اليازجي وإبراهيم اليازجي، كما تعلَّم الفرنسية على أستاذ من التورين. وفي سن الخامسة عشرة من عمره؛ أي في سنة ١٨٨٧، أخرج القصيدة التي صدَّر بها ديوانه تحت عنوان ١٨٠٦–١٨٧٠، وفيها يجمع جمعًا رائعًا بين الثقافتين العربية والفرنسية؛ فهي بديباجتها ناصعة العروبة، وهي بموضوعها فرنسية؛ إذ تتحدث عن غزو نابليون لبروسيا وهزيمته للألمان في موقعة «يينا» الشهيرة سنة ١٨٠٦، ثم انتقام الألمان لهذه الهزيمة بغزو باريس سنة ١٨٧٠. ثم أخذ يتمرد على استبداد العثمانيين في بلاده، حتى قيل إن جواسيس السلطان عبد الحميد حاولوا اغتياله فأطلقوا الرصاص على مخدعه في غرفة نومه ظنًّا منهم أنه في فراشه، وعندئذٍ لم ترَ أسرته بدًّا من حمله على المهاجرة إلى باريس خوفًا على حياته، وحرصًا على العلاقة المسالمة التي كانت تربطها بالحكومة العثمانية. وفي باريس زادت معرفة الشاعر باللغة الفرنسية وآدابها، ولكن المقام لم يستقر به في باريس؛ وذلك لأنه اتصل فيها بجماعة تركيا الفتاة التي كانت تناوئ الاستبداد العثماني، فلاحقه جواسيس السلطان عبد الحميد حتى اضطر إلى أن يفكِّر في مهجر آخر، فانصرف نحو البرازيل بأمريكا الجنوبية؛ حيث كان يقيم أصهاره، وأخذ يتعلَّم الإسبانية استعدادًا لهذه الهجرة، وبذلك جمع إلى معرفة اللغة العربية والفرنسية ثم التركية التي تلقَّاها في المهد عن أسرته معرفته باللغة الإسبانية، وإن تكن نيته في الهجرة إلى أمريكا لم تتحقَّق؛ إذ سافر في سنة ١٨٩٢ إلى الإسكندرية؛ حيث اتخذ من مصر وطنه النهائي، وأنفق فيها حياته موزَّعًا بين الأدب والأعمال التجارية والاقتصادية، إلى أن توفَّاه الله في سنة ١٩٤٩ عن سبع وسبعين عامًا تقريبًا.

هذه هي الأحداث البارزة التي نظن أنها كانت ذات أثر في تكوين شاعريته، ومنها نتبين تنوع ثقافته واضطراره إلى أن يهجر مسقط رأسه؛ ليسلخ حياته إما بين قوم غرباء كالفرنسيين أو بين قوم مهما قيل في أخوَّتهم له وارتباطه بهم بمختلف الروابط، فإنه كان بالضرورة غريبًا بينهم مضطرًّا إلى أن يأخذ نفسه بمجاراتهم في الكثير من ميولهم ونزعاتهم ومجاملة أفرادهم، حتى يستطيع أن ينعم بالحياة بين ظهرانيهم. وربما كان هذا هو السبب في العثور على الكثير من قصائده ومقطوعاته التي قالها في مجاملات أو مناسبات اجتماعية لا تخلو من تفاهة؛ كحفلات الزواج والولائم والورود وأنواع الحلوى ومداعبات السيدات والأطفال والأصدقاء، وإن تكن البيئة لم تخلق عند الشاعر هذه الاتجاهات، وإنما نمت البذرة الفطرية التي جُبِل عليها، والتي أوضحها الشاعر نفسه عندما لخَّص تكوين شخصيته في: شدة الحساسية والمعاودة؛ أي محاسبة النفس وضبط زمامها. ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا بتحكيم العقل والإرادة وإخضاع العواطف والإحساسات لهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤