الصراع … بطريقة علمية!

نظر «أحمد» إلى عداد المسافة في تابلوه السيارة، وقال: إن المدينة الصغيرة، تبعد عنا ميلًا واحدًا. وهذا يعني أننا يجب أن نغادر السيارةَ؛ لنقطع بقيةَ الطريق على الأقدام.

صمت لحظةً، ثم قال: إن عامل الوقت شديد الأهمية بالنسبة لنا؛ فنحن ينبغي أن ننتهي من المغامرة قبل طلوع النهار، أو على الأقل، أن نكون داخل المدينة قبل ظهور أولِ ضوء.

صمت مرةً أخرى، بينما كانت عيناه ترقبان معنًى محددًا، يتردد على وجوه الشياطين. فابتسم وهو يقول: إنني أعرف فيم تفكرون، ومنذ البداية، فكرت في ذلك. فعندما قال رقم «صفر» إننا سوف نتعامل مع عصابة علمية، أدركت أننا يجب أن نتصرف بنفس الأسلوب.

ثم وضع يده في جيب صغير في حقيبته السحريةِ، وأخرج علبة دقيقة. فتحها، وأخرج منها عدة كبسولات صغيرة. قدم واحدةً لكلِّ واحد من الشياطين، ثم ابتسم قائلًا: هذه الكبسولة ضد عمل الأجهزة الإليكترونية.

أخذ الكبسولة، ووضعها في فمه، ثم بلعها … وبسرعة، كان الشياطين يفعلون نفس الشيء. وفي هدوء بدءوا ينزلون من السيارة التي سار بها «أحمد» قليلًا، حتى شجرة على جانب الطريقِ، ثم وقف وأغلقها. وعاد بسرعة إلى حيث كان يقف الشياطين، وبدءُوا رحلة المشي في اتجاه مدينة الدكتور «بالم».

كان الجو هادئًا، والظلام يوحي بكثير من الإثارة، وذلك الغموضِ الذي يلفُّ كل شيء. ريح باردة بعض الشيء، تدفع الإنسان إلى مزيد من الحركة حتى يشعر بالدفء، توقعات متعددة، كان يفكر فيها الشياطين، تعطي للمغامرة أبعادًا أكثر إثارةً. وكانت أسئلة كثيرة تدور في أذهانهم: هل هناك حراسة بشرية؟ هل يمكن أن يشتبكوا مع «رجل المستقبل» في صراع؟ وهل هذا الرجل يملك قوة خارقة، أضعافَ الرجل العادي؟ وهل الدكتور «بالم» يمكن أن ينضمَّ إليهم؟

أسئلة كثيرة كانت تتردد، إلا أن «أحمد» كان يفكر في سؤال واحد: هل يلبس «بالم» رقم «٢» نظارةً طبيةً مثل الدكتور «بالم» رقم «١»؟ وهل هو في سنه أو أنه في سن الشباب؟ كانت المسافة تتناقص وهم يتقدمون في نشاط، وإن كانوا في نفس الوقت، يحذَرون المكان؛ فهم يتوقعون أيَّ شيء؛ ولذلك فقد كان «أحمد» يتقدم المجموعة، وهو يمسك جهازًا في شكل قلم حبر. وهو جهاز خاص بالكشف عن المتفجرات؛ فقد فكر «أحمد» أن تقوم العصابة بزرع ألغام في الطريق إلى المدينة، لا يكشفها إلا من يعرف الطريق. وكان توقعه صحيحًا. ففجأة أضاء الجهاز إضاءةً خافتة، جعلت «أحمد» يتوقف، وهو يهمس للشياطين أن يتوقفوا.

اتجه يمينًا قليلًا، ثم خطا خطوة، فاختفى ضوء الجهاز. عرف أن لغمًا أرضيًّا في الطريقِ الآخر، فأخبر الشياطين حتى يكونوا على علم بطبيعة الطريق. ثم تقدم خطوات أخرى فلمع ضوء الجهاز. عرف أن الطريق إلى المدينة لا يسير في خط مستقيم، ولكنه يمتد في طريق متعرج، حتى لا يكشفه أحدٌ مرةً أخرى. اتجه إلى اليمين، غير أن الجهاز ظلَّ مضاءً. غيَّر طريقه إلى اليسار، ثم تقدم، فاختفى ضوء الجهاز. كان الشياطين يتقدمون خلفه بحذر.

قدر «أحمد» المسافة بين اللغم الأول، واللغم الثاني، فكانت حوالي مترين. استرشد بتقدير المسافات، غير أنها تغيرت بعد قليل؛ فقد بدأت تقلُّ، لتكون المسافة بين كلِّ لغم وآخر مترًا ونصفًا، ثم مترًا واحدًا. فجأةً … بدأت تقلُّ أكثر؛ لتكون نصف متر فقط. توقف لحظةً وفكر: إن هذه المنطقة تمثل حقل ألغام، وهذا يعني أن التقدم فيها خطر تمامًا، وأن أيَّ خطأ، يمكن أن يضيعهم، بجوار أنه يكشف محاولتهم.

همس «عثمان» الذي كان يمشي خلفه مباشرةً: هل أتقدم؟

ردَّ «أحمد»: أي واحد منا يمكن أن يتعرض للخطر.

فكر «أحمد» بسرعة، فقد كان الوقت يمرُّ. من الضروري أن يكون هناك طريق وسطَ هذا الحقل، وإلا فكيف يمرون؟!

أخذ يحرك الجهاز في شتى الاتجاهات. فجأةً اختفى الضوء، عرف أن هذا هو الطريق الذي يبحث عنه. تقدم في حذر، وببطء شديد، لكن بعد بضع خطوات، أضاء الجهاز. توقف وبدأ يحركه في اتجاهات مختلفة، حتى تبين الطريق؛ فقد كان حقل الألغام لا يمتد في اتجاه مستقيم. إنه متعرجٌ أيضًا، ومعه كان يتعرج الطريق الصالح للمرور. ظلَّ يتقدم ولم يصدر الجهاز أيَّ ضوء. أخذ يحركه في كل اتجاه، إلا أنه لم يعطِ أيَّ إشارة، فَهِم أنهم اقتربوا تمامًا من المدينة، وأن منطقة الألغام قد انتهت.

بدأ يتشمم روائحَ عطريةً، فعرف أن منطقة المزروعات قد بدأت، وأنهم الآن ربما يكونون في حديقة المدينة الصغيرة. أخرج بطارية إليكترونية تصدر أشعة ضوئية غير مرئية، فهي تكشف الأماكن، دون أن يكشفها أحد. وكما توقع تمامًا، كانت مجموعة من نباتات غريبة تبدو خضراء تمامًا. وعندما تحقق منها ظهرت الدهشة على وجهه، لقد كانت نباتات زهرة «اللوتس» التي اهتم بزراعتها المصريون القدماء أيام الفراعنة. همس إلى الشياطين بملاحظته، فوقفوا يتأملونها.

همست «إلهام»: إننا في منطقة غريبة؛ فكيف تصل هذه الزهور إلى هذا المكان؟

فجأةً، قطع صوتها الهامسَ نباحُ كلاب خافت. تسمَّروا في أماكنهم، إن وجود كلاب في المكان لم يكن واحدًا من توقعاتهم؛ فهم قد توقعوا أن يكون العلم هو السلاح الذي تستخدمه العصابة في حراسة المكان.

قطع صمتهم صوت «أحمد» يهمس: إنهم يفكرون بطريقة صحيحة، ولا يضعون البيض كلَّه في سلة واحدة.

فَهِم الشياطين ماذا يعني أن العصابة تفكر في شتى الاحتمالات … وهي لذلك تضع احتمالاتها أيضًا. فإذا كان القادم ممن يستخدم العلم؛ فإنها تضع له ما يمكن أن يكشفه. بدأ نباح الكلاب يرتفع، حتى صار حادًّا، وبدأ الشياطين يفكرون في خطة مضادة. كانوا يحاولون تحديد مصدر النباح، حتى يمكن أن يتعاملوا معه. لكن قبل أن يصلوا إلى ذلك، شمل المكانَ ضوء شديد، حوَّل المنطقة إلى قطعة من النهار. غير أنهم في لمح البصر، كانوا قد اندسوا وسط كتل اللوتس الكثيفة.

فجأةً بدأت أصوات تصل إليهم، وظهر عدد من الرجال. بينما كان الشياطين يتأملون المدينة الصغيرة، التي ظهرت واضحة في الضوء الساطع. كانت عبارة عن مجموعة من المباني المتوسطة الحجم، وكأنها لوحة زيتية طُليت كلها باللون الأبيض، وامتدت الخضرة حولها، وفي المسافات التي تفصل بينها. كانت مدينةً جميلةً فعلًا!

ابتسم «أحمد» وهو يفكر: خسارة أن نقوم بنسف هذه المدينة. إنها نموذج بديع لمدينة المستقبل.

كان الرجال الذين يقفون أمامهم يبدو عليهم الفزع؛ فهم بالتأكيد لا يتصورون وصول أحد إليهم، بعد كل هذه الاستحكامات والألغام. قال واحد يبدو أنه قائدهم: أطلِقوا الغازات السامَّة حول المدينة.

فجأةً اختفى الرجال، وفي سرعة كان الشياطين يلبسون الكمامات الخاصة بالغازات السامَّة. مضت دقائق، ثم انتشر في جو المكان دخان رقيق لا يكاد يظهر، لكن الشياطين يعرفونه جيدًا. كان صوت الكلاب قد توقف، وتوقع الشياطين أن تكون الكلاب في مكان خاص بها؛ فهي لا يمكن أن تتعرض لهذه الغازات؛ وإلا فقدت حياتها. لكن توقع الشياطين لم يكن صحيحًا، فقد ظهرت الكلاب وعلى وجهها كمامات صغيرة. عرف الشياطين أنها تحميها من الغازات. وفي نفس الوقت، كان يمسك كلَّ كلب أحد الرجال، وهم يلبسون كمامات أيضًا.

فهم الشياطين أن المعركة قد بدأت، وأن الصدام أصبح وشيكًا، غير أنهم فكروا في نفس اللحظة ألا يبدءُوا بكشف أنفسهم. فعليهم أولًا أن يقوموا بعمل حزام حول المدينة، حتى إذا اضطروا إلى نسفها، يكونون قد حققوا كل شيء. كانت الكلاب تتجه إلى حيث يختفون.

همس «أحمد»: يجب أن نتخلص منها.

قال «خالد»: إن ذلك قد يكشف وجودنا.

رد «أحمد»: بل العكس. إنهم سوف يتصورون أنها قد تسمَّمت بتأثير الغاز.

وعندما أعطى «أحمد» إشارة، كانت المسدسات قد استعدت. وثبَّت كل واحد من الشياطين إبرة مخدرة في مسدسه. ومع إشارة أخرى، انطلقت خمس إبر مخدرة في اتجاه الكلاب، فأصابت خمسةً منها. كانت ثمانيةَ كلاب؛ ولذلك فقد أسرع «أحمد» و«باسم» و«خالد» بإطلاق ثلاث إبر أخرى. ولم تمض دقيقة حتى كانت الكلاب كلها قد رقدت على الأرض.

وقف الرجال ينظرون في دهشة إلى ما حدث، في نفس الوقت الذي كان قائدهم يقف عند باب المبنى الأول، يشير إشارات حادة، ثم اختفى داخل المبنى. أسرع الرجال خلف القائد واختفوا هم الآخرون. فكر «أحمد» قليلًا، ثم أخرج فراشة إليكترونية تحمل جهاز إرسال وأطلقها. فطارت الفراشة في اتجاه المبنى، ثم التصقت بالباب. وضع «أحمد» سماعات على أذنيه، ثم بدأ يستمع لما يدور من حديث داخل المبنى، كان ينقله جهاز الإرسال الدقيق الذي تحمله الفراشة.

سمع «أحمد» صوتًا حادًّا، عرف أنه صوت قائدهم، يصرخ: ماذا حدث؟ هل الكمامات غير سليمة؟! لقد أصيبت الكلاب بالتسمم!

رد صوت: لا أظن ذلك. فلم تظهر عليها أعراض التسمم؛ فهي لم تسعل، ولم تترنح. لقد سقطت مرةً واحدةً …

صرخ القائد قائلًا: ماذا حدث إذن؟! سوف أسمح لكم بخروج دفعة أخرى من الكلاب. المهم تأكدوا أن الكمامات سليمة.

سمع «أحمد» صوت أقدام مسرعة، ثم صوت القائد يتحدث: عليكم بحراسة المبنى الرابع.

فكر «أحمد» قليلًا، ثم قال: هناك دفعة كلاب أخرى في الطريق، علينا أن نستعد.

صمت لحظة، ثم قال: يبدو أن دكتور «بالم» يرقد في المبنى الرابع …

أخرج الشياطين الإبر المخدرة وانتظروا. قال «أحمد»: سوف أتحرك في اتجاه المبنى الرابع، وعليكم أن تتعاملوا معهم.

زحف بسرعة. دار حول المبنى الأول، حتى إذا تجاوزه، توقف قليلًا يرقب الأبنية الموجودة. حدد المبنى الرابع، وكان يبدو مثل قلعة صغيرة، تقدم في بطء. كان الضوء خافتًا، فكر لحظةً. إن هذا المبنى هو أهم الأبنية جميعًا؛ حيث يوجد الدكتور «بالم»؛ ولذلك فلا بد أن تكون حراسته مشددةً، ولا بد أن تكون أجهزة متقدمة تمامًا.

أخرج قلم الحبر، ليكشف المكان. لم تصدر إضاءة عنه، عرف أنه يستطيع أن يتقدم. فكر مرة أخرى: من الضروري أن تكون هناك غرفة مراقبة، وعدساتٌ لتصوير أي شيء خارج المبنى … أخرج جهازًا صغيرًا من حقيبته، ثم ضغط زرًّا فيه. وقال في نفسه: الآن لا يستطيع أي جهاز مهما كان أن يكشف وجودي … ثم اقترب في حذر.

كانت بوابة القلعة الصغيرة مغلقة. ضغط زرًّا في الجهاز، ووجَّهه إلى البوابة، فأصدر إشارات سريعة. عرف أن البوابة مكهربةٌ، ابتسم وقال في نفسه: هذه مسائل بدائية. اقترب أكثر، حتى لم يعُد بينه وبين البوابة، سوى عدةِ أمتار. فجأة شعر بدفء جهاز الاستقبال، فعرف أن هناك رسالة كانت من الشياطين. قالت الرسالة: انتهت الدفعة الثانية من الكلاب. أرسل لهم: عليكم بمدِّ الحزام حول المدينة، حتى نكسب وقتًا. سوف أرسل لكم إذا كان هناك شيء.

وجه الجهاز في اتجاه البوابة مرةً أخرى، ثم ضغط زرًّا ثالثًا، فأصدر ذبذبات جعلت البوابةَ تفتح. نظر حواليه في حذر، ثم تقدم، لم يكن هناك أحد … قفز قفزة واسعة، فأصبح عند البوابة. دخل بسرعة، ونظر حوله، لم يكن هناك أحد. كانت البوابة تؤدي إلى مساحة متوسطة، ثم صعد خمس درجات، إلى باب حديدي آخر.

لم يضيع وقتًا … ضغط زرَّ الجهاز فانفتح الباب. كانت هناك صالة صغيرة خلفه. تقدم بسرعة ودخل، كان كل شيء هادئًا. نظر حوله يحدد معالم المكان، كان هناك باب واحد، وبجواره درجات سلم تقود إلى طابق آخر. فكر قليلًا، ثم قال في نفسه: ماذا خلف الباب؟! وهل يمكن أن يكون دكتور «بالم» هنا؟

وجه الجهاز إلى الباب، الذي كان بلا أُكرة … انفتح الباب، فأسرع قافزًا إليه. نظر في أرجاء الحجرة بسرعة. لم تكن سوى حجرةِ صالون رائعة، زرقاء اللون. عاد ووجه الجهاز إلى الباب فأغلق. أسرع إلى السلم، وقفز عدة درجات، لكنه فجأةً توقف … لقد كان هناك إنسان آلي ينزل السلم، وهو يسده تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤