دَيْن

لا خَيْلَ عِنْدَك تُهْدِيها ولا مَالُ
فليُسْعد النطق إنْ لَمْ تُسعد الحالُ

كذلك قال أبو الطيب حين أَهْدَى إليه فاتكٌ ما أهدى إليه من المعروف، فَلَمْ يُكافِئْه إلا بالحمد والثناء.

وكذلك هَمَمْتُ أن أقول حين أهدى إليَّ لبنان ما أهدى من المعروف، ولكن لم أَلْبَثْ أن تبيَّنت أن بَيْن أبي الطيب وبيني فَرْق ما بين الشاعر والكاتب، أحدهما يقول فتحفظ الكتب وتروي الأيام. والآخر يُملي فيقرأ الناس ثم يَنْسَوْن، وتُسْمع الأيام ثم تنسى، ويَظَلُّ ما أملى دفينًا في الصحف والأسفار كأن أحدًا لم يُمْلِهِ، وكأن أحدًا لم يَقْرَأه، وكأن أحدًا لم يَلْتَفِت إليه. ومع ذلك فالمعروف الذي أهداه إليَّ لبنان أبقى بقاءً، وأعظم نماءً، وأَبْعَد أثرًا، وأَرْفَع ذِكرًا من ذلك الذي أهداه فاتك إلى أبي الطيب.

فقد أهدى فاتك إلى أبي الطيب دنانير سَرَّتْه حين تلقاها، ثم اخْتَلَطَتْ بما كان عنده من مال، وذَهَبَتْ فيما ذَهَبَ من ماله أثناء حياته أو بعد وفاته. وأهدى إليَّ لبنان معروفًا يَتَّصِل بالعقل والقلب جميعًا، ضَنَّ به عليَّ قَوْم هم أقرب إليَّ قرابة من لبنان، وهم أَكْثَر منه حصى، وأوسع منه يدًا، وأَبْعَد منه قدرة، وأطول منه باعًا، حتى تَمَثَّلْتُ — حين انصرف عني مستشار المفوَّضية اللبنانية بَعْد أن دعاني باسْم حكومته إلى بيروت لأُلقي فيها محاضرة أثناء شهر «الأونسكو» — قَوْل الحطيئة:

سِيري أمامة إن الأكرمين أبًا
والأكثرين حصًى من آلِ شمَّاسِ

نعم، لم تُرِد الحكومة المصرية أو لم يَخْطِر لها أني أستطيع أن أُمثِّلها بَيْن مَنْ مَثَّلَها في مؤتمر الأونسكو، وهي تَعْلَم حَقَّ العلم أن بين الأونسكو وبيني صلات مُتصلة وأواصر متينة، وأني كنْتُ من خبرائها مرتين في أَقَلَّ من نِصْف عام، وأني مَثَّلْتُ مصر في مجلس التعاون الفكري الذي كان يقوم مَقام الأونسكو قبل الحرب العالمية الثانية، أنشأَتْهُ عصبة الأمم القديمة، كما أنشأَت الأونسكو عصبة الأمم الحديثة.

فكنتُ خليقًا أن أَشْهَد باسْم مصر مؤتمر الأونسكو في بيروت، ولكن الحكومة المصرية أبَتْ إلا أن تُصَانِع السياسة في أمرٍ لا ينبغي أن تُصَانِع فيه السياسة. وأُصْبحُ ذاتَ يوم، فإذا مستشار المفوَّضية اللبنانية في مصر يَطْلُب إليَّ موعدًا، فإذا تفضَّل بزيارتي أبْلَغَنِي أن حكومته تدعوني إلى بيروت؛ لِأُحَاضِر أثناء شهر الأونسكو في: «أثر الحضارة العربية في الحضارة الأوروبية».

فأقْبَلُ الدعوة شاكرًا بعد قليل من التردد في أعماق الضمير، فقد كُنْتُ أَوَدُّ لو زُرْتُ مؤتمر الأونسكو وحاضَرْتُ فيه مُوفَدًا من الوطن العزيز، ولكن الوطن العزيز لم يُرِدْ، أو لم يَستَطِع، أو لم يَخْطِر له الأمر على بَالٍ.

فأسافر إلى بيروت، ولا أكاد أصعد إلى السفينة حتى أرى قنصل لبنان في الإسكندرية يُبلغني تحية الوزير وأمانيه، فأتمثَّل بيت الحطيئة الذي رَوَيْتُه آنفًا.

ولا تكاد السفينة تَصِلُ إلى بيروت، حتى أرى مندوبًا من وزارة الخارجية اللبنانية أَقْبَلَ يَتَلَقَّاني باسْم الوزير، ويُهْدِي إليَّ تحِيَّته، فأهبط من السفينة، وأنا أَتَمَثَّل بيت الحطيئة الذي رَوَيْتُه آنفًا.

وهذه السيارة تُقِلُّني وتقل مَنْ معي إلى أفخم فنادق بيروت، فننزل فيه أَحْسَن مَنْزِل وأَكْرَمه، ونَلْقَى فيه خَيْر ما يَلْقَى الضيف مِنْ مُضيفه من قِرًى لا يُرْضِي الحياة المادية وَحْدَها، وإنما يُرْضِي حياة العقل والقلب والذوق والشعور.

ثم لا أكاد أَسْتَقِر في الفندق حتى تَتَّصِل الزيارات، كلها كريمة وكلها حفيَّة، وإذا أنا أجد نفسي في بيئة أَخَصُّ ما تُوصف به أنها تَعْرِف كيف تبذل الحب، وكيف تُهْدِي العطف، وكيف تُكْرِم الضيف، وكيف تأسو القلب المكلوم.

كرامة أُصبحُ بها قَبْل أن يرتفع الضحى، وكرامة أُمسي بها قبل أن يُقْبِل الليل، وتلطُّفٌ أُغْمَرُ به بين ذلك.

ويأتي موعد المحاضرة الموعودة، فَسَلْ ما شِئْت عن رِفْق الحكومة وظُرْفِها ورِقَّتِها، وعن كريم عنايتها وحُسْن رعايتها، وسَلْ ما شِئْتَ عن تهافُتِ الناس على البطاقات واستباقهم إلى الأماكن، وازدحامهم في القاعة ومِنْ حَوْلِها، حتى أمسى المستمعون لا يُحْصَوْن بالمئات، وإنما يُحْصَوْن بالألوف. ليس في ذلك تكَثُّر ولا تمدُّح ولا غُلُو، وإنما هو الحق الواقع الذي نَطَقَتْ به الألسنة كلها، والصحف كلها، فتَصَوَّر عطفًا يَصْدُر عن هذه الجموع، وتحية تَصْدُر عن هذه القلوب، وتصور جوًّا عِشْتُ فيه اثنَي عشر يومًا لَمْ أجد فيه إلا مودةً ومحبةً وتلطُّفًا وإيناسًا.

والقارئ يعرف أني لم أتحدَّثْ قط عن نفسي بهذه اللهجة التي أَتَحَدَّثُ بها اليوم، وأني لم أَعْرِف قط أني أستحق أن أَشْغَل نفسي أو أَشْغَل الناس بنفسي على هذا النحو، ولكني مع ذلك أتبسَّطُ في هذا الحديث كما ترى، لا أتحفَّظ ولا أتحرَّج؛ لأني أُحِبُّ أن تَعْرِف مصر كيف تلقَّى لبنان رجلًا من أبنائِها، وكيف أَكْرَمه، وكيف أَنْزَله أَحْسَن مَنْزل، وتقبَّله أَجْمَل قبول. فليس غريبًا أن ينوء بي هذا المعروف، وأن يُعْجِزَني حَمْل هذا الجميل، وأَنْ أَعْرِض ما أعرض مِنْ أَمْرِه على المواطنين ليحملوا معي هذا العبء، وليعرفوا معي للبنان هذا الجميل.

فلبنان لم يُكرمني لنفسي فحسب؛ وإنما أكرمني؛ لأني مصري، فتحيته موجَّهة إلى مصر، وجميله مطوِّق لعنق مصر، فمِنْ حَقِّ مصر أن تَعْرِف هذا الجميل، وتُقدِّر هذه العارفة، وتُعين ابنًا من أبنائها على احتمال هذا الدَّيْن الذي لا سَبِيل إلى أدائه.

ولا أَفْرَغ من المحاضَرة الفرنسية التي تحدَّثتُ فيها إلى اللبنانيين وضَيْفِهم من الأجانب، حتى تُطْلَبَ إليَّ محاضَرة عربية أَتَحَدَّث فيها إلى اللبنانيين وضَيْفهم من العرب، وإذا حفاوة بهذه المحاضرة العربية تُشْبِه الحفاوة بتلك المحاضرة الفرنسية … وأريد أن أَعُود إلى مصر، فلا أَبْلُغ ما أريد إلا بعد الجهد كل الجهد، والمشقة كل المشقة، ويأبى وزير الخارجية والتربية الوطنية إلا أن يختصَّني بمأدُبة يفيض عليَّ فيها مِن كَرَمِه وودِّه ما عَجَزْتُ بأدق معاني كَلِمَة العَجْز عن شُكْرِه، ثم أغدو إلى الطائرة؛ فإذا مندوبه في المطار يُودِّعني ومعه هذه الزهرات التي لا تزال تبتسم في داري إلى الآن، قد صَحِبْنا أرجها في الطائرة، وما زال هذا الأرج يَنْشُر من حولي مودة وحُبًّا وإيناسًا، ويُردِّد في الدار قول الشاعر العربي القديم:

ونُكْرِم ضيفنا ما حلَّ فينا
ونُتْبِعه الكرامة حيث كانا

فهل يُنكر القارئ المصري الذي وَرِثَ عن قديمه حُسْن الشكر وحُسْن الاعتراف بالجميل؟ …

هل يُنكر القارئ المصري عليَّ أن أتمثَّل بشعر الحطيئة مرة أخرى حيث يقول:

وإن التي نكَّبْتها عن معاشر
غضاب عليَّ إن صَدَدْتُ كما صدُّوا
أَتَتْ آل شَمَّاس بْن لَأْيٍ وإنَّما
أتاهم بها الأحلام والحسب العدُّ
فإن الشَّقِيَّ مَنْ تُعَادِي صُدُورهُمْ
وذو الجدِّ مَنْ لانوا إليه ومَنْ ودُّوا
يسوسون أحلامًا بعيدًا أناتُها
وإن غضبوا جاء الحفيظةُ والجِدُّ
أقِلوا عليهم لا أبًا لِأَبِيكُمُ
من اللوم أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا
أولئك قَوْم إن بَنَوْا أحسنوا البِنَى
وإن عاهدوا أَوْفَوْا وإن عَقَدُوا شدُّوا
وإن كانت النُّعْمَى عليهم جَزَوْا بها
وإن أَنْعَمُوا لا كدَّرُوها ولا كدُّوا
وإن قال مولاهم على جُلِّ حادث
من الدهر رُدُّوا بعض أحلامكم رَدُّوا
وقد لامني أفناء سعْد عليهِمُ
وما قُلْتُ إلا بالذي عَلِمَتْ سَعْدُ

أما بعد، فإني أَفْزَع إلى المصريين؛ لأشهد على أن أخاهم قد لَقِيَ مِنْ كرم لبنان وعَطْفه ما يَعْجز عن أداء حَقِّه، ويستعينهم على أداء هذا الحق، وما أرى إلا أنهم سيفعلون.

وأما بعد، فإن مِنْ حقي أن أشكو وزير المعارف المصري إلى نفسه، وإلى رئيسه، وإلى وطنه؛ فقد كنتُ أُحِبُّ أن تكون الثقافة بمنأًى عن السياسة، وأن يَذْكُر وُزراؤنا دائمًا قول من قال:

إذا أنت تابَعْتَ الهوى قادك الهوى
إلى بَعْض ما فيه عليك مَقَال
١٩٤٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤