طيور الظَّلام

تحرَّش بعض الرجال بالشابات الثائرات بالميدان، لم يوضح الإعلام نوع هؤلاء الرجال، تم الخلط المتعمَّد بين شباب مصر الناهض صانع الثورة، وبلطجية النظام السابق.

أخبار التحرُّش الجنسي تحت اسم حماية العُذرية والدين والأخلاق طغت على أخبار التحرُّش السياسي الانتخابي تحت اسم الشرعية والديمقراطية.

كبار الصحفيين كتبوا أن البشر يخطئون، منهم المجلس العسكري، كل شيء نسبي منه القانون العادل، يجب تقبُّل حكم المحكمة ونتائج الصندوق، ونذهب جميعًا إلى جولة الإعادة، قواعد اللعبة الديمقراطية يجب ألا تنقض.

سألني الإعلامي: «هل التحرُّش بالبنات بسبب الجوع الجنسي لدى الشباب؟»

قلت: «لا، بسب الجوع للسُّلطة والثروة والتنافُس على الحكم.»

«اشرحي يا دكتورة.»

قلت: «للتحرش الجنسي هدف سياسي، هو تخويف الشابات من النزول للميدان، وتخويف الأهالي ليمنعوا بناتهم من المشاركة في الثورة، بهدف إجهاضها.»

قال الإعلامي: «إجهاض الثورة حدث بالشباب الثوار أنفسهم، وكثرة انقساماتهم ورغبتهم في هدم أعمدة الدولة.»

قلت: «الثورة نادت بإسقاط النظام، أليس كذلك؟»

قال: «وهل الدولة هي النظام؟»

أغلب كبار الكُتَّاب الصحفيين والصحفيات، يرتبطون عضويًّا بالسُّلطة والثروة، فالصحافة أحد أعمدة الدولة، هي السلطة الرابعة، تسبقها السلطة التشريعية، ثم القضائية، ثم التنفيذية، الفصل بين السلطات على الورق فقط، العائلة الواحدة تتجسَّد فيها السلطات الأربعة: الوزير والقاضي والصحفي وعضو مجلس الشعب، يرتفع الوزير عن الجميع، يمشي رئيس البرلمان خلف رئيس الوزراء، يجلس رئيس الدولة واضعًا الساق فوق الساق أمام جميع السلطات، إلا خارج القطر، يُنزل ساقه أمام السلطة الدولية الأعلى. الطبقة تحكم، ليس الفرد وإن كان مستبدًّا، حسني مبارك سقط والطبقة الحاكمة باقية، منهم كبار الكتَّاب الصحفيين، يتغيَّر موظف كبير (رئيس تحرير)، لكن يبقى الصحفيون الكبار في أماكنهم صامدين، يؤمنون بالحكمة والمرونة والتعددية، والتكيُّف مع الظروف والواقع، والانحناء للعاصفة حتى تمر، ينال الكاتب الصحفي منهم إعجاب الحكومة والمعارضة، وأمريكا وروسيا والصين، له أكثر من مقال في صحف متعددة.

الشعب مصدر السُّلطات وفوقها جميعًا حسب الدستور، العكس هو الواقع، فالشعب معدوم السُّلطة حتى يخرج إلى الشوارع في ثورة، ولا يعود إلا بعد تحقيق أهدافه كلها، أمر لا يتحقق في التاريخ إلا بعد سنين أو عقود من الصراع الدامي بين الثورة والثورة المضادة، السلطة أو الثروة لا تأتي أو تزول إلا بالدم، فما بالنا بالاثنين معًا؟

نشهد التحول السريع لأغلب كبار الكتَّاب الصحفيين، من الاشتراكية إلى الليبرالية إلى الإسلامية إلى السلفية إلى السُّنية إلى الشِّيعية إلى الصوفية ومشايخ الطرق، يتحولون من زعماء المادية الجدلية إلى زعماء الرُّوحانية الصوفية، لقد انهار الفاصل بين المادة والرُّوح في علم الكون، بعد انقسام الإلكترون، لا يمكن قياس سرعة «الكوارك» بأي مقياس معروف، يبدو من شدة سرعته موجودًا في مكانين في آنٍ واحد، وكالأرض ساكنًا.

هناك رجال دين ينكرون حركة الأرض، لولا جهاز الكمبيوتر تحت لحم أصابعهم لتصوروا أن رسائلهم الإلكترونية تحملها الأرواح الخفية عبر البحار والمحيطات.

جريدة كبرى تحمل مقالات الكاتب الصحفي الكبير، لم تتغير صورته منذ كان صحفيًّا شابًّا في العشرين أو الثلاثين، يصبغ شعره مثل رئيسه، عاش عصر السادات ومبارك، دون أن يزول عنه شبابه في الصورة، دخل السجن بسبب مقال نقد فيه الحكومة، ثم خرج من السجن بطلًا يحتل صفحة أو نصف صفحة، له طابور من الصحفيات الناشئات المتطلِّعات للمجد دون كفاءة، تظن الواحدة منهن ببلاهة أنها الوحيدة في حياته.

أشاد بالسادات بطل الحرب والسلام، ومبارك بطل العبور والنصر، جمال مبارك الشبل من ذاك الأسد، سيُرشحه ليخلف أباه في الحكم، الإخوان المسلمون هم الجماعة المحظورة الممولة للإرهاب، بعد الثورة أصبح مبارك فاسدًا وابنه أكثر فسادًا، أصبحت الثورة مجيدة، الثوار قمة الوطنية، ثم تحوَّل الثوار إلى بلطجية، يهددون الأمن والاستقرار والاقتصاد، يرفضون الانتخابات البرلمانية وعرس الديمقراطية، بعد نجاح الإخوان المسلمين بمجلسي الشعب والشورى أصبحوا السلطة الشرعية، يشيد بعظمتهم وتاريخهم الوطني، ومعاناتهم في السجون كمعارضة شريفة، لا يخاف على الإطلاق من الدولة الدينية بمرجعية مدنية، ثم سرعان ما انقلب على الإخوان ليُغازل السلفيين، والمجلس العسكري، والرُّوحانية الصوفية والرئيس القادم، الذي يبني الدولة المدنية الحديثة، ويبعد عن مصر شبح الإخوان وطيور الظلام.

ليس كاتبًا واحدًا بل الأغلبية، ظاهرة خطيرة في كل عهد، يسيطرون على المقالات والأعمدة، ويغسلون الأدمغة، يربطهم أخطبوط من المصالح الاقتصادية، وروابط اجتماعية وصِلات الرَّحم، منذ عهد الملك والإقطاع إلى الطبقة الثورية العسكرية، والقطاع العام والرأسمالية الوطنية، والقطاع الخاص غير المستغل، وشركات الاستيراد والتصدير والقطط السمان والسوق الحرة والبورصة.

المرونة والواقعية نوع من الحكمة، لكن هناك فرقًا كبيرًا بين الحِكمة والخدعة، بين المرونة والتلُّون، بين الصندوق والانتخابات الحرة النزيهة.

الدستور أو القانون العادل هو الحَكَم بين السلطات والطبقات والأفراد، لكن كم من دساتير وقوانين عادلة تظل حبرًا على ورق؛ لأن السلطة التنفيذية غير عادلة؛ لأن الطبقة الحاكمة تنفرد بالسلطات الأربعة.

فما هذه الضجة حول الجمعية التأسيسية للدستور والتحرُّش الجنسي؟

ألا تتغير قواعد اللعبة الديمقراطية التي يقدسونها؟ وتتحول من الصندوق إلى ثورة العقل والضمير؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤