الوصف والتصوير

إذا كان مطران قد أدخل عنصر الملاحم وعنصر الدراما على الشعر العربي، وغلبهما على روائع قصائده التي تَميَّز بها عن غيره من شعراء العربية، فمعنى ذلك أنه قد غلَّب الموضوعية في شعره على الذاتية، فلم يعد شِعره أو لم يعد معظمه تغنِّيًا بعواطفه الخاصة وآماله وآلامه، بل خرج بالشعر عن نطاق شخصية الشاعر، وكما اتخذه وسيلة للقصص اتخذه وسيلة للوصف والتصوير، وكثيرًا ما نراه يجمع في القصيدة الواحدة بين كل العناصر فيقصُّ ويصف ويصوِّر معًا، وفي هذا ما يفسِّر الصورة المركبة التي يبدو فيها شعره، بل وكثيرًا ما يضيف إلى كل هذه العناصر هدفًا فكريًّا أو اجتماعيًّا يزيد شعره ثراءً.

والواقع أن الوصف والتصوير قد كانا دائمًا عنصرًا أساسيًّا في الشعر يوازن عنصر الغناء وعنصر التفكير، ولكن الآداب المختلفة تتفاوت في منهجها التصويري، كما يتفاوت النقاد في تحديد مجال الشعر الوصفي ورسم الحدود بينه وبين التصوير بالريشة. ولقد يكون من المفيد أن نوجز الاتجاهات والمذاهب المتباينة في هذا الموضوع؛ حتى نستطيع أن نقرِّر مكانة خليل مطران في هذا المجال.

فأما وصف الطبيعة فمن المعلوم أن الشعر العربي القديم عامر به؛ فالبدوي رجلُ ملاحظةٍ دقيقة، وقوة ملاحظته ضرورة ملازمة لحياته في البادية التي يضل فيها البصر والبصيرة، ما لم يكن الفرد دقيق الملاحظة قادرًا على التمييز بين المسالك والدروب وما تحتويه الصحراء من جماد وحيوان ونبات. ولذلك لم يترك الشعر العربي القديم شيئًا في عالمهم الخارجي إلا وصفه أدق وصف وأمعنه تفصيلًا، ولكنه وصفٌ خارجي حسِّي؛ فالشاعر العربي القديم لم يمتزج بالطبيعة، كما لم تمتزج هي به، بل ظلَّ يرصدها وهو بعيد عنها، وإذا كان الشعر العربي القديم قد خلع على الطبيعة بعض مشاعر الإنسان، فإن ذلك لم يكن لإحساسه بوحدة كونية أو بحلول شاعريٍّ في الطبيعة، وإنما جاء ذلك عن طريق اللغة ووسائلها البلاغية المعروفة كالتشبيه والمجاز والاستعارة. وهذه حقيقة أيَّدها وثبَّت أركانها المنهج التقليدي في دراسة فنون البديع العربي؛ حيث ظللنا حتى عهد قريب نحلِّل المجازات، ونُجري الاستعارات في أنين الريح وعيون الزهر وأعطاف الغصون ونواح السواقي وابتسامات الروض وضحك الربيع.

وأما الإغريق القدماء الذين تغذَّت بلبان أدبهم — ولا تزال تتغذَّى — الآداب الغربية في كافة عصورها، فقد ملئوا الطبيعة كائنات أسطورية، فجعلوا للأنهار والوديان والجبال والغابات حوريات وربَّات تملأ الطبيعة شدوًا ورقصًا، يتسقَّط الشعراء نغماتها ويُجرُون معها أنواعًا من الحوار والهمس يجري في الطبيعة ذاتها عنصر الدراما الذي يغلب على عقليتهم، وجعلوا لتلك الحوريات والربَّات كل خصائص البشر وعواطفهم ومسرَّاتهم وأحزانهم على نحو ما فعلوا بجميع آلهتهم، حتى وُصفت ديانتهم كلها بأنها «ناسوتية» antropomorphiste؛ لأنهم تصوَّروا آلهتهم على شاكلة البشر؛ أي الناس. وظلت هذه النظرة الدراماتيكية إلى الطبيعة سائدة حتى ظهرت طلائع الرومانسية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، فرأينا كتَّابًا كبارًا مثل «شاتوبريان» في كتابه الخالد «عبقرية المسيحية» يحمل على تلك النظرة حملة شعواء باسم المسيحية، ويطلب إلى العقل البشري أن ينقِّي الطبيعة الخارجة من يد الله من كل تلك الكائنات التي ملأها بها خيال الإغريق الوثني؛ وذلك لكي يردَّ للطبيعة صمتها الخالد، ويجعل منها ذلك المعبد الرائع الذي يتهجَّد فيه الإنسان لربه، ويتلقَّى وحيه من غير ضجَّة ولا ضوضاء، وكانت هذه النظرة من أسس شعر الطبيعة في الرومانسية، حتى لَنرى «جان جاك روسو» يأبى أن يحدِّث تلميذه «إميل» عن الله وعظمته وخلوده إلا بعد أن يقوده إلى قمم جبال السفوا؛ حيث تتحدَّث روعة الطبيعة وجمالها وجلالها عن وجود ذلك الإله السرمدي القادر على كل شيء، وإن تكن تلك النظرة الدينية المسيحية للطبيعة لم تسيطر على نفوس جميع الرومانتيكيين، فمنهم من تمرَّد عليها مثل «ألفريد دي فيني»، الذي كان يصيح بالألم كلما فكَّر في فناء الإنسان وخلود الطبيعة من حوله، ويشعر بحقارته وسرعة زواله إزاء مظاهر الطبيعة الخالدة وآياتها الباقية المتجددة.

وبإمعان النظر في شعر مطران عن وصف الطبيعة نجد أنه لم يقف عند وصف العرب الحسِّي، ولم يكتفِ بالمجازات والاستعارات اللغوية ليخلع على الطبيعة بعض مظاهر البشرية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حتى أوشكت نظرته إلى الطبيعة أن تكون نظرة شاعرٍ كبودلير الذي كان يقول: «إن الأشياء تفكِّر خلالي كما أفكر خلالها!» وهذا هو ما سبق أن عبَّرنا عنه بالحلول الشعري، وضربنا له مثلًا ناطقًا رائعًا بوصفه للمساء وهو مريض بمكس الإسكندرية. ولسوف نرى كيف نما هذا المذهب الشعري عند من أخذوه عن مطران من الشعراء المعاصرين؛ حيث لم يعد الشاعر يحلُّ بشخصه في الطبيعة فحسب، بل تحل الإنسانية كلها. وللشاعر أحمد زكي أبو شادي قصائد رائعة لا يطابق فيها بين كآبة المساء وأحزان الشاعر الخاصة فحسب، بل يطابق بينها وبين أحزان الإنسانية كلها وآلام انقباضها.

بل إن بعض مقطوعات مطران توحي بأنه كانت له فلسفة في الطبيعة تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ فلسفة الشاعر الفيلسوف الشهير «لوكريشيوس» الروماني في قصيدته الخالدة «عن طبيعة الأشياء»، فهو يفسِّر الكون على أساس الحب الذي يجمع المتفرِّق ويؤلِّف بين العناصر، ومن ذلك قوله:

أليس الهوى روح هذا الوجود
كما شاءت الحكمة الفاطرة
فيجتمع الجوهر المستدق
بآخر بينهما آصرة …
ويحتضن الترب حَب البذار …
فيُرجعه جنَّة زاهرة …
وهذي النجوم أليست كدر
طواف على أبحر زاخرة …
يقيِّدها الحب بعضًا لبعض …
وكلٌّ إلى صنوها صائرة …

والطبيعة عند مطران كائنات مفكِّرة، حتى لنراه يتحدَّث عن «وردة ماتت» وهي ملكة الزهور، وغطَّتها الأعشاب كأنها اللحد، وإذا بالفراشات تحوم حولها فيدور بينها وبين الشاعر الحوار الآتي (ج٢، ص١١):

ما الذي تبغين من جَوْبك يا
شبهات الطير؟ قالت وأبانت
نحن آمال الصبا، كانت لنا
ها هنا محبوبة عاشت وعانت
كانت الوردة في جنتنا
ملكت بالحق والجنة دانت
ما لبثنا أن رأيناها وقد
هبطت عن ذلك العرش وبانت
فترانا نتحرى أبدًا … …
إثرها أو نتلاقى حيث كانت

وهكذا نتبيَّن كيف أن شعر مطران في الطبيعة لم يأتِ من قَبيل الوصف الحسي الذي عرفه العرب، ولم يقنَع بالمجازات والاستعارات اللغوية التي تربط بين الإنسان والطبيعة، بل استند إلى فلسفة كونية أساسها الحب الذي يجمع بين الظواهر ويؤلِّف بين الأشتات، كما يستند إلى فكرة روحية شرقية هي الحلول الشعري، وأخيرًا إلى فكرة تشبه أن تكون إغريقية؛ وهي رؤية كائنات حية في الطبيعة وإنطاق تلك الكائنات وتبادُل الحديث معها، وفي كل هذا ما يكوِّن مذهبًا شعريًّا جديدًا في الأدب العربي.

ولقد تناول الأدباء والمفكرون بالبحث حدود الوصف الشعري لفصله عن مجال التصوير بالريشة، وجاء الناقد الألماني الشهير «لنسج» في هذا الصدد بنظرية بسطها في كتابه الذائع الصيت «لاوكون»، وهو اسم كاهن يوناني قديم قيل إنه أفشى سر الآلهة في حرب تروادة، فعاقبته تلك الآلهة بأن أرسلت إليه حيَّات ضخمة التفَّت حول جسمه وجسم أطفاله وقتلتهم عصرًا، وتنافس الشعراء والمصوِّرون والنحَّاتون في تصوير مأساته، فأخذ لسنج يقارن بين قوة التعبير التي وصلت إليها هذه الفنون المختلفة في تجسيم تلك المأساة وإظهار ما عاناه هذا الكاهن من عنف الآلام وهول الاحتضار. وخرج من هذه المقارنة وتلك الدراسة بنظريته المعروفة التي تتلخَّص في أن للمصور لمحة في المكان، وللشاعر لمحات في الزمن؛ بمعنى أن المصوِّر لا يستطيع ولا ينبغي له أن يسجل في لوحته غير لقطة واحدة في وضعٍ ما، بينما الشاعر يستطيع أن يتناول في وصفه عدة أوضاع ولمحات متتابعة في الزمن، فالمصوِّر يستطيع أن يصوِّر وردة يانعة أو ذابلة، بينما الشاعر يستطيع أن يتابع تلك الوردة فيضعها برعمةً فزهرة يانعة فأوراقًا ذابلة متساقطة، والنحَّات قد يستطيع أن ينحت جوادًا أصيلًا، ولكنه لا يستطيع أن ينحته كما لا يستطيع المصور أن يصوره «مكرٌّ مفرٌّ مقبلٌ مدبرٌ معًا». وهذه النظرية ليس من الضروري أن يعرفها وأن يتقيَّد بها شعراء الوصف، فهم يصدرون عنها بفطرتهم السليمة بوعي أو بغير وعي؛ أي بما نسميه الإلهام الشعري.

ولمَّا كان مطران مدركًا لعنصر الدراما؛ أي الحركة والصراع في الحياة، بفطرته الشعرية، حتى لَنرى هذا العنصر متدفِّقًا في أروع قصائده، فإن وصفه قد جاء منسجمًا مع نظرية لنسج التي تضمن التفوق لشعر الوصف في مجال الحركة وتتابع اللمحات في الزمن.

•••

والوصف والتصوير لا يقتصران على العالم الخارجي؛ أي الطبيعة، بل يتناولان أيضًا عالم الإنسان؛ أي عالم النفس البشرية. ولقد كان الشعر العربي التقليدي يقتصر في هذا المجال على وصف وتصوير الحالات الوجدانية الخاصة بالشاعر، ولم يكن الشعراء يخرجون عن هذا المجال إلا في المدح أو الرثاء؛ حيث يمكن نظريًّا أن يتسع المجال لوصف وتصوير نفوس بشرية غير نفس الشاعر الخاصة، ولكن الشعر العربي لم يلبث أن تحجَّرت فيه هذه الأغراض، فأصبح المدح أو الرثاء لا يصوِّر شخصيات بعينها، بل يردِّد أوصافًا عامة مثالية يتوارثها الشعراء جيلًا بعد جيل، بحيث يصعب أن نخرج من إحدى المدائح أو المراثي بصورة ولو قريبة يتميز بها الممدوح أو المرثي. ونحن نترك الآن جانبًا مدائح ومراثي مطران لنقف عند وصفه وتصويره للشخصيات والنماذج البشرية التي التقط ملامحها من الحياة أو من التاريخ أو خلقها مشابِهةً للحياة بخياله المبدع، وهذه الصور نجدها في ملاحمه كما نجدها في قصصه الدراماتيكية.

والواقع أنه من الصعب أن نفصل في شعر مطران عناصره الفنية المتداخلة؛ وذلك لأنه يصدر في هذا الشعر عن مَلَكة مركَّبة تجمع بين القصص والدراما والتصوير، حتى لنجده يجمع في القصيدة الواحدة بين اللوحات الواسعة المليئة بالحركة والحياة، وبين الصور الفردية للشخصيات التي يصفها من واقع الحياة أو من تصورات خياله الخالق، بحيث يمكن أن توصف مَلَكته الشعرية في جوهرها بأنها مَلَكة تصوير قصصي.

ولقد ظهرت هذه المَلَكة عند الشاعر منذ غضاضة فنِّه، ولازمته ما احتفظ بعنفوان قوته، حتى إذا تقدَّمت به السنون وأخذ خياله يضعف، وقوة ابتكاره تضمحل ونَفَسه يقصر، رأينا قصائده التصويرية الوصفية تندر، بينما يطغى على شعره قصائد المناسبات، وبخاصة المجاملات الاجتماعية والمراثي؛ ولذلك لا نجد القصائد الفنية الطويلة النَّفَس إلا في الجزأين الأولين من ديوانه.

وبالرغم من أن الشاعر قد اعتذر في مطلع ديوانه عن تسجيل قصيدته المعنونة (١٨٠٦–١٨٧٠)؛ حيث يقول: «كتبتُ هذه القصيدة في صباي، وهي كل ما استبقيته من منظومات كثيرة، أقمت بها تلالًا من الطروس، وكنت إذَّاك أحرص عليها حرص الضنين على كنوزه، ثم جعلت أعيد النظر عليها فأطرح منها صحيفة صحيفة، حتى لم يبقَ منها إلا هذه، وقد هممت مرارًا بإلحاقها بأخواتها، ثم أرعيت عليها لِمَا كان عندي من الكلف الخاص بها؛ إذ كنت أتوهَّم في ذلك الوقت أنني أتيت بها معجزة؛ ولهذا تولَّيت تنقيحها قليلًا ونشرتها على علَّاتها أترسَّم نسمات صباي في خلال سطورها، وأعتبر بما تنتهي إليه خيلاء النفس في شبيبتها وغرورها.» نقول: بالرغم من اعتذار الشاعر عن تسجيل هذه القصيدة الوحيدة التي استبقاها مما قال من شعر على الطريقة العربية التقليدية قبل أن يهتدي إلى منهجه الجديد الذي لخَّصه في مقدمة ديوانه بقوله: هذا شعر ليس ناظمه بعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن أو القافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح في اللفظ الفصيح، ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد ولو أنكر جاره وشاتَم أخاه ودابَر المطَّلع وقاطع المقطع وخالف الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه، وإلى جملة القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها مع ندور التصور وغرابة الموضوع ومطابقة كل ذلك للحقيقة، وشفوفه عن الشعور الحر، وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر. نقول: إنه بالرغم من كل ذلك، فإن هذه القصيدة لم يحرص الشاعر على إنقاذها من الضياع؛ لأنها نسمة من نسمات صباه، أو عبرة بما تنتهي إليه خيلاء النفس … إلخ … بل لأنها في الواقع، وبالرغم مما ظنَّه الشاعر نفسه من أنها لا تسير على منهجه الجديد المتركز في وحدة القصيدة، فإنها تعتبر المرآة الصادقة لمَلَكته الشعرية التي يقوم عليها الشعر، ولا تغني عنها أية أصول، كوحدة القصيدة أو غيرها، وهذه المَلَكة هي أعز ما يحرص عليه كل شاعر؛ ولذلك استبقاها مطران استجابةً لوعيه الباطن، الذي كان أقوى سيطرةً على نفسه من صفة المعاودة وحساب النفس، التي حملته أو حملت عقله الواعي على أن يقدِّم بين يديها المعاذير.

ولعل من الخير أن نتناول هذه القصيدة بالتحليل لنستخلص منها الخصائص الفطرية لملكة مطران الشعرية قبل أن تعقِّدها الثقافة الفنية، وقبل أن تطغى ضرورات الحياة الاجتماعية على تلك المَلَكة، وقبل أن تثقلها السنون، فتمحو بعض معالمها المميزة، وإذا كان بعض النقاد قد زعم أن الأديب لا يمكن أن يكتب في حياته غير كتاب واحد؛ لأنه في هذا الكتاب يُخرِج مضمون نفسه وأسرار ملكاتها الخفية، فإن من الحق أن نقف عند هذه القصيدة الطويلة التي استهلَّ بها الشاعر، أو رضي أن يستهلَّ حياته الفنية وهو في الخامسة عشرة من عمره، لنستخلص منها الخصائص المميزة لشاعريته التي يغلب عليها — كما قلنا — التصوير القصصي.

يستهل الشاعر قصيدته برسم لوحة واسعة للجيوش المتدفقة من فرنسا وبروسيا إلى معركة «يينا» فيقول:

مشت الجبال بهم وسال الوادي
ومضوا مهادًا سرن فوق مهاد
يحدي بهم متطوعين كأنهم
عيس ولكن الفناء الحادي
لله يوم قد تقادم عهده
فيها وظل يروع كل فؤادِ
يوم تجف لذكره أنهارها
خوفًا ويجري قلب كل جمادِ
وإذا قرأنا وصفه فكأنه
بدمٍ زكي خُطَّ لا بمداد
ونكاد نسمع للقتال دويَّه
ونرى الفوارس في لقا وطراد

بهذه الأبيات يستهل الشاعر قصيدته كما يستهلُّ الموسيقيُّ أوبراه بافتتاحية تهيِّئ الجو وتوجِّه الخيال والإحساس، أو كما يبدأ المصوِّر لوحته بالأرضية التي تحدِّد الإطار واللون النفسي. ولعل الخليل كان قد أطلعه أستاذه الفرنسي ببيروت على وصفٍ لتلك المعركة الضروس، ولعل أستاذه اليازجي قد أسمعه أو وجَّهه إلى قراءة وصف عمر بن أبي ربيعة لانصراف الحجيج جماعات حاشدة في قوله:

ولمَّا قضينا من منى كل حاجة
ومسَّح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح

فاستقرَّ في نفس الشاعر ذلك الوصف الرهيب، وأسعفته الذاكرة بوسيلة التعبير عما تصوَّره خياله الواسع لتلك الجحافل الزاحفة، فإذا بالجبال «تمشي» بها، وإذا بالوادي «يسيل» على نحو ما سالت من قبلُ الأباطح بأعناق المطي. ولكن شتَّان بعد ذلك بين جو عمر بن أبي ربيعة الذي كان يتربص في الحج بحسناوات العرب، ويطرب لتجاذب الحديث حيث تسيل الأبطح في رفق بأعناق المطي؛ نعم، شتَّان بين هذا الجو، وبين الجو الرهيب الذي يصوِّره مطران حيث تسير الجحافل كأنها عيس ولكن الفناء الحادي. والناس لا يتجاذبون أطراف الحديث، ولكننا نكاد نسمع للقتال دويَّه، ونرى الفوارس في لقا وطراد. وبذلك يكون مطران قد نجح، لا في تصويره الميدان الحسي للمعركة فحسب، بل وصوَّر أيضًا جوها النفسي الرهيب.

وينتقل مطران من هذا المنظر العام للمعركة إلى تفاصيل الساحة، فيصف جيش بروسيا بقوله:

لبروسيا في أرض يانا عسكر
مجر شديد البأس وافي الزاد
وخيامه في الأفق ماثلة على
ترتيب سلسلة من الأطواد
نفرت طلائع خيله منذ الضحى
تترقب الأعداء بالمرصاد
فأتوا كما يجري الأتيُّ مشعبًا
في غير مجرى مائه المعتاد

وهذه صورة تجمع بين الخصائص المميزة لملكة التصوير الشعري عند مطران، تلك الملكة التي تزاوِج بين السكون والحركة، وبين الوصف والتصوير. فهو يصف خيام جيش بروسيا الجرار؛ أي عسكره المجرُّ وقد تتابعت كسلسلة من الجبال، ثم يصوِّر الحركة في طلائع الخيل التي نفرت منذ الضحى تترقَّب الأعداء، وكأنها الأتيُّ؛ أي السيل مشعبًا في غير مجرى مائه المعتاد، وكأن عنصر الدراما؛ أي الحركة، ملازمٌ لخيال الشاعر وملكته الواصفة.

ثم ينتقل إلى وصف نابليون وجيشه فيقول:

وكأن نابليون في إشراقه
عَلَم على علم الزعامة بادي
المجد رهن إشارة بيمينه
والنصر بين يديه كالمنقاد
والفخر في راياته متمثل
وطلائع العقبان في ترداد

ولقد يكون في هذا الوصف ما يذكِّرنا من قريب أو بعيد بحديث المتنبي عن سيف الدولة عندما يخاطبه بقوله:

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضَّاح وثغرك باسم

فنابليون يُشرف على المعركة وكأنه عَلَم فوق جبل الزعامة، والمجد رهن إشارته؛ والنصر منقاد بين يديه، والفخر متمثل في راياته، وطلائع العقبان والطيور الجارحة تتردَّد فوق الجيش، ممَّا يؤذن بنشوب المعركة، حتى تتصيد تلك الجوارح من جثث القتلى زادًا داميًا. وبالفعل تبدأ المعركة على النحو الآتي:

فتهيَّأ الألمان لاستقباله
كالحائط المرصوص من أجساد
وعلا هتاف مازجته غماغم
من سلِّ أسلحة وركض جياد
ورنين آلات تكاد تظنها
متجاوبات العزف بالإيعاد
حتى إذا كمل العتاد تقاذفوا
بالنار ذات البرق والإرعاد
شهب ضخام آتيات، والردى
بمسيرهن، ومثلهن غوادي
تُلقي الرجال على الثرى قتلى كما
يُلقي السنابل منجل الحصاد
لله درهم وقد حمي الوغى
فتهاجموا كتهاجم الآساد
تدعو الجراحة أختها بصدورهم
والسيف يتلو السيف في الأجياد
وإذا التقى البطلان لم يتجندلا
إلا معًا من شدة الأحقاد
وإذا جواد خرَّ فارسه دعا
بصهيله ذا حاجة بجواد

وفي هذه الأبيات نحسُّ بقوة الاصطدام الأول من الحركة الدافقة التي تنبعث من غمغمة الجند وسلِّ الأسلحة وركض الجياد ورنين الآلات واشتعال النيران، وكأنها شهب ضخام يتبادلها الطرفان، والرجال تهوي إلى الثرى كالسنابل يُلقي بها منجل الحصاد، وقد احتدمت حفيظة الرجال، وارتفعت حماستهم حتى شاركتها الخيل في هذا البيت الرائع:

وإذا جواد خرَّ فارسه، دعا
بصهيله ذا حاجة بجواد

وإن يكن حرف الجر «باء» في لفظة «بجواد» يبدو غريبًا على سمعنا المصري، وربما كان غريبًا على سمع العربي القديم أيضًا؛ لأنه خاص وغالب على لهجة إخواننا الشاميين في سوريا ولبنان. ولعلنا كنا نفضِّل أن لو قال «لجواد» باستخدام اللام بدلًا من الباء.

ويأخذ الشاعر في التمهيد لنتيجة المعركة التي انهزم فيها البروسيون بقوله:

والموت في الجيشين غير مجامل
يجتاح بالأزواج والأفراد
يطوي الصفوف ويترك الدم إثره
فكأنه فُلك ببحر عباد
ما زال يفتك والنفوس زواهق
وكأن تلك هنيهة الميعاد
حتى تولى الذعر جيش بروسِيَا
فتفرقوا بين القفار بداد
فسعى الفرنسيون في آثارهم
بعزائم لا ينثلمن حداد
يستكبر الصعلوك منهم دائسًا
في أضلع الأبطال والقواد
واستفتحوا برلين وهي منيعة
وقضوا بها الأيام كالأعياد

وهنا تتلاحق الصور التمثيلية التي يعجُّ بها خيال مطران في تضاعيف الصورة العامة، حتى تختلط تلك الصور لسرعة تلاحقها فلا نكاد نسايرها، ومن هنا يأتي ما يبدو على شعر مطران من تعقيد لا تتضح خيوطه إلا عند إمعان النظر وطول الرويَّة؛ فالموت يطوي الصفوف في أول صورة، ولكنه يترك الدم إثره، وإذا بهذا الدم يصبح بحر عباد، وإذا بالموت يمخر هذا البحر كأنه فُلك، وبذلك تجتمع كل هذه الصور لترسم أمام الخيال لوحة تلك المعركة الدامية، وهكذا يجمع الخليل بين وصف الملاحم وقوة الدراما ودقة التصوير في فن مركَّب لا نتردد في الجزم بأن مطران لم يُحكِم صياغته عندما أنشد هذه القصيدة لأول مرة في صدر شبابه، وإنما أحكمه عندما عاد إليها بالمعاودة والتنقيح قبل أن يستهل بها ديوانه، على نحو ما فعل طوال حياته في غيرها من القصائد التي نُشرت لأول مرة، في الصحف والمجلات والدوريات، ثم تناولها بالمعاودة والتنقيح قبل أن تُنشر في ديوانه.

وبعد هذه الهزيمة ينتقل الشاعر إلى تصوير الحالة النفسية للبروسيين المنهزمين تصويرًا لا يخلو من عطف، بل مشاركة، فيقول:

وأقام أصحاب البلاد مآتمًا
وكسوا على القتلى ثياب حداد
ناحت عرائسهم على أزواجها
والأمهات بكت على الأولاد
واشتد حزنهم ولم يك مجديًا
من بعد فقد أحبة وبلاد

وبعد هذا العطف والمشاركة الوجدانية ينتقل الشاعر إلى التمهيد في مهارة للأخذ بالثأر الذي لم ينسَه الألمان، فيقول:

الحزن يخمد والمذلة جمرة
لا تنطفي إلا بسيل جساد

وبعد هذا الانتقال الجميل الذي يفرِّق بين الحزن الذي يخمد والمذلَّة التي تظل كالجمرة لا تنطفئ إلا بسيل جساد؛ أي سيل دماء، يتحدَّث الشاعر عن بعث الأمة الألمانية ونهوضها من كبوتها استعدادًا للأخذ بالثأر، فيقول:

عاد الربيع لهم كسالف عهده
يزهو على الأغوار والأنجاد
يا حسنه بلدًا خصيبًا طيبًا
لكنه نهب الغريب العادي
تتبسَّم الأزهار فيه حيثما
عبث الحمام بهالك الأجناد
يا خجلة الأحرار من موتاهمُ
يثوون حيث المالكون أعادي

وهنا نلمح عنصرًا آخر في شاعرية مطران، وهو وجدانه الشخصي، أو الوطني الذي سبق أن قلنا إنه كثيرًا ما يجري في تضاعيف قصصه الموضوعية؛ حيث كان يتنكَّر خلف تلك القصص ليتغنَّى بأغاريد الحرية والعزة والكرامة التي كان يبغيها لوطنه وقومه ونفسه، ثم لا يستطيع أن يفصح عنها لاشتداد الاستبداد والضغط العثماني في ذلك الحين، وبخاصة إذا ذكرنا أن الشاعر كان يؤثِر المعاودة وضبط النفس مما يدعو إلى الأخذ بالتقية، وإيثار السلامة؛ حيث لا تتعادل القوى، وذلك ما لم يفلت الزمام من يد الشاعر وتنفجر نفسه على نحو ما رأينا في مقطوعته الرائعة:

شرِّدوا أخيارهم بحرًا وبرًّا
إلخ … … …

ومَن منَّا لا يحسُّ في حديثه عن مرارة الهزيمة وذل الخضوع لأعداء الوطن الألماني رجعًا لصدى إحساس الشاعر الخاص الذي كان يضيق باستبداد الأتراك وتنكيلهم بوطنه، فيتغنَّى «بالمرسلييز» رمز التحرير، حتى أحسَّ منه الأتراك بهذا التمرُّد الحر فأرغموه على هجر وطنه وملاعب صباه في بعلبك وبيروت التي ظلَّ يحنُّ لها طوال حياته، وأيُّ تمرد على الذلِّ أشد من قوله:

يا خجلة الأحرار من موتاهم
يثوون حيث المالكون أعادي

أَوَما نحسُّ في هذا البيت دعوة إلى تمرد الأحرار الذين يصيح بهم شهداؤهم لكي يطهروا قبورهم من وطء أقدام الأعداء الغاصبين؟!

ولمَّا كان مطران بالرغم من حزنه البادي وتشاؤمه المتصل رجل كفاح لم يعرف اليأس ولم يدعُ له يومًا ما، بل ظلَّ يستثير الهمم ويأمل في صلاح الأمور وتحرُّر المستضعفين، فقد كان من الطبيعي أن يواصل الشوط حتى يصوِّر لنا نهوض الألمان من كبوتهم وانتصارهم بعد هزيمتهم في عزمٍ صادقٍ، وقوة صلبة؛ وفي ذلك يقول:

فاستعصَموا بالصبر ثم تكاتَفوا
وتحرَّروا من رقِّ الاستعباد
وتأهَّبوا للثأر والأحقاد في
أكبادهم كالبيض في الأغماد
حتى إذا اشتدوا وضاق عدوهم
ذرعًا بهم أصلوه حرب جهاد
وبنوا رجاءهم على استعدادهم
لا خير في أملٍ بلا استعداد
هدموا معالمه ورووا ردمها
بدماه فاختلطا دمًا برماد
واستفتحوا باريس فاستوفوا بها
أوتارهم وشفوا صدى الأكباد
كلٌّ بمسعاه يفوز ومن ينب
عند الحوادث لم يفُز بمراد

وهكذا يختتم الشاعر قصيدته التصويرية الرائعة بهذا الدرس الأخلاقي الرفيع في الوطنية والذود عن الحياض، بتلك الروح العملية التي لازمت الشاعر طوال حياته، ومكَّنته من النجاح في ميدان الأعمال كما نجح في مجال الأدب. وبذلك تجتمع لنا في هذه القصيدة كافة العناصر المركَّبة المتداخلة التي تتكوَّن منها شاعرية مطران، بل وشخصيته الإنسانية.

وبمراجعة هذه القصيدة من الناحية الفنية، نجد أنها مبنية بناءً محكمًا، حاولنا أن نوضِّح مفاصله؛ فالشاعر يستهلها بافتتاحية تخلق الجو وتخطِّط اللوحة، ثم ينتقل إلى وصف الجيش قبل الالتحام؛ لينتقل إلى وصف المعركة ذاتها، ثم وصف خاتمتها وما سبَّبته تلك الخاتمة من إيغار صدر الألمان وتبييتهم النية على الثأر، الذي ظلَّ كامنًا في أكبادهم كالسيوف في الأغماد، حتى استطاعوا غزو باريس في سنة ١٨٧٠، فهدأت ثائرتهم وارتوى غليلهم. وفي خلال الشوط كله لا يعدم الشاعر منفذًا يفصح فيه عن وجدانه الخاص ومشاركته العاطفية والإنسانية. وكل ذلك في فنِّ مركَّب دقيق غني بالصور، بحيث لا ندري كيف نستطيع أن نصدِّق الشاعر عندما زعم أنه قد أنشد هذه القصيدة قبل أن يستوي له منهجه الشعري الخاص. وأكبر الظن أنه عندما عاود هذه القصيدة لم يتركها حتى لاءمت ذلك المنهج، وجمعت في أعطافها أهم العناصر المميزة لشاعرية مطران.

وبعد تحليل هذه القصيدة يستطيع من يريد أن يعود إلى قصائده الأخرى المشابِهة مثل «فتاة الجبل الأسود»، و«الجنين الشهيد»، و«فنجان قهوة»، و«نيرون»، و«طفلان» وغيرها من روائع قصائده القصصية المنبثَّة في الجزأين الأول والثاني من ديوانه؛ حيث نجد اللوحات العامة إلى جوار الصور الشخصية، وحيث تتفاوت النغمات بين الملحمة والدراما والتصوير، فضلًا عن الوجدان الشخصي الواضح أو المتنكر، وكل ذلك في وحدة فنية مركَّبة هي الطابع الأساسي لشاعرية مطران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤