باريس مدينة الكتب

في باريس ظاهرة لم أر مثلها في ما زرته من سائر العواصم، وهذه الظاهرة أكثر وضوحًا في الحي اللاتيني منها في سائر أحياء العاصمة الفرنسية، فالمكتبات في شارع سان ميشيل وفي الشوارع المتفرعة منه لا يكاد يحصيها العد، وقد ألف المترددون على هذه المكتبات أن يتصفحوا ما شاءوا من الكتب المعروضة فيها أثناء وقوفهم بها قبل أن يقتنوا شيئًا منها، وأذكر من هذه المكتبات بصفة خاصة مكتبة فلاماريون المحيطة بجانب كبير من الجدران الخارجية لمسرح الأوديون، فكثيرًا ما كنت أتردد عليها فأجد عندها عددًا غير قليل من الشباب يفتحون صفحات الكتب التي لم تفتح بعد، ويقرءون فيها، ولعل بعضهم كان يقرأ الكتاب كله ثم لا يشتريه لضيق ذات يده.

وهناك غير هذه المكتبات مكتبات أخرى تبيع الكتب القديمة بأسعار زهيدة، هذه المكتبات تتألف من صناديق مثبتة فوق الحاجز القائم في الحي اللاتيني على ضفاف نهر الصين، وقراءة هذه الكتب القديمة أيسر بطبيعة الحال من قراءة الكتب الجديدة، فأوراقها مفتوحة كلها، ويستطيع من شاء أن يتصفح الكتاب كله أثناء وقوفه عند تلك الصناديق.

وأنت واجد ما تبتغيه من الكتب في الحي اللاتيني لا محالة، أيًّا كان موضوع الكتاب الذي تبحث عنه.

وقد يسرت لي الإقامة بالحي اللاتيني بعد أيام من نزولي باريس أن أترددد على هذه المكتبات، وأن أقف أمام واجهاتها، وأن أقلب بعض صفحات الكتب المعروضة فيها، فلما بدأت قراءاتي في الأدب الفرنسي بعد شهرين أو نحوهما من مقامي هناك كان التردد على هذه المكتبات بعض أسباب التسلية عندي، على أنني لم أكن أحتاج لتقليب الكتب حتى أختار ما أطمئن له، فقد كان من حظي أن كان الأستاذ الذي نتلقى عليه اللغة الفرنسية أديبًا؛ فكان يرشدني إلى ما أقرأ فأشتريه، وبعد أشهر أقمت في بنسيون في بوليفار سان ميشيل نفسه لم يكن معي به غير صاحبة البنسيون وأستاذ في ليسيه «لوي لجران» وشاب فرنسي يدرس لليسانس الحقوق، وكان أستاذ الليسيه يرشدني كذلك إلى خير الكتب فابتاعها، وبعد قليل من بدء قراءتي لهذا الأدب الفرنسي الذي لم أكن أعرف منه إلا القليل المترجم يوم نزلت باريس، شعرت بنهمي لهذه القراءة يشتد وتزداد شدته حتى يبلغ مني أن أقضي فيه معظم ساعات الليل والنهار، وأن أجد فيه متاعًا وسعادة ولذة لا تعدلها سعادة ولذة ولا يعدلها متاع.

وكان كُتَّاب العصر المبرزون في ذلك الحين هم أناتول فرانس، وبيير لوتي، وبول بورجيه، وكان قد سبقهم ممن يضارعهم مكانة فلوبير وجي دي موباسان ويلزاك، هذا إلى طائفة ضخمة من الكُتَّاب والأدباء لا أقصد هنا حصرهم، أما أدباء القرنين التاسع عشر والثامن عشر من أمثال فولتير وروسو وفكتور هوجو ولامارتين وموسيه ومعاصريهم فلم تكن أسماء أكثرهم غريبة عليَّ، وقد اندفعت أقرأ وأقرأ ولا تزيدني القراءة إلا ظمأً للنهل منها للاستزادة من روائعها، حتى إذا فتحت الجامعة أبوابها وآن لي أن أُعنَى بالمحاضرات فيها لم تصرفني هذه العناية عن متابعة قراءتي في الأدب.

ولم تكن لذة القراءة هي وحدها دافعي إلى هذا الإدمان إياها، بل كان ثمة دافع آخر، فأنت في كل مجلس تجلس فيه، وفي كل مسرح ترتاده، وفي كل جماعة تلقاهم كنت تشعر بأنك غريب عن المجلس وعن الجماعة إذا لم تكن متتبعًا الحركة الفكرية في العاصمة، وكان أهل المجلس ينظرون إليك عند ذلك وكأنما يعجبون لوجودك بينهم، بل يعجبون لوجودك في باريس.

على أني شعرت بعد زمن أنه لم يبق لي عن إدمان القراءة غنى، كما يشعر المحب بأنه لا غنى له عن صحبة من يحب، وقد راقني يومئذ من الأدب الفرنسي عامة، ومن الأدب المعاصر خاصة صفتان أخذتا بمجامع نفسي، وجعلتا هذا الأدب يملك كل حواسي، هاتان الصفتان هما الوضوح والعمق، فهو كالماء الصافي، تنظر فيه فإذا هو مبسوط أمامك فسيح الأرجاء في البحر الذي يحتويه، وهو مع ذلك عميق يذهب بك إلى أغوار الأشياء في تصويره وفي تخيله وفي قصصه وفي حواره، وفي كل ما يتناوله، صحيح أن أساليب الكُتَّاب تختلف وضوحًا وعمقًا، كما تختلف اتجاهاتهم في فلسفة الحياة وفي تصوير أغراضها، لكن لكل واحد منهم فكرته التي لا تستبهم عليك، ولو أدت بك هذه الفكرة إلى الحيرة وإلي اللادرية.

يخيل إليَّ أن كثيرين من شبابنا الذين ذهبوا إلى باريس في الفترة التي قضيتها أنا بها، أو فيما حول تلك الفترة، قد استهواهم الأدب الفرنسي، واستهواهم التفكير الفرنسي ما استهواني، وشغفوا به كما شغفت أنا به، ويخيل إليَّ كذلك أن هذا كان شأن كثيرين من أبناء البلاد العربية الذين درسوا في باريس في ذلك الحين، فقد لاحظت من بعد أن هؤلاء جميعًا هم الذين تولوا توجيه الرأي الحر في بلادهم، فقامت الصحافة وقام التأليف وقامت أستاذية الجامعة، وقام البناء الفكري كله بمجهودهم وعلى أكتافهم، وأثمر في مصر وفي غير مصر من البلاد العربية ثمرته اليانعة الدانية القطوف.

ولست بحاجة أن أذكر أسماء هؤلاء والكثيرون من أبناء البلاد العربية يعرفونهم، لكن الشيء الذي طالما تساءلت عنه هو السبب في استجابة الرأي المثقف في هذه البلاد العربية للاتجاه الفرنسي في التفكير والرأي، أكثر من استجابته للاتجاه الجرماني أو الأنجلو سكسوني مثلًا.

فقد درست ودرس الكثيرون من أمثالي اللغة الإنجليزية، وقرأنا الكثير من كتبها، ووجدنا فيما قرأنا المتاع والفائدة، لكن الواحد منا كان إذا درس اللغة الفرنسية بعد ذلك ألفى نفسه أكثر إلفًا لها وآدابها ولصور التفكير فيها، حتى يحسب الكثيرون أنه لا يعرف لغة أجنبية غيرها، وقد ألف بعض إخواننا أن يذكروا أن مرجع ذلك إلى أن البلاد التي تشاطئ البحر الأبيض المتوسط يتشابه مزاجها، وتتشابه طرق التفكير فيها بحكم الإقليم الذي تقيم فيه، والبيئة الطبيعية التي تحيط بها، ولهذا الرأي لا ريب قيمته، فللبيئة الطبيعية على التفكير الإنساني الأثر الأول، وما يحيط بالطفل حين يُولد يبقى أثره في نفسه ما عاش، لكني أعتقد أن ثمة اعتبارًا آخر يتصل بهذا الاعتبار لا يصح إغفاله، وهو اعتبار تاريخي يرجع إلى أقدم الحقب، فقد نشأت الحضارة أول ما نشأت في هذا الجانب الذي نعيش فيه من جوانب العالم حول البحر الأبيض المتوسط، كانت مصر وكانت اليونان وكانت روما، ثم كانت البلاد المسيحية والبلاد الإسلامية المقدسة مبعث هذه الحضارة في قيامها وفي تطورها، وقد ورث أبناء هذه المنطقة تراث هذا التطور وامتثلته نفوسهم أكثر مما امتثله غيرهم من الشعوب.

كذلك كان للفن الإيطالي من تصوير وموسيقي، وللأدب الفرنسي شعرًا ونثرًا، وللأديان التي نشأت في مصر وفي فلسطين وفي بلاد العرب، أعمق الأثر في هذه النفوس، وقد امتد هذا الأثر خلال الأجيال من الأجداد إلى الأبناء فعاون البيئة الطبيعية على تصوير المزاج الإنساني لهذه الشعوب، فإذا هذا المزاج يتشابه في نواحي التفكير والشعور والتصوير، وإذا آثار متشابهة تنطبع فيما تنتج هذه البلاد من علم وفن وأدب، وإذا هي تعيش وكأن بينها من أواصر القربى ما يزيدها في بعض الأحيان ارتباطًا، وما يثير بعضها في كثير من الأحيان ببعض.

وما أحسب هذه الوراثة يزول أثرها قبل أجيال وقرون، فقد تأصلت في هذه البلاد منذ ألوف السنين، ولا بد للاتجاه الإنساني الجديد نحو حضارة عالمية من أن يستقر أجيالًا، كذلك ليكون له من الأثر ما يغلب به هذا التراث المجيد الطويل، وقد أتمنى أن لا يكون ذلك، وأن يسرع بنا التطور نحو الوحدة العالمية لنكون شعوبًا متفاهمين متعاونين متشابهي الميول والمزاج، لكني أعتقد أن ذلك غير مستطاع؛ لأن التطور الإنساني لم يسر في عصر من العصور بمثل هذه السرعة، ولهذا سيظل للأدب الفرنسي أثره في هذا الجانب من العالم لا ينازعه إلا الذين ورثوا ما ورث أمثالهم من إيطاليين أو يونان أو عرب أو مصريين، وقد يكون هذا النزاع خيرًا، وقد ينتهي بغلبة الأدب الفرنسي غدا، وقد لا ينتهي إلى هذه النتيجة، وسيظل للأدب الفرنسي على أية حال ما له اليوم من مكانة يغار أهله عليها، ويبذلون الجهد للاحتفاظ بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤