فضيلة الركوع

هناك علاقة تاريخية بين تركيع النساء لسلطة الرجال في العائلة، وتركيع الدول المستعمَرة لسلطة الدول الأقوى المستعمِرة، الطاعة هي القانون الأزلي لفضيلة الخضوع والركوع.

يمدح الرجل زوجته؛ لأنها «مُطيعة وديعة»، وتمدح أمريكا «مصر»؛ لأنها دولة معتدلة وديعة، تُطيع الأوامر، وإن أطاحت بالقانون والقضاء والشعب كله.

لم تتغير فضيلة الطاعة منذ العبودية، فقط تغيَّرت اللغة والكلمات، أصبح الخداع اللُّغوي عبر تكنولوجيا الإعلام مبهرًا، وتحول الركوع إلى كبرياء مزيف تحت اسم الحب والصداقة والديمقراطية والانتخابات الحرة والسوق الحرة.

بعد الثورات الشعبية أصحبت هذه الكلمات سيئة السُّمعة، هل يصدق أحد لعبة الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أو لجنة الدستور أو حكاية التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية؟

يقول السناتور الأمريكي «جون ماكين» للحكومة المصرية: «اخبطي رأسك في الحائط، فنحن نملك القرار النهائي.» ويقول المجلس العسكري للشعب المصري: «اخبطوا رءوسكم في الحائط واصرخوا في المظاهرات، فنحن نملك إصدار القرارات.»

ويقول الزوج لزوجته: «اخبطي رأسك في الحائط، أنا أملك القانون والدين والشرف.»

عملية الركوع أو السجود لا تحدث إلا في العلاقات بين الأسياد والعبيد، أفرادًا أو جماعات أو دولًا.

يطغى جنون القوة المُطلَقة على منطق العدل والعقل. تقترن الطاعة والخضوع بحركة الجسد، الانحناء الشديد حتى الركوع على الركبتين، أو السجود بالجبهة فوق الأرض. في المعتقل يضربون المسجون حتى يسجد ويمرغ أنفه في التراب، ويقولون له: قل «أنا مَرَة». أكبر إهانة للرجل أن يصبح امرأة، حسب القيم منذ العبودية.

أحد الكُتَّاب الصحفيين في مصر، كتب يقول إنه ضُرب في السجن، حتى فقد الوعي، لكنه لم ينطق قط كلمة «أنا مَرَة»، نشر هذا الكاتب الصحفي ثلاثة كتب عن قضية تحرير المرأة، ويعتبرونه رائد النساء المصريات بعد قاسم أمين.

في إحدى الندوات نهضت أستاذة جامعية، قالت إن الله أمر المرأة بالطاعة، وإن ضرب الرجل لزوجته يتفق مع الآية القرآنية: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ، وأن سجود المرأة لزوجها مشروع حسب الحديث النبوي: «لو أمرتُ المرأة أن تسجُد لغير الله لأمرتُها أن تسجُد لزوجها.» نهض طالب شاب قائلًا: إن عملية الضرب أو سجود المرأة موروث منذ العبودية، وصفَّقت له الطالبات.

هل يمكن لإنسانة تحترم نفسها أن تُطيع أمر شخص دون اقتناع، وإن كان والدها أو زوجها أو رئيسها في العمل أو رئيس الدولة؟ فما بال أن تركع له أو تسجُد؟

وهل تختلف كرامة الإنسان حسب الجنس؟

تفقد المرأة كرامتها، وتقبل الضرب أو الركوع بسبب الضغوط الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو القانونية أو الدينية أو الأخلاقية أو النفسية.

الدولة تفقد كرامتها أيضًا تحت الضغوط الاقتصادية أو العسكرية أو السياسية.

لكن هناك نساءً ودُولًا ترفض الضغوط وتقاوم وتثور وتتحرَّر.

الدولة المصرية فقدت كرامتها وإرادتها تحت حكم الاحتلال الأجنبي، حتى عام ١٩٥٦م، وتحرير قناة السويس من قبضة الاستعمار البريطاني، لكن هزيمة ١٩٦٧م الكبرى، وقبول المعونة الأمريكية (مع الانفتاح الاقتصادي) في السبعينيات، أعادا مصر تحت نير الاستعمار الأجنبي والخضوع للهيمنة الأمريكية الإسرائيلية، مع تصاعُد التيارات الدينية الذكورية المُعادية للنساء.

التصريحات النارية في الصحف والإعلام المصري أن مصر «لن تركع» لأمريكا، ولن تسمح بسفر الأمريكيين المتورطين في قضية التمويل الأجنبي، عبارة «لن تركع» لا تُستخدم بين الدُّول المتساوية، أو بين الأفراد المتساوين، فالقانون يحكم بينهم، وليس الطاعة والركوع.

يقاوم الضعيف (العاجز عن القرار) بالزعيق والكبرياء الزائف، يتكلم الأقوى بصوت منخفض، ثم يتخذ القرارات، وتأتي الطائرة العسكرية تنقل الأمريكيين من مصر، رغم إرادة القضاء والشعب والثورة، وكل الإرادات.

تُطيع الدولة الضعيفة وتركع، رغم القسم بأغلظ الأيمان إنها لن تركع.

قال لي أحد الصحفيين: «الشعب المصري يشعُر بالعار والهوان بدرجة غير مسبوقة في التاريخ.»

قلت له: «المجلس العسكري والحكومة هم من ركعوا وتهاونوا في كرامتهم، وليس الشعب المصري.»

قال: «أصحاب السُّلطة المستبدة لا يمكنهم الاعتراف بالضعف، يُصدِرون تصريحات كأنهم الأبطال الأسياد ونحن العبيد.»

قلت: «أنتَ أحسن حالًا من زوجتك، أليس كذلك؟»

أطبق في صمت. كان يضرب زوجته إن هددته بالخُلع بسبب علاقاته بأُخريات.

في إحصائية أخيرة تأتي «مصر» بين الدول متقدمةً جدًّا «رقم ٤» في ضرب الزوجات، ثم تأتي متأخرةً جدًّا «رقم ١٩» في تلوث البيئة.

في ١٢ فبراير ٢٠١٢م، بجريدة الأهرام، كتب د. علي جمعة مفتي الجمهورية مقالًا جاء فيه: «إن الإسلام قرر المساواة بين الناس جميعًا، أما الآية القرآنية التي تقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (سورة النساء: ٣٤)، لا تتحدث عن جنس الرجال وجنس النساء، بل تتحدث عن الزوج وزوجته، حيث جاء فيها: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ولا يصح لأي رجل أن يفعل ذلك إلا بزوجته.»

هل يُعقل أن تكون الزوجة المصرية أكثر المضروبات في العالم؟ وتأتي مصر في مؤخرة المستعمرات الجديدة عام ٢٠١٢م رغم حضارتنا العريقة؟

إذا كنت صادقًا فأنت في غير حاجة إلى القسم بالله العظيم، وإذا كنت لا تركع لأحد فأنت لا تُقسم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤