بين الأدب والسياسة

جِدٌّ وهزل

نعم جِدٌّ وأيُّ جد، لك ما شِئْتَ وما لم تَشَأْ، إن اسْتَطَعْتَ أن تَظْفر بجد أَحْزَم وأَصْرَم وأَعْظَم وأَقْسَى من هذا الجد الذي يُلِمُّ بالحياة المصرية في هذه الأيام، فيثير في بعض نواحيها حُزْنًا لا يُشْبِهُه حُزْن، وفي بعض نواحيها الأخرى سرورًا لا يُقاس إليه سرور.

نعم، وهزلٌ أيُّ هزل، لك ما شِئْت وما لم تشأ، إن اسْتَطَعْتَ أن تَظْفر بهزل أَبْدَع أو أَرْوَع أو أَخَفَّ على الروح، أو أَدْعَى إلى الضحك، أو أَقْدَر على التلهية والتسلية من هذا الهزل الذي يُلِمُّ بالحياة المصرية في هذه الأيام، فيثير في بعض نواحيها قهقهة وإغراقًا في القهقهة، ويثير في بعض نواحيها الأخرى بكاء لا يَبْخَل أصحابه بالدموع.

وتعالَ معي يا سيدي فانظر عن يمينٍ، ثم انْظُرْ عن شِمالٍ، واسمع لِمَا يأتيك مِنْ هذا الوجه، ثم اسمع لِمَا يَبْلُغُك من ذلك الوجه، ثم حَدِّثْنِي أو حدِّث الناس بما ترى وما تَسْمع إن اسْتَطَعْتَ أن تَخْلُصَ للحديث، فإني أخشى أن ترى مَن مَلَكَهُم الحزن فتَحْزَن، أو ترى مَن مَلَكَهُم الضحك فتُغْرِق معهم فيما هم مُغْرِقون فيه.

انظر يا سيدي إلى يمين، فسترى أصحاب الجاه الرفيع والعز المنيع والسلطان الواسع والصوت البعيد قد رُدُّوا إلى حياة لو أنها بَرِئَت من الجاه والعز، وخَلَتْ من سَعَة السلطان وبُعْد الصوت لكانت على أصحابها شرًّا ونُكْرًا، ولكنها امتلأت بالعِبَر التي جَعَلَتْها نَكَالًا لما بين يديها وما خلفها، وعِظَة لمن يستطيع أن يتَّعِظ، ودَرْسًا لمن يُحْسِن أن يَفْهَم عن الأيام ما تُلقِي من دروس.

انظر يا سيدي عن يمين؛ فسترى الإبراشي باشا كَاسِف البال، ضَيِّق الصدر، شَاحِب الوجه، مُقَطَّب الجبين، مخفوض الرأس، مُقوَّس الظهر، مُطْبق الفم، معقود اللسان، وسترى مِنْ حَوْلِه الغرور وبنات الغرور، ثم اليقظة وبنات اليقظة، وهُن يَتَرَاقَصْنَ ويَتَبَادَلْنَ فيما بَيْنَهُنَّ أحاديث عنيفة لَيِّنَة فيها حزن ويأس، وفيها سخرية ودُعابة، والرجل بين هؤلاء الراقصات يقظان كالنائم، ونائم كاليقظان، قد زُلْزِلَتْ به الأرض زلزالًا شديدًا، لم يَتَّصِل ولم يَطُل أَمَدُه، ولكن الأرض على ذلك ما زالت تدور به وتَضْطَرب مِنْ تَحْتِه، حتى أصبح لا يملك قُدْرة على أن يُحَقِّق شيئًا أو يُثْبِت في نفسه شيئًا، أو يفكر في شيء، أو يُقَدِّر شيئًا، إنما هو داخل مأخوذ يرى هؤلاء الراقصات يَضْطَرِبْن مِنْ حَوْلِه، بعضهن يَنْتَحِبْن ويَبْعَثْن في الجو نشيجًا وزفيرًا، وبعضهن يَضْحَكْن ويَبْعَثْنَ في الجو صياحًا متصلًا، فيه الرضى وفيه الابتهاج، وفيه السَّخر من طغيان الطغاة والاستهزاء بظلم الظالمين، والاستخفاف بهذه الآمال العِذَاب الكِذاب، التي تملأ الإنسان غُرُورًا وجهلًا وحَمَقًا وثِقَة بالنفس واطمئنانًا إلى الأيام، والرجل يرى ولا يُحَقِّق، والرجل يَسْمَع ولا يَفْهَم، والرجل قد أَخَذه هذا الذهول، حتى إنه لَيَوَدُّ لو استطاع أن يَنْهَضَ فيرقص مع هؤلاء الراقصات المحزونات، أو يَدُور مع هؤلاء الدائرات المبتهجات؛ ولكنه وَاهِن، خائر القوى، منهوك الجسم كما أنه منهوك العقل، قد سَكَنَ هو واضطَرَبَ مِنْ حَوْلِهِ كُلُّ شيء، بل سَكَنَ جِسْمُه واضطرب في نَفْسه وعَقْله وقَلْبه وجَوْفه كُلُّ شيء.

ثم انظر يا سيدي وأَبْعِد النظر قليلًا؛ فسترى رجلًا آخر قد تقدَّمَت به السن بعض الشيء، وأُرسِلَت على صدره لِحْيَتُه إرسالًا، ودارت على رأسه خرقة بيضاء … هو جاثم في مكانه يَهُمُّ أن يقول فلا يستطيع أن يقول، يَهُمُّ أن يَعْمَل فلا يستطيع أن يَعْمل، يَهُمُّ أن يُفَكِّر فلا يستطيع أن يُفَكِّر، وإنما أَخَذَتْ عليه طُرُقَ القول والعمل والتفكير أشباحٌ لا تَنْقَطِع تَمُرُّ أمامه متتابعة، وهو يراها تَخْرُج من مكانها لا يستطيع لها ردًّا، ولا يَمْلِك منها مَهْرَبًا، ولا يَبْلُغ لها إحصاءً، يرى كأن الأرض تَمُرُّ أمامه مرًّا، ولا يَمُرُّ منها جزء إلا انفتح فيه قَبْر، وخرج من هذا القبر شبحٌ أو أشباح، وهو لا يدري ما خطْبُ هذه الأشباح التي تَطِيف به، وتَدُور مِنْ حوله، وتنشقُّ له عنها الأرض، وتنفتحُ له عنها القبور، وهو يكاد يصيح لو استطاع الصياح، ويكاد يسأل لو أطاق السؤال، ولكن هاتفًا يهتف به: أرِحْ نَفْسَكَ من السؤال والصياح؛ فإنما أنت رجل تُحِبُّ القبور وزيارة القبور، وأنت رجل محزون مكدود، لا تستطيع أن تسعى إليها زائرًا ولا عاتبًا ولا متوسِّلًا ولا مُسْتَعْطِفًا، فهي تسعى إليك، وهي تُلِمُّ بك وتَقِفُ عندك، وهي تَقْرَأ ما في نَفْسِك، وتَفْهَم ما في قلبك، وكم تُحِبُّ أن تجيبك إلى ما تبتغي، وتعينك على ما تريد، لولا أن القبور لا تَمْلِك للناس نفعًا ولا ضرًّا، ولا تُغْنِي عنهم من الله شيئًا.

لقد أَلْمَمْتَ بالقبور إلمامًا في إِثْر إلمام، وأَطَلْتَ عند القبور مُقَامًا في إثر مُقَام، فانظر لهذه القبور تُلِمُّ بك، وتقيم عندك. ولقد وقَفْتَ عند القبور فَهَمْهَمْتَ ودَمْدَمْتَ وزمزمْتَ وتمتمْتَ، فاسمع لهذه الأشباح التي تَنْشَقُّ لَكَ عنها القبور، إنها من حولك تُهَمْهِمُ وتُدَمْدِمُ وتُزَمْزِمُ وتُتَمْتِمُ، ولقد ضاعت جهودك عند القبور، وجهود القبور ضائعة عندك، لم تَحْفَظ عليك قُوَّتَك حين كُنْتَ قويًّا، ولم تَرُدَّ عنك ضَعْفك حين أصبحْتَ ضعيفًا، اللَّه وحدَه هو الذي يَحفظ القوة على الأقوياء، ويَرُدُّ الضَّعف عن الضعفاء، ولكنه قد قضى ألَّا يَحْفَظ قوة على قويٍّ، ولا يَرُدَّ ضعفًا عن ضعيف، حتى يُخْلِصَ له قَلْبُه ونِيَّته وقَوْله وعَمَله، فليتك أَخَذْتَ من بعض هذا بحظ، فيُغْنِي عنك الآن حين لا يُغْنِي أحدٌ ولا شيء عَنْك من اللَّه شيئًا. والرجل يرى، والرجل يسمع، والرجل لا يحقِّق ما يرى ولا يَفهم ما يَسْمَع، وإنما هو قَلْب مُضْطرب، وعقْل مُخْتَلِط، ونفْس مُفرَّقة، وخواطر مُشرَّدة، وعِبْرة للمعتبرين، وعِظَة للمتَّعظين.

وأبعِد نظرك يا سيدي قليلًا، فسترى أشباحًا ضئيلة نحيلة شاحبة ذائبة أو كالذائبة تَذْهَب وتجيء، تَقُول وتَعْمَل، تَتَصَرَّف تصرُّف الأحياء؛ وليست من الحياة في شيء، إنما هي حياة كالموت، أو مَوْت قد تَرَدَّدَتْ فيه أنفاس من حياة، وأطِلِ النظر إلى هذه الأشباح الذاهبة الجائية الرائحة الغادية، فستَتَبَيَّن بعد الجهد والعناء أشخاصها، وسَتَعْلَم أنها أشخاص قوم كان إليهم الحول والطول، وكان في أيديهم الحَل والعقد، كانوا وزراء يأمرون ويَنْهَوْن، يَرْفَعون ويَخْفِضون، يَذِلُّون ويَعِزُّون، يَبْسطون الرزق لمن يشاءون، ويَكُفُّون الرزق عمن يشاءون، يَقْضُون بأهوائهم فيما لا ينبغي أن يُقْضَى فيه إلا بأحكام الدستور والقانون، ولكنهم أَلْغَوا الدستور وأَهْدَرُوا القانون، واتخَذوا من أهوائهم وشهواتهم نُظُمًا تقوم مَقام الدستور والقانون.

انظر إليهم يا سيدي أين هُمْ وسَلْهم، أو سَلْ عنهم يا سيدي، ما خَطْبُهم وماذا يصنعون؟ لقد لَفِظَتْهم الأرض ونَبَذَهُم الناس، وانْصَرَف عنهم أَشَدُّ الناس إلحاحًا عليهم وحُبًّا لهم وتَهَالُكًا على تَمَلُّقِهِمْ، تَحَدَّثْ إليهم يا سيدي إن استطعْتَ، فَلَنْ تَسْمَعَ منهم إلا ما يُصَوِّر الضغينة والحقد، والمَوْجِدَة والبُغْض، واليأس والقنوط، والتَّحَرُّق على ما مضى، والتشوُّق إلى ما لا سبيل إليه، وصِلْ إلى ضمائرهم إن استطعْتَ الوصول إليها؛ فلن ترى فيها ندمًا، ولا أملًا، ولا استغفارًا، ولا اعتذارًا، ولا توبة، ولا نزوعًا إلى التوبة، إنما هو الحزن اللاذع على نعيم مضى، وانتهاز الفرصة وتربُّص الدوائر وملاطفة الأحلام، لما قد تتكشف عنه الأيام من نعيم تتقطع دونه الأعناق، وتتمزَّق دونه القلوب.

وأَلْقِ نظرة واسعة عريضة يا سيدي إلى هذه الأشخاص الذابلة الناحلة التي تَدُبُّ على الأرض دبيب النمل، لم يُدْرِكْها الموت المُهلِك، ولم يَبْلُغْها اليأس المريح، وإنما هي عاملة جادَّة، تملَّقَتْ أولئك حتى ذَهَبَ عنهم السلطان، وهي تَنْتَهِز الفرصة لتَتَمَلَّق هؤلاء ما أَقْبَل عليهم السلطان، تريد أن تملأ بطونًا لا تمتلئ، وأن تُفْعِم جيوبًا لا تُفْعَم، وأن تصيب مِن لَذَّات الحياة ما تَبِيع في سبيله القلوب والعقول، والشرف والكرامة، والضمائر والأخلاق. انْظُر، إنهم كثيرون، كانوا شياطين مردة، فأصبحوا اليوم ملائكة أطهارًا، ينتظرون أن تُتِيح لهم الظروف خَلْع أجنحة الملائكة والدخول في أثواب الشياطين. انْظُر واسْمَع، ولكني أراك محزونًا أسِفًا كئيبًا، قد ضاقَتْ نَفْسُكَ بما ترى وما تَسْمَعُ، وقد صَغُر في نَفْسك كثير من المعاني والخِصال التي لم تَكُنْ تُحِب أن تراها صغيرة ولا حقيرة ولا متضائلة. قد ثقُل عليك الجد فلا بأس عليك، أرِحْ نَفْسَكَ من الجد وتَحَوَّلْ إلى شِمالٍ فانظر واسْمَع، وحدِّثْني عما ترى وما تَسْمَعُ.

وانظر غَيْرَ بَعِيد إلى التقاليد؛ فسترى مَنْظرًا عجيبًا، وستَسْمَع أغاني أَقَلَّ ما تُوصَف به أنها مُضْطَرِبة مُضْحِكة مُسَلِّية لذيذة، أشد إثارة لِلَّذة وإبهاجًا للنفس من أغنية السواقي السبع التي يَتَغَنَّى بها الشباب في بعض الأحياء الوطنية، ومَنْ يَتَغَنَّى السواقي السبع ويُرَدِّد أنغامها الحلوة وألحانها الشجية إذا لم تَتَغَنَّ بها التقاليد، وما أدراك ما التقاليد! انظر إليها فلن يَثُوبَ نَظَرُك إليكَ، ولن يَنْقَضِيَ عَجَبُك مما ترى.

هذا رجل ضَخْم فَخْم، طويل عريض، غليظ الوجه، واسع الشدقين، عظيم الأنف، عذب الصوت، حلو الغناء، يا له من صوت، ويا له من غناء، استمِع إنْ كُنْتَ تُحِبُّ الطرب، واعْجَبْ إن كُنْتَ تريد العجب، ألا ترى إلى هذه الأشياء الكثيرة المُنْتَشِرة المُخْتَلِفة المُتَنَوِّعة التي تَضْطَرِب مِنْ حَوْله، بعضها يَرْقُص وبعضها يَدُور، بعضها يَقْفِز في الجو، وبعضها يَثِبُ في الهواء؟!

تَبَيَّنْ هذه الأشياءَ إن استطعْتَ أن تَتَبَيَّنَهَا، وأحِطْ بها إن أُتِيحَ لك أن تُحيط بها، إنَّ فيها الحي والميت، إنَّ فيها الصائح والصامت، إنَّ فيها الغالي والرخيص، إنَّ فيها المبتذَل والنفيس. هذا ديكٌ يَصْدح، وهذه دجاجة تَصِيح، وهذا أرنب يعدو، وهذه أداة تدور، وهذه حقيبة تمتلئ، ثم تُفْرَغ، ثم تمتلئ، ثم تُفْرَغ. وهذا مصباح قد عُلِّق وهو يضطرب اضطرابًا، ويدور حول نفسه دورانًا، وهذا بِساط قد نُشِر في الجو يَنتظر مَنْ يَجلس عليه؛ ليطير به إلى حيث يريد اللَّه، وهذا نردٌ يدعو اللاعبين، وهذا شَجَر قد اكتسى مِنْ أخضر الورق، وآتى من جميل الزهر وطَيِّب الثمر، وهذا مَطَر ينهمر انهمارًا، وتَصُبُّه السماء صبًّا، ولكن احْذَرْ أَنْ تدنو منه؛ فإني أخشى على رأسك أَنْ يُشَجَّ، وعلى أَنْفِك أَنْ يُجْدَع، وعلى وَجْهِك أَنْ يُصِيبَه أذًى، وعلى ذراعك أَنْ تَتَحَطَّم، وعلى ساقك أَنْ تَنْدَقَّ.

إنَّ السماء يا سيدي لا تُمْطِر ماءً ولا عسلًا ولا خلًّا ولا زيتًا، ولكنها تُمْطِر عُلَبًا مختلفة الأحجام، متبايِنة الأشكال، قد اختلَفَتْ فيما بينها، وتَنَوَّعَتْ محتوياتها، ففي هذه «مُرَبَّى» البرتقال، وفي هذه «مُرَبَّى» السفرجل، وفي هذه «مُرَبَّى» المشمش، وفي هذه لوْن من ألوان الحلوى، وفي هذه فن من فنون الفاكهة. واحذر هذه القطرات الغريبة، التي لا تكاد تَبْلُغ الأرض حتى تنْحَطِم عليها انحطامًا، ويخرج منها شراب مختلفٌ ألوانه، فيه رَيٌّ للظمأ، وفيه تملُّق للفم، وفيه حلاوة وعذوبة، وقد يؤذي بعض الحلوق أحيانًا، إنها زجاجات الشراب يا سيدي، عصير العنب، وعصير البرتقال، وعصير الليمون.

وانظر إلى هذه الأقراص التي تدور لا تريد أن تَقِفَ، ولا تُحِبُّ أن تَسْقُط؛ وإنما هي تدور في مكانها، وتَبْعَث مِنْ حَوْلِها روائح غريبة لا تُحِبُّها الأنوف جميعًا، ولكن من النفوس ما تَطِير من حبها شَعاعًا. تبيَّنْ هذه الأقراص يا سيدي؛ أَلَمْ تعْرِفْها بعد؟ أَلَمْ يهْدِكَ إليها عبيرها هذا المُنْكَر الغريب كما هدى عُمَرَ بن أبي ربيعة إلى صاحِبَتِه عَبِيرُها ذاك، الذي كان يَصْدُر عن خيمتها فيملأ الجو عَرْفًا وطِيبًا؟ انْظُر إلى هذه الأقراص؛ إنها أقراص الجُبن يا سيدي، وأيُّ جُبن! ما شِئْتَ من ألوان الجُبن، جُبْن أجنبيٌّ وجُبْن مصريٌّ، جبْن رقيق وجبْن غليظ، جبْن خشِن وجبْن ناعم، جبْن جافٌّ كأنه الحَجَر، وجبْن رطْب يسيل لعابه ويتَحَلَّب منه المِشُّ، وتجري فيه فنون من دقيق الحيوان.

وانظر إلى هذه الآنية التي تدنو وتنأى وتقرُب وتبعُد، وتصَّعَّد في الجو، وتهْوِي نحو الأرض، داعية إلى نفسها مُدِلَّة بما فيها، أتعْرِفها؟ أتعْرِف ما تحتوي من الألوان؟ إنها القشدة؛ القشدة التي يبيع فيها بعْض العُمَد نفوسَهم بَيْعًا. انظر يا سيدي إلى ما سَمَّيْتُ وما لم أُسمِّ، وإلى ما وَصَفْتُ وما لم أَصِف، انظر إلى الأشياء والأحياء كيف تَضْطَرِب وتدور، وتأتي هذه الحركات العجيبة الغريبة، على صوتِ هذا المعنى البارع الرقيق الرشيق، الخفيف الظريف، الوسيم القسيم، الذي يتَغَنَّى التقاليد، وجمال التقاليد، وقُدْس التقاليد، وما يَجِب للتقاليد من حماية، وما يَجِب للأخلاق من رعاية، وما يجب للضمائر من صفاء، وما يجب للأيدي من نقاء، وما يجب للمَناصب من كرامة، وما يجب لأصحاب المَناصب من ارتفاع عن الصغائر، وتنزُّه عن الدنيَّات.

انظر يا سيدي إلى يَمِينٍ، فخُذْ بحظك من الحُزن، وانظر إلى شِمَالٍ فخُذْ بحظك من السرور، فلا خير في الحياة إذا لم تكن حزنًا وسرورًا، ولذةً وألمًا، وجدًّا ولهوًا. انظر عن يَمِينٍ وانظر عن شِمَالٍ، ثم انظر أمامَك إلى هذا البلد الحزين التَعِس، الذي يعدو على حُقُوقِهِ أصحابُ الجد، ويلهو بمنافعه أصحابُ اللهو، وهو يَحْتَمل عدوان أولئك، ويَحْتَمل لهْو هؤلاء، محزونًا حينًا، مسرورًا حينًا آخَرَ، ساخِرًا من أولئك وهؤلاء دائمًا؛ لأنه قد بلا من الدهر خَيْرَه وشَرَّه، وذاق من الأيام حُلْوَهَا ومُرَّهَا، ووَثِقَ بأن عَدْل الله قريب، وبأن الحق مُنْتَصِر مهما يَتَّصِل سلطان الباطل، وبأن صَرْح الجور مُنْدَكٌّ مهما يُشيَّد بأضخم الأحجار وأصلب الصخور.

ولكن دَعْنا من فلسفة الأخلاق؛ فما تَتَّسِع الحياة لفلسفة الأخلاق، وحدِّثْني عن هذه الأشياء التي تَضْطَرِب، وهذه الأحياء التي تَتَطاير وتَتَصايح، ما خَطْبُها؟ مِنْ أين أَقْبَلَتْ؟ وإلى أين تريد؟ أو أين ومتى تُحِبُّ أن تستقر؟ زَعَمَتْ وزارة المعارف أنها أَقْبَلَتْ مِنْ مدارس وزارة المعارف المنبثة في أرجاء مصر قاصدة إلى بيت وزير مِنْ وزراء المعارف، في حيٍّ من أحياء القاهرة، أو في قرية من قُرى الريف. لا تَهُزَّ رأسك، ولا تَرْفَعْ كتفيك، فما في هذا الحديث مِنْ شَكٍّ، وما في هذا الحديث مِنْ رَيْب، إنهما تقريران نُشِرَ أَوَّلُهُمَا صباحَ الأحد، ونُشِر ثانيهما صباحَ الثلاثاء، وزَعَمَ ناشِرُهما أنه أَخَذَهُما من وزارة المعارف، ولم تُنكِر عليه الوزارة ما زَعَمَ، ثم لم يُنكِر وزير المعارف ذاك ما نُسِب إليه في أَوَّلِ هَذَيْن التقريرين، وسنرى أيُنكِر ما نُسِب إليه في ثاني هَذَيْن التقريرين.

خَرَجَتْ إِذَنْ هذه الأشياء، وخَرَجَتْ إذَنْ هذه الأحياء من مدارس الصناعة والزراعة إلى بَيْتَيْ وزير التقاليد. فليت شِعْري! أَسَارَ إليه منها ما سار، وطار إليه منها ما طار، حُبًّا له وهُيَامًا به، وشوقًا إليه؟! أم سار السائر وطار الطائر؛ استجابة لدعاءٍ وتحقيقًا لرجاء، وشفاءً لبعض ما في الصدور؟! … خَرَجَتْ إِذَنْ هذه الأشياء وهذه الأحياء من مدارس الصناعة والزراعة إلى بَيْتَيْ وزير التقاليد، فليتَ شِعْري! أَؤُدِّيَتْ أَثْمَانُها كما ينبغي أن تُؤَدَّى الأثمان؟ أم أُدِّيَتْ لها أَثْمَان لا تَعْدِل قِيمَتَهَا، ولا تُلائم ما حَمَلَتْ إلى الوزير من لذة وبهجة وراحة ومتاع؟! … أما وزارة المعارف فتُنبئنا بأنَّ هذه الأشياء قد بِيعَت من الوزير بثَمَنٍ بَخْس، وبأن للدولة عند الوزير مائة وبعض المائة من الجنيهات، وليت شعري! ما حُكْم الله في هذه المائة وبعض المائة من الجنيهات؟ أتبقى عند وزير التقاليد؟ أم تؤدَّى إلى وزير المعارف ليؤدِّيها إلى وزير المال؟ وليت شعري! أأُنشئَتْ مدارس الزراعة والصناعة لتُصْلِح بيت الوزير وما تملَّك من أدوات الزرع؟ ولتذيق الوزير والذين يدْعُوهم إلى مائدته ما في الحياة من لذة وبهجة ونعيم؟! أم أُنشئَتْ مدارس الصناعة والزراعة لتُعلِّم المصريين كيف يصنعون ويزرعون، وكيف يتخذون الصناعة والزراعة وسيلة إلى ترقية الحضارة واكتساب العيش والتماس الحياة؟!

وليت شعري! ماذا يقول لضمائرهم هؤلاء الناس الذين طَعِموا على مائدة الوزير من ألوان الجبن والقشطة، وشربوا عند الوزير ألوان الشراب، واستمْتَعوا على مائدة الوزير بلَحْم تلك الطير التي أُهْدِيَتْ إليه إهداءً أو أُخِذَتْ له أَخْذًا، والتي أَدَّى أثمانها الصورية إلى الدولة هذا البيطار أو هؤلاء التلاميذ؟!

وليت شعري ماذا يقول الوزير لضميره وماذا يقول للوزير ضمير الوزير؟ وليت شعري! أيَسْمع الوزير إذا جَلَسَ في مكتبه وحيدًا أو مع أصحابه، أحاديثَ هذا المتاع الذي انبثَّ في الحجرة، وهذه الإطارات التي عُلِّقَتْ على الجدران؟ أيَفْهم هذه الأحاديث؟ أتثير في نفسه ألمًا؟ أَتَبْعَثُ في قلبه ندَمًا؟ أتُسبغ على وجهه الحُمرة التي تُسْبِغُها المُخجِلات على وجوه الذين يَخْجَلُون؟ وليت شعري! ما حُكْم وزير المعارف القائم في هذا العبث بالمدارس والاستغلال للتعليم والإفساد لعقول الطلاب، وعقول المعلمين، وأخلاق الموظفين؟ وليت شعري! ما حُكْم وزير المال في هذا العبث المُخزي بأموال الدولة؟ وليت شعري! ما حكم رئيس الوزراء ومجلس الوزراء في هذا الخزي المُنكَر وهذا الفساد العظيم؟ أليس من سبيل إلى أن يُسأل المُسيء عما أساء؟ ويُؤْخَذ المُذْنِبُ بما أَذْنَبَ؟ ويُعَاقَب الآثم على ما قَدَّمَتْ يداه؟ أقُضيَ على هذا البلد أن تُقتَرَف فيه الآثام سرًّا وجَهْرًا وتُجْتَرَح فيه السيئات خُفْيَة وعَلَنًا، وتُهْدَر فيه القوانين، وتُنْتَهَك فيه الحرمات، ثم لا يُسأل آثم عن إثم، ولا يُؤخذ مُجْرِم بجريمة، وإنما يَسْتَمْتِع المُسيء بمثل ما يَسْتَمْتِع به البريء؟

نعم، ليت شعري، وليت شعري، وأنا أستطيع، وأنت تستطيع أن تُرَدِّدَ معي هذا السؤال ألْفَ مَرَّة ومرة دون أن تَنْتَهِي إلى جواب؛ فمُنْذ عام ونصف عام تَظْهَر الفضيحةُ إثْر الفضيحة، وتُعلَن المُخزية إِثْر المُخزية، والمصريون يَنْظُرون ويسمعون ويألمون ويَشْكُون، ثم تنتهي أمورهم عند هذا. كلا، كلا، لن تستقيم للمصريين أخلاق إلا إذا عُوقِب المسيء على إساءته، ولن تَصْلُح للمصريين حياة إلا إذا سُئِل المُجْرم عن جريمته، ولن تكون لمصر سمعة تلائم ما تُؤْمن به لنفسها من كرامة، إلا إذا عَرَفَ الأجانب واستيقَنوا أن مدارس الصناعة والزراعة لم تُنْشَأ لإصلاح بيوت الوزراء وإرضاء حاجاتهم إلى الدجاج والأرانب وألوان الفاكهة والحلوى.

نعم، لن تَسْتَقِيم لمصر أمورُها حتى تَنْهَى التقاليدُ وزيرَ التقاليد وأمثالَه عن استغلال المدارس لِما لَمْ تُنْشَأ له المدارس، واستغلال السلطان لما لم يُنْشَأ له السلطان.

أما بعد، فقد كُنْتُ أظن يا سيدي أنك ستَحْزَن إن نَظَرْتَ إلى يمينٍ فرأيت الطغاة وقد انهزموا بعد انتصار، وذُلُّوا بعد عز، وأنك سَتَضْحَك إن نَظَرْتَ إلى شِمالٍ فرأيت التقاليد تَلْعَب حَوْل وزير التقاليد، ولكني رأيْتُكَ محزونًا في الحالين، يضْحَكُ وجْهُكَ وتبكي نفْسُك، فلا تَلُمْنِي في هذا، ولكن لُمْ حياتنا المصرية، واذْكُرْ أنَّ أبا الطيب قد تنبَّأ لك ولي ولأمثالنا منذ ألف سنة بهذه الحال:

وكَمْ ذا بِمِصْرَ مِن المُضْحِكَاتِ
ولكنه ضَحِكٌ كَالْبُكَا
إبريل ١٩٣٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤