فِلَاحة البساتين بمصر

لقد أعدَّ الفراعنة مكانًا رفيعًا للحدائق في مدنيتهم العظيمة، فاهتموا بتعريف الأجيال المستقبلة بتاريخهم السنوي عامًا بعد عام، وملابسِهم وأعمالهم المنقوشة على آثارهم؛ مما دلَّنا على عنايتهم ببساتينهم.

ولقد عزَّز بعض المؤرخين مثل سترابون وهيرودوت المعلومات الهيروغليفية التي حلَّ رموزها شامبوليون ومَن تبعه. ولقد أشار الشاعرُ مرسيال إلى الشهرة الذائعة — التي دوَّى صَداها في المشرقَيْن — لِوَرْدِ الإسكندرية وممفيس الشتوية منذ القرن الأول من الميلاد.

ولقد كانت الحدائق بمصر في عهد هارون الرشيد وألف ليلة وليلة مما يثير الإعجاب والحماسة.

ولقد ابتدأ التاريخ الحديث في عهد محمد علي باشا العظيم، فإنه أنعش فِلاحة البساتين؛ إذ أدخل عددًا عظيمًا من النباتات النادرة والاقتصادية، وكان بستانه الكبير الذي يحفُّ بسرايِهِ بشبرا نموذجًا للجمال في عصره. ولقد استخدم ابنُه إبراهيم باشا رئيسًا لبساتينه يسمى ترايل، وكان اسكتلاندي الأصل، وأرسله إلى الهند الشرقية وجزائر موريس وبلاد أخرى ليبحث له عن النباتات النادرة.

وبعد وفاة الأمير إبراهيم أَفَلَ نجمُ الحدائقِ بمصر، وأصبحت بحالة يُرثى لها، إلى أن أتى الخديو إسماعيل باشا فأزهرت في عصره؛ إذ أدخل عددًا عظيمًا من النباتات من مختلِف البلاد، وأنشأ عِدَّة حدائق ومتنزهات، لا سيما حديقة الأزبكية التي خطَّها سنة ١٨٧٠–١٨٧٢ المسيو بارييه المهندسُ المشهور، الذي كان رئيسًا لحدائق باريس، ثم عُهِدت إدارة جميع الحدائق الأميرية إلى المسيو ج. دلشفالري.

ولقد أنشأ الأمير في الوقت نفسه حديقة في الجزيرة لأقلَمة النباتات، وبنى فيها ما يلزم لها من البيوت الزجاجية الحارة والباردة، وعيَّن فيها عددًا عظيمًا من مَهَرة العمال، وأطلق عليها اسم حديقة الزهرية، وخصَّصها لإكثار الأشجار ومختلِف النباتات، وعَهِد بإدارتها للمسيو دوشان والمسيو جاني.

ولقد أدى الأستاذ شواينفورت مؤسسُ المجمع العلمي والجمعية الجغرافية، والأستاذ سيكنبرجر مدرسُ النبات بمدرسة الطب المصرية، والأستاذ إشرسون؛ أجلَّ الخدمات لمصر؛ إذ ساهموا في تأليف الفلور المصري.

ولقد أنشأ ثانيهم بستانًا هامًّا أُلحِق بمدرسة الطب، وأمهره جميعُ هؤلاء النباتيين بالنباتات النادرة.

ولقد كان السلطان حسين أعظم هاوٍ في عصره للبساتين، وكان بستانه بالجيزة يُعدُّ من أشهر بساتين العالم، ولقد نال إعجاب جميع الأجانب الذين يؤمون هذا القُطر، وإليه يرجع الفضل في إنشاء الجمعية الزراعية الخديوية ومعارِض الأزهار.

ولقد استمرت حركة إنشاء البساتين بحالةٍ تُغبَط عليها في هذه الثلاثين سنة الأخيرة، ولا ننسى حديقة الأورمان النباتية التي تشمل أغنى المجموعات من النباتات الطبية والاقتصادية، وأجملَ نباتات الزينة، حتى أصبحت نعيمًا مقيمًا لمن يؤمه من المتنزِّهين والطلبة.

(١) المناخ

إن النباتات بمصر تنمو نموًّا عظيمًا، وتُحرِز جمالًا فتَّانًا؛ مما يمنح البساتين طابعًا خاصًّا في الجمال والنضارة، لا يفارقها في مختلف الفصول.

وبفضل حرارة جوِّنا في الصيف واعتدالِه في الشتاء أصبحَ الإكثار والنمو سريعَين عندنا. إن مناخنا جافٌّ جدًّا في الصيف بحيث تتألم النباتات الرقيقة مدةَ القيظ، وتُحدِث الرياحُ الخمسينية التي تهبُّ في مايو أضرارًا جمَّة للنباتات، وكذلك الرياح البحرية فإنها تُتلِف جميعَ النباتات في حدائق الشواطئ حتى الأشجار المزروعة لصدِّ الرياح.

ويبتدئ الفصل الجميل عندنا من أواسط الخريف إلى أواسط الربيع، وتبلغ الأزهار أكبر حجمٍ لها ومنتهى جمالها في فصل الشتاء.

(٢) التربة

عندنا بمصر تُرَب مختلفة ابتداءً من الرملية إلى الطينية السوداء اللزجة، ولكن أفضلها تربة طمي النيل، وهي ذات خصوبة نادرة.

(٣) الحدائق والمتنزهات

إن أغنى الحدائق والمتنزهات هي بساتين الحكومة، ويوجد عندنا بعض الأمراء والأعيان ممن يملكون بساتينَ بديعةً خُطَّت بفنٍّ عظيم، وشاملة لمجموعات غنية من النباتات المختلفة.

(٤) الإكثار

عندنا مَوسمان للإكثار؛ أحدهما في يوليو وأغسطس للأزهار الشتوية والربيعية، والثاني في مارس للأزهار الصيفية، وبعض النباتات يُستثنى من هذه القاعدة، مثل الدلفنيوم والسلبجلوسيس والسينيرير، فإنها تُبذَر عادةً في مايو، وكذلك البنسيه والبربمولا مالاكوييدس، فإنهما يُبذَران في أول سبتمبر.

وأما بزور الأشجار والشجيرات والنخيل فموعدها مارس في الهواء الطلق.

وأما العُقَل فتُغرَس في أول فبراير، والفيكوس وبعض نباتات أخرى في مارس. والترقيد يعمل عادةً في الربيع في الهواء الطلق، وتجزئة النباتات الغزيرة الخِلفة والريزومات يكون في مارس.

وتُغرس الأبصال الشتوية عادة في سبتمبر وأكتوبر، مثل الياستت والتوليب والنرجس والفريزيا والأكسيا والسيلا والسوسن البصلي والسوسن الجرماني وغير ذلك.

وأما الأبصال الصيفية فتُزرع عادةً في مارس مثل الداليا والأسمين والتوبيروز (الصغير منها، وأما الكبير فيُزرَع في أغسطس ليزهر في نوفمبر وديسمبر وتتفتح أزهاره جيِّدًا)، والكرينوم، وأما الجلاديولوس فيُزرَع في ديسمبر ويناير.

نحن مضطرون أن نجدِّد كلَّ سنة بزور الأزهار؛ لأنها تتدهور عندنا لشدة الحرارة.

وكثير من الأبصال يتدهور أيضًا، والبعض لا ينجح مطلقًا، مثل الإيرموروس والكالوكورنوس والتروليوس، وأغلب أنواع اللليوم والكيونودوكسا والفريتلاريا وغيرها، وتنبت الأزاليا مدة الموسم الأول جيِّدًا، ثم تضعف وتموت غالبًا في العام الثاني مدة الصيف، وينمو الرودود يندرون مرة واحدة بصعوبة ثم يموت في الصيف، وينبت البفوان الشجري ولكنَّه لا يزهر مطلقًا.

وتعيش عندنا الكاميليا سنتين أو ثلاثة وتتدهور من سنة لأخرى.

ويُلاحظ في مصر أن بعض نباتات تزهر عادة في بلادها بأوروبا في العام الثاني ولكنها تزهر عندنا في العام الأول، مثل الديجيتاليس جلوكسينوييدس والكامبانولا كاليكانتيما.

كما أن بعض النباتات المعمِّرة في أوروبا لا تعيش عندنا إلا سنة واحدة مثل الدلفنيوم المعمِّر والأكويليجيا.

وكثير من النباتات مثل الدييرفيلا والفوكسيا والهوتييا لا تنجح بمصر.

ولا تتدهور الداليا ديكوراتيف بمصر مثل الداليا كاكتوس. وأما الداليا إمبرياليس فتجود عندنا بكل سهولة. وأما الأقحوان الهندي والياباني فينموان جيدًا وزراعتهما في غاية السهولة.

إن نباتات الكاكتوس التي يسميها العوام «الصبار» يجود نموها في بلادنا، كأنها في موطنها الأصلي، وكذلك النباتات اللحمية وفصيلة الكراسولا فإنها تنبت بنجاح عظيم.

بعض نباتات الفصيلة السحلبية (الأوركيدية) تنمو وتزهر بمصر إن اعتُني بها، مثل الكاتلييا واللليا واللليو كاتليا والسبريبيديوم والفالينوبيس والإنجريكوم والدندروبيوم وغيرها، وبعضها ينبت جيدًا ولكنه لا يزهر إلا نادرًا مثل السمبيديوم والفندا والإيريديس وغيرها.

إن أغلب النباتات المتسلقة تنبت بقوة وسرعة، ويُعد بمصر منها نحو خمسين نوعًا وصنفًا من بينها النادر.

إنَّ نخيل الزينة سهلُ الزراعة عندنا، ولكن الصغير منه يتألم من البرد في فصل الشتاء، ويلزم أن يُوضَع في هذا الفصل في بيت زجاجي يُدفأ قليلًا بالنار.

وتجود في بلادنا الأشجارُ الكبيرة، وتبلغ حجمًا كبيرًا في بضع سنين. وفي شهر مارس يكتسي البيروس كالريانا بأزهاره البيضاء. وفي أبريل تلبس شوارعنا المزروعة بالجاكارندا ميموزيفوليا حُلَّة قشيبة من أزهارها الزرقاء ذات العناقيد الضخمة. وفي مايو ويونيو تعطر المجنوليا جرنديفلورا حدائقنا بأزهارها البيضاء الناصعة الكبيرة ذات الأريج المنعش. وفي يونيو تثير الكوريزيا كريسبيفلورا إعجابَ الناظرين بأزهارها الكبيرة الوردية المنقَّطة بالقرمزي، والتي تماثل أزهار اللليوم سبسيوزوم.

ويأتي دور البوانسيانا ريجيا في يونيو فتغطى بأزهارها الغزيرة الحمراء الفتانة، وفي يوليو تزدان حدائقنا بأزهار الخيار شمبر (كاسيافستولا)، ذات العناقيد الضخمة الصفراء، والكاسيا رينيجيرا التي تسحر الناظرين بأزهارها الوردية العَطِرة ذات العناقيد الكبيرة، والتي تستمر في الإزهار إلى آخر أكتوبر.

وكثير من الشجيرات تزدان بها حدائقنا وتشرح نفوسنا في الربيع والصيف، مثل التابر نيمونتانا كوروناريا المزدوجة التي تحاكي الجاردنيا وأنواع الياسمين، والجاتروفا بندوريفوليا بأزهارها الحمراء الفاتنة، والتوكسيكو فلوياسبكتابيليس بأزهارها العَطِرة الوردية، والديدالا كانتوس نرفوزوس بأزهاره الزرقاء، والكيمونانتوس فراجرانس بأزهاره الصفراء التي تشبه رائحة الياسنت، والجينيستا مونوسبرما حينما تكتسي بأزهارها البيضاء وفريعاتها الرشيقة المتدلية، والمونتانوواجر نديفلورا التي تزين حدائقنا بعناقيدها البيضاء الضخمة، والبرونفلزيا أمريكانا بأزهارها البيضاء العطرة، والكليروديندرون فالاكس بأزهاره الحمراء الفاتنة العنقودية.

إن أغلب النباتات المائية تنمو نموًّا عجيبًا، لا سيما النيلومبيوم سبسيوزوم ونيلوفر البلاد الحارة والمعتدلة، وفي أغسطس تزدان حدائقنا بأزهار النيلومبيوم الضخمة البيضاء والوردية.

إن نباتات الفصيلة النجيلية تنمو نموًّا قويًّا وتحفظ بهاءها حتى في الشتاء، وترى الجينريوم أرجنتيوم يُكوِّن مجموعة عظيمة في سنتين. إن الأولاليا ذات الأوراق المنقرشة تُحدِث منظرًا جميلًا في بساتيننا، ويزين البانيكوم بليكاتوم حدائقنا في المواضع النصف المظللة. وفي الختام أتمنى أن تكون في هذه الكلمة الكفاية لإعطائنا فكرة عن فِلاحة البساتين وطبائع النباتات في جو مصر.

وقد خصَّصنا هذا الكتاب لنباتات الزينة العشبية السنوية والمعمرة التي تنجح في مناخنا الشبه الحار، وقد فضَّلنا الترتيب الهجائي ليسهل البحث فيه للهواة الذين لم يدرسوا علم النبات. وسنخصِّص كتابًا آخر للنباتات البصلية والريزوماتية والدرنية التي تنجح في بلادنا الشبه الحارة. إننا نخصُّ بالثناء المسيو فكتور دمياني مدير شركة البزور على اهتمامه بنشر الكتاب وانتخاب صوره حتى اكتسى حُلَّة قشيبة تلفت الأنظار.

إننا نشكر محل فلموران أندريو بباريس الذي تفضَّل علينا بجميع الكليشيهات الفنية التي تزين كتابنا هذا.

محمد كامل حجاج

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤