فكرة الأماكن المقدسة

ألف الناس أن يعتبروا كل بناء أتيى عليه القِدم أثرًا من الآثار، وأن يزوروه بدافع من الطلعة، استزادة من المعرفة، وحرصًا على أن يروا بأعينهم ما صنع الأسلاف الذين طواهم الدهر في صحائف القبور منذ مئات السنين أو الوفها … فالذين يزورون معابد الفراعنة في مصر يزورونها توقًا إلى العلم بحضارة سلفنا، وبالقواعد التي كانت هذه الحضارة تقوم عليها، وبالمنشآت التي شادها أهلها، وذلك شأن الذين يزورون الأطلال والآثار القديمة في كل بلد من البلاد، فأما المسلمون الذين يحجون بيت الله الحرام بمكة ويزورون قبر النبي عليه السلام بالمدينة، فليس حب الاستطلاع هو الذي يدفعهم لزيارة آثار قديمة توالت عليها القرون، وإنما يدفعهم شعور عميق بأنهم يؤدون فرضًا فرضه الله عليهم، وهم يرون الكعبة، ويرون القبر النبوي ببصرهم وبصيرتهم، على أنهما متصلان بحياتهم الروحية، كاتصال منازلهم بحياتهم المادية وبحياتهم الاجتماعية، وذلك شأن المسيحين إذ يزورون بيت المقدس إنهم يشعرون حين يدخلون كنيسة القيامة، وحين يزورون كنيسة المهد ببيت لحم، بأن فلذة من حياتهم الروحية قائمة في هذه الأماكن المقدسة، وبأنهم إذا بعدوا بأجسامهم عنها فإن أرواحهم تظل تهفوا إليها.

واليهود الذين يزورون المبكى ببيت المقدس، يخالط قلوبهم شعور كشعور المسيحيين، وكشعور المسلمين في زيارتهم الأماكن المقدسة عندهم.

لست أعدو الحق إذن حين أقول: إن هذه الأماكن تبقى على القرون جديدة أمام كل جديد؛ لأنها تعتبر في نظر الذين يحجونها موئلًا لأرواحهم، وملاذًَا لقلبوهم المتعطشة إلى التطهر ترجوه حيثما تكون من بقاع الأرض … ثم لا تطمئن إلى أنها بلغت حظها منه حتى تتم حجها.

هذا الاتجاه الروحي إلى مكان مقدس أمر جوهر في طبيعة الأديان جميعًا، وهو كذلك بنوع خاص في طبيعة الأديان السماوية الثلاثة التي نزلت بالشرق الأوسط: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. صحيح أن نشأة الأماكن المقدسة في الأديان الثلاثة، تختلف وتتباين تباينًا كبيرًا، لكن الفكرة التي شادت هذه الأماكن واحدة في الأديان الثلاثة أو تكاد تكون واحدة، وليس عجبًا أن يكون ذلك شأنها، وبين هذه الأديان الثلاثة صلة أوثق الصلة … فقد قام المسيح بين قومه من يهود، يذكر لهم دينهم في صفاء جوهره، وينذرهم عذاب الله بأنهم حرفوا كلامه إلى موسى عن مواضعه منقادين وراء أهوائهم ومطامعهم، مبتغين من عرض الحياة الدنيا ما يباعد بينهم وبين رحمة الله … مندفعين بحكم هذه الأهواء والمطامع إلى حياة الظلم والإثم، كما ينذرهم بأن أغنياءهم الذين يظلمون الفقراء لن يتقبل الله منهم … فدخول الجمل سم الخياط أيسر من دخول الغني الباغي ملكوت الله.

والقرآن الذي أنزله الله على محمد عليه السلام، يجادل النصارى ويجادل اليهود بأن الله بعث لهم رسله بكلمة الحق … فزاغت عنها أبصارهم وبصائرهم، وبأنهم حرفوا كلام الله في التوراة والإنجيل عن مواضعه، وأن النبي العربي إنما بعثه الله ليرد الحق إلى نصابه، وليحق الحق ولو كره الكافرون … وقد بعثه الله مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل.

من هذه الصورة السريعة البسيطة لما بين الأديان الثلاثة من صلة، يتضح أنها ترجع إلى أصل واحد وتستمد وجودها في صفائه من ينبوع واحد، وهذا الأصل الأزلي الخالد هو الحق جل شأنه … تجلى على موسى فكلمه تكليمًا، ونفخ في مريم من روحه فكان عيسى كلمته إلى الناس، وأوحى إلى محمد آياته وكلمه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

والينبوع الذي تستمد منه هذه الأديان وجودها في صفائه، هو السمو بالروح عن كل عبودية لغير الله … فالروح من أمر الله، وملكوت الروح في السماء لا في الأرض، وإله الروح واحد هو الله جل شأنه وتعالت أسماؤه، وقيام هذه الأديان الثلاثة تحيط به ظروف متشابهة.

كان الناس في عهد الرسل الثلاثة يتخذون لأنفسهم أربابًا من دون الله، ثم يتخذون هذه الأرباب إلى الله زلفى … فجاءت الأديان الثلاثة صريحة في التقرير بأن الله لا إله إلا هو الملك الحق، وأن الذين يتخذهم الناس أربابًا من دونه ليس لهم شيء من قدرته، لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابًا، ضعف الطالب والمطلوب، وأن الناس يجب لذلك أن يقلعوا عن كل عبادة إلا عبادة الله، وعن الأمل إلا في وجهه الأكرم، وعن الاهتداء إلا بنوره الذي أضاءت له السماوات والأرض، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة.

•••

كان أهل مصر الفراعنة يصدقون فرعون؛ إذ يقول لهم: «أنا ربكم الأعلى». فبعث الله موسى إلى بني إسرائيل يصرفهم عن عبادة فرعون إلى عبادة الله، وكان أهل فلسطين يذعنون لأرباب روما صاحبة السلطان فيهم، وكان اليهود منهم يتملقون الحاكم الذي ترسله روما ويقرون ظلمه … ابتغاء رضاه عنهم، وليمد لهم أسباب السلطان والمال، فقام المسيح فيهم يدعوهم إلى ملكوت السماوات، وينذر الأغنياء عذاب ربهم الأعلى.

وكان العرب في شبه الجزيرة يعبدون الأصنام … فبعث الله محمدًا إليهم يدعوهم لعبادة الله وحده ولنبذ الأصنام، وينذرهم عذاب يوم شديد إذا هم لم يبتغوا وجهه الأكرم، ملتمسين إليه الوسيلة بالبر والتقوى.

ليس عجبًا والصلة بين الأديان الثلاثة ما قدمت، أن تتفق الفكرة التي أدت إلى تشييد الأماكن المقدسة أو تكاد تتفق، وهذه الفكرة لا تقف عند تقديس المكان الذي نزل الدين فيه، فأمرها ليس كذلك في اليهودية بالنسبة لحائط المبكي ولا للصخرة المقدسة، وإنما جوهر هذه الفكرة تعيين المكان الذي يجتمع الناس فيه … ليتوجهوا بقلوبهم إلى الله … والذي يقبل الله فيه توبة التائب من آثامه … فنحن وإن اتصلت روحنا ببارئ النسم جل شأنه، تغشانا بحكم حياتنا الدنيا أهواء وشهوات، تحجب ضياء الروح، فلا يهدينا صراط الله المستقيم.

وكثيرًا ما تدفعنا هذه الشهودات وهذه الأهواء إلى ألوان من المعاصي والآثام، تباعد بيننا وبين رضا الله عنا، وحسن مثوبته جل شأنه إيانا …

حقا إن الحسنات يذهبن السيئات، وإنما في عبادتنا حيث كنا نخفف من أوضار ذنوبنا، لكن من الذنوب ما يثقل الروح فهي أبدًا قلقة تريد أن تخلص منه، ونحن نتوب إلى الله ونستغفره في كل صلاة وفي كل ساعة من ساعات الليل والنهار، وعفو ربي وسع كل شيء، لكن التوبة النصوح التوبة التي يتقبلها الله ويمحو ذنوب صاحبها، هي التوبة التي نسعى إليها، ونتجشم المشاق في سبيلها، ثم نعلنها على ملأ العالم من بني ديننا، وهذه التوبة هي التي تتم في إعلان صريح في المكان المقدس الذي اختاره الله لنا؛ كي يكون بعضنا شهيدًا على بعض، ولكي لا تلهينا العاجلة، فلا نكاد نعلن التوبة إلى الله حتى نتورط في حياة الأثم من جديد.

هذه هي الفكرة الجوهرية القائمة بنفس كل مسلم، وكل مسيحي، وكل يهودي يعتزم الحج إلى المكان المقدس الذي اختاره الله لأهل دينه وملته، ففي سبيل طهر القلب ونقاء الروح مما يعلق بالنفس من أوضار الأثم، نذر وراء ظهورنا تلك البيئة التي أغرتنا وغرتنا، ولعبت بأهوائنا، وعبثت بقلوبنا إلى بيئة طهور تتجلى فيها أرواحنا، وترتفع إلى غاية ما تستطيع أن تسمو إليه من عوالمها المضيئة … فتصهر بحرارة إيمانها، وبحرارة توبتها، ما علق بها أو تصهره على ملأ بني الدنيا؛ لأن الدنيا مهد الخطيئة، فليس منا من يستطيع أن يدعي أنه لم يأثم … بل كلنا تصدق فينا كلمة السيد المسيح في مريم المجدلية: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر».

فكرة التوجه إلى الله بالتوبة وطلب المغفرة، هي التي أبقت الأماكن المقدسة جديدة أمام كل جديد، وهي التي أنشأت تلك الأماكن أول أمرها، وهي الأساس لنشأة أقدم هذه الأماكن وأكثرها قدسية … فمنذ فجر الإسلام كان الطواف بالكعبة يجمع كل معاني التوجه لله، من شكر إلى رجاء إلى توبة واستغفار.

وكان الطواف بالكعبة يجمع هذه المعاني قبل الإسلام … فالعربي الجاهلي الذي كان يطوف بالكعبة قبل أن يخرج على عمل يرجو منه الخير، والذي كان يضرب بالقداح عند هبل القائم في جوف الكعبة قبل أن يوفقه رب البيت إلى ما يبغي، ونحن لا نزال؛ إذ نطوف اليوم بالبيت العتيق، يحدونا الرجاء أن يحط الله عنا أوزارنا، وأن يوفقنا في حياتنا إلى ما نحب ونرضي، وإلى ما يحب ويُرضي ذلك شأننا جميعًا حين نحج، وإن اختلف كل حاج في تصور الحياة، وتصور معاني الرجاء والشكر والتوبة.

الفكرة التي شادت الأماكن المقدسة وأبقتها جديدة أمام كل جيل جديد، هي أذن فكرة التوجه لله ابتغاء رضاه، والأمل في بلوغ الكمال الذي يقربنا من الله، ثم قصورنا دون هذا الكمال، وقربنا في كثير من الأحيان من نقيضه، ورجاؤنا في الله بعد ذلك أن يغفر لنا ما قصرنا وما أتممناه، وهذا الاضطراب بين الكمال ونقيضه يتعرض له الناس جميعًا على اختلاف أقدارهم واختلاف علمهم.

فهذا العاهل العظيم الذي ملك الأرضين ودوخ الشعوب، وبلغ من ذلك ما بهر القلوب وشد إليه الأنظار يرجع إلى نفسه ساعات فيشعر بأن ما يراه هو ويراه الناس العظمة كل العظمة … ليس شيئا إلى جانب ما ارتكب في سبيله من أوزار، وأنه لذلك أحوج إلى رضا الله عنه ولطفه به، حتى لقد يود لو أنه لم يكن عاهلًا عظيمًا، ولم يرتكب كل ما ارتكب من الخطايا.

هنالك تضعف نفسه ويستشعر الندم، ويريد أن يتقدم إلى بارئه بالتوبة، فيسعى إلى المكان المقدس الذي يتوب الناس عنده حاجًّا مستغفرًا مما اجترح في سبيل العظمة التي طالما أغرته وضلته، وهذا الفقير الذي يكد ليله ونهاره لقوته وقوت عياله، يشعر بأنه لم يكن دائمًا طاهر النفس في سعيه، وفي كده وأنه طالما تمنى لجاره ما لا يتمناه لمن يحب، وأنه في سبيل الحياة قد أثم وأذنب، وأنه لذلك في حاجة إلى التوبة تطهره؛ ليعود إلى ربه نقي الروح جديرًا بملكوت الله.

وبين هذين — بين العاهل العظيم والفقير الذي يكد ويسعى لقوته وقوت أهله — تضطرب طبقات الإنسانية المختلفة بين القوة والضعف وبين اليأس والرجاء، وبين الأمل الخادع والخيبة اللاذعة، وهي في اضطرابها يعبث بها الغرور تارة ويعبث بها الضعف أخرى … فإذا عبث بها الغرور أثمت، وإذا عبث بها الضعف أثمت … وعند ذلك تشعر بالحاجة إلى التوجه إلى الله منيبة تائبة من آثام الغرور ومن آثام الضعف جميعًا … ثم لا تجد ملاذًا لطهر الروح المتعطشة إلى الطهر إلا بالحج إلى الأماكن المقدسة … تعلن عندها التوبة وتغسل في ظلالها الوزر والحوبة.

من ثم، كان شعور الحجاج؛ إذ يبلغون هذه الأماكن المقدسة قويًّا، فياضًا بمعان روحية لا سبيل إلى تصورها في غير هذه الأماكن، وسنرى صورًا من ذلك حين الحديث عن كل واحد منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤