إسبانيا … شرقية أم غربية

أقلتني الطائرة من لندن إلى مدريد في منتصف شهر سبتمبر الماضي، والطائرة تقطع ما بين لندن ومدريد في ثلاث ساعات وربع الساعة، وتقطع ما بين لندن وروما في مثل هذا الوقت، كذلك الحال بين مدريد وروما، فكأنما لندن ومدريد وروما ثلاثتها على رءوس مثلت متساوي الأضلاع، ومع ذلك فما أكبر الفرق بين هذه العواصم الثلاث في لغاتها، وجنس سكانها، ولونهم، وفي تصورهم الحياة والنعمة بها.

ومدريد أقرب هذه العواصم إلى حياتنا الشرقية، وكذلك يقول الأوروبيون أنفسهم، بل أخبرني أحد الإسبان أن بعض هؤلاء الأوروبيين يعتبرون إسبانيا جزءًا من إفريقيا، ويرون أن جبال البرانس تفصل بين أوروبا وإفريقيا، كما تفصل جبال الأورال بين أوروبا وآسيا؛ إذ تفصل بين روسيا وسيبيريا، وأن مضيق جبل طارق لا يضيف إسبانيا إلى أوروبا، وإن كان مضيق دو قر لا يفصل في نظرهم إنجلترا عن أوروبا.

أما الإسبان فلا يرون إلا أنهم أوروبيون كما أن إيطاليا أوروبية، ولذلك تنزع فنونهم في التصوير والموسيقى والغناء في الوقت الحاضر المنزع الغربي، بعد أن كان لها طابعها القومي الخاص الذي لم تتخلص إلى اليوم منه، ولا أحسبها تتخلص منه أبدًا.

وهذا الخلاف بين أوروبية الإسبان وإفريقيتهم، أو بين شرقيتهم وغربيتهم إن شئت، قائم اليوم كما كان قائمًا منذ أجيال، أخبرتني سيدة إسبانية فاضلة أنها ذهبت مع زوجها العالم إلى الدانمرك، فلما رآها أهل كوبنهاجن وعرفوا أنها إسبانية أبدوا لها عجبهم من صفاء لونها وبياض بشرتها؛ لأنهم يظنون الإسبان جميعًا سمر الألوان كالإفريقيين، وأجابتهم السيدة بأن في إسبانيا من هم وهن أكثر صفاء في بشرتهم منها، ولا تدري السيدة أصدقها الذين سمعوها أم حسبوها تقول هذه العبارة؛ حرصًا منها على أن تكون بلادها غربية أوروبية.

والواقع أن في إسبانيا كما رأيتها شيئًا من طابع الشرق غير قليل، وفي لغتها ألفاظ كثيرة تمت بأصلها إلى العربية لست أعلم أأحصاها علماء اللغة الإسبانية أم لم يحصها منهم أحد؟ لهجتهم في الحديث تشبه بعض لهجاتنا الشرقية حتى لتظن إذ تسمع بعضهم أنه يتكلم العربية.

ولا عجب في هذا وقد أقام العرب المسلمون في إسبانيا ثمانية قرون حتى تألبت عليهم المسيحية فأجلتهم عنها، وأعادت إسبانيا كاثوليكية كما كانت قبل الفتح العربي، وكانت إسبانيا كلها، ولم تكن الأندلس وحدها في حكم المسلمين زمنًا طويلًا، ولعلهم كانوا يستطيعون البقاء بها رغم تألب المسيحية عليهم لو لم يدب بين أمرائهم دبيب الشقاق، ولم تقم بينهم حروب أهلية تذهب بريحهم وتزيدهم ضعفًا، وتمكن خصومهم منهم، لكن هكذا شاءت المقادير، شاءت أن يتخاذل المسلمون، وأن تتحد كلمة المسيحية، أن ترتد إسبانيا عن الإسلام، وأن تعود أشد تمسكًا بالكاثوليكية من إيطاليا نفسها، وأشد لذلك عناية بكنائسها وأماكن العبادة فيها، لا يبزها في ذلك إلا مدينة الفاتيكان مستقر البابا صاحب القداسة في العالم الكاثوليكي كله.

ولقد طالما ساءلت نفسي وأنا في إسبانيا، وأنا أزور إشبيلية وقرطبة وغرناطة، وأنا أشاهد ما بقي من آثار المسلمين، ترى لو أن الإسلام بقي في إسبانيا، وكان الإسبان اليوم مسلمين، فماذا عسى تكون صورة العالم الحاضر، وكان هذا السؤال يزداد ترددًا في نفسي حين أذكر أن جلاء المسلمين عن إسبانيا عاصر اكتشاف كريستوف كولومبوس أمريكا، واستقرار الإسبان فيها استقرارًا لا يزال له مظهره الواضح إلى اليوم؛ إذ تتكلم بلاد أمريكا الجنوبية كلها الإسبانية فيما خلا البرازيل، وكنت بطبيعة الحال لا أجد جوابًا على تساؤلي إلا أن أقول: هكذا شاءت الأقدار، ولله في كل شيء حكمة، وكم عادت إلى ذاكرتي وأنا بالأندلس أبيات من مرثية الأندلس التي مطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان

والتي يقول فيها الشاعر:

يا رب أم وطفل حيل بينهما
كما تفرق أرواح وأبدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذا طلعت
كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة
والعين باكية والقلب حزنان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن
كان في القلب إسلام وإيمان

ثم أعود بعد هذا التذكر فأقول: هكذا شاءت المقادير، ولله في كل شيء حكمة، ولو خلق الله الناس أمة واحدة لفسدت الأرض.

أقول هذا ثم لا تطاوعني نفسي لأنصرف عن التفكير فيما كان العالم يصير إليه لو أن إسبانيا بقيت إسلامية، فبقيت أمريكا الجنوبية وبقيت المكسيك إسلامية مثلها، وتكلم الجميع اللغة العربية، ولقد تمكن هذا التفكير من نفسي حتى أفضيت به يومًا إلى شاب إسباني مهذب، فقال مبتسمًا: ترى لو أن ذلك كان، أفكنت أنا اليوم أسعد مما أنا، إن استطعت أن تؤكد لي ذلك شاركتك فيما يدور بخاطرك، أما وأنت لا تستطيع أن تُؤكده، وحوادث التاريخ تجري بقدر لا سلطان لأحد عليه، فلا غناء في هذا التفكير الذي يشغل بالك، ولا نتيجة له في حياة الوجود.

وصدق الشاب فيما قال، لكنا في كثير من الأحيان نُفكر بعواطفنا أكثر مما نُفكر بعقولنا، ونأبى رغم كل اعتبار أن نُسلم أنفسنا لحكم الواقع، مع اعترافنا بالعجز عن تبديل هذا الواقع.

وأشد ما كان هذا التفكير يشغل خاطري حين كنت أزور البلاد التي ترك المسلمون فيها من الآثار ما لا يزال يُحدث عنهم، كان ذلك في طليطلة وإشبيلية وقرطبة وغرناطة، كنت وأنا أزور هذه الآثار أحس كأن هذا الميراث الضخم كان لي، وأنه سُلب مني، وكنت وأنا بمسجد قرطبة أجيل بصري في عمده المترامية أمام النظر في أشكالها العربية التي تُعيد أمام الذهن عمد الأزهر أو عمد المسجد الحسيني، ثم أرى جوانب عدة من المسجد استحالت كنائس يُصلي فيها أهل قرطبة اليوم، أتخيل المؤذن يُنادي الناس لصلاة المسلمين، فإذا مر بي هؤلاء المصلون في الكنائس انقشعت عن عيني سحابة الخيال والوهم وعدت أواجه الواقع، وأقول كرة أخرى: كذلك شاءت الأقدار، ولو خلق الله الناس أمة واحدة لفسدت الأرض.

فإذا أنا اختلطت بالناس تسليت عن هذا الذي يساورني بما أرى في الإسبان من مظاهر الشرق، ففي أهل هذه البلاد شمائل واضحة من شرقنا تبث إلى النفس من الطمأنينة ما لا تجد مثله في غير إسبانيا، فعند الإسبان من حسن الحفاوة بالضيف، ومن الإسراع إلى معاونة الأجنبي عن بلادهم ومن التودد إليه، أكثر مما عند غيرهم من أهل الشمال الأوروبي، وما يجد الإنسان مثله في بلاد الشرق، وفي أغاني الإسبان القومية شبه كبير بالأغاني الشرقية مما لا يرضاه الأوروبيون، ولقد سمعت بمدريد أغاني إسبانية بحتة، فكان يُخيل إليَّ وأنا أسمع بعض أنغامها أنني أسمع أنغامًا شرقية في مصر أو سوريا أو العراق، والرقص الإسباني (بالكاستانييت) يُعيد إلى الذهن، ولكن في صورة مهذبة غاية التهذيب الرقص (بالصاجات) مما كنا نشهده فيما مضى بالقاهرة أو بالريف المصري، وقد قيل لي: إن هذا الغناء وهذا الرقص أكثر إثارة للمعاني الشرقية حين تسمعه أو تراه في الأندلس منه في مدريد، وإن الموسيقى التي تصحب الغناء وتصحب الرقص تكاد تكون شرقية بحتة، وقد حرصت على أن أرى من هذه الفنون الإسبانية القومية بمدريد ما يُرضي شرقيتي، على أنني سرعان ما تبينت أن التيار الذي يجرفنا نحو الفنون الجميلة الغربية يجرف الإسبان كذلك، وأن بعض مسارح العاصمة لا تكاد تعرض أثرًا من الفنون القومية، ذهبت يومًا إلى مسرح القصر — أو الكاثر كما يسميه الإسبان — فإذا الموسيقى والغناء والرقص والتمثيل ونظام المسرح غربي كله، وإذا بي أشعر وكأني في باريس أو في لندن، أو كأني أشهد بأوبرا القاهرة قطعة إيطالية أو فرنسية، ولم يدهشني ذلك والحضارة الغالبة تجرف إليها في كل العصور كل ما سواها؛ لأن الناس يرون في مظاهر هذه الحضارة أثرًا من آثار القوة التي تتحكم في الشعوب، ويحسبونها لذلك أرقى من غيرها من الفنون والآداب التي تخلفت وراء هذه الحضارة الغالبة.

وقد يكون للإسبان من العذر من اتجاههم نحو الغرب أكثر مما لنا، فهم يجاورون فرنسا، وهم دولة مسيحية كاثوليكية كفرنسا وإيطاليا، وآدابهم وبعض فنونهم متجهة لذلك هذه الوجهة من أزمان بعيدة، ولهم من كبار المصورين ومن فحول الأدباء ما سلكهم في سلك الغرب منذ عهد غير قليل، وأنت حين تزور متاحفهم بمدريد وبغير مدريد، وحين ترى آثارهم الفنية البارعة تشعر بأن بينهم وبين الغرب نسبًا لا يقل عما بينهم وبين الشرق من نسب إن لم يزد عليه، وإذا كانت بعض مدنهم القديمة تحدث بتخطيطها وبمبانيها حديث الشرق؛ فإن حياتهم الحديثة ومدنهم الكبرى، ومظاهر عيشهم المختلفة تجري على سنن الغرب وتتعلق به.

ولقد كنت أشعر بالحيرة حين أحاول التقريب بين هذين اللونين من ألوان الحياة يتجاوران في البلاد الإسبانية وفي النفس الإسبانية، وبقيت في هذه الحيرة طيلة مقامي بين القوم ولم ينجني منها إلا أن عُدت إلى مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤