خوف

لست أدري أين قَرَأْتُ — بل لعلي أعلم أني قَرَأْتُ في فصلٍ طويل أراد به صاحبه تعريف مصر إلى أعضاء المؤتمر البرلماني الدولي الذين يزورون مصر في هذه الأيام — أن المصريِّين ديمقراطيون بالطبع، وأنهم أحرار بالطبع كذلك، لا يستطيعون أن يعيشوا إلا مستمتعين بالحرية الكريمة تحت ظلٍّ ممدود من الديمقراطية السمحة! وقد يكون هذا حقًّا، ولكن هناك حقًّا آخر لعله يكون أشد منه ثبوتًا ووضوحًا؛ وهو أن الإنسان يُفسِد كثيرًا من جمال الطبيعة، ويُغيِّر كثيرًا من حقائق الأشياء، تَدْفَعُه إلى ذلك مَصَالِحُه العاجلة أحيانًا، ويدفعه إليه خطؤه في الحكم والتقدير أحيانًا أخرى … وأكبَر الظن أن الإنسان قد حاوَل وما زال يحاول أن يُفسِد الطبيعة المصرية ويُغيِّر بعض الحقائق المصرية، فقد يكون المصري ديمقراطيًّا بطبعه، ولكن قد يوجد من المصريِّين أو من غير المصريِّين من يَحُدُّ من هذه الديمقراطية حدًّا شديدًا، أو يُحوِّلها إلى ما يُناقِض الديمقراطية من الخِصال والأخلاق. وقد يكون المصري مطبوعًا على الحرية، ولكن قد يوجد من المصريِّين أو من غير المصريِّين من يُفسِد هذا الطبع ويُحوِّله إلى لونٍ من الخنوع والخضوع ليس من الحرية في شيء.

وما أريد أن أمضي مع هذا التفكير إلى غايته فأبحث وأستقصِي، وأنشر على القراء فصلًا من هذه الفلسفة التي تُصوِّر أَثَرَ الإنسان المُتحضِّر في إفساد الطبيعة الخَيِّرَة للناس؛ فهذا بحث قديم كثُر فيه القول، واشتدَّ حوله الجدال. وإنما أريد أن أقِف عند جماعة محدودة من المصريِّين يُمكن أن يُحصيهم العد، وإنْ أَلِفَت القراء إلى طبيعتهم الديمقراطية الحرة وإلى ما تَصُبُّ عليهم الظروف والأحداث من الفساد المُتَّصِل الذي يُحَوِّلها عن أصلها الجميل السمْح إلى شيء آخر بعيد كل البعد عن السماحة والجمال، وهذه الجماعة هي جماعة الموظفين. وما أريد أن أسُوء الموظفين ولا أن أشُق عليهم ولا أن أؤذيهم في ذات أنفسهم، فأنا أُقَرِّر أنهم كغيرهم من المصريِّين: ديمقراطيون بالطبع، أحرار بالطبع، قد فُطِروا على ما شاء الله من كَرَمِ الأخلاق ورقة الشمائل وسماحة القلوب والنفوس، وإنما أريد أن أعتذر لهم أو أن أعتذر عنهم، أو قُل أني أريد أن أرْثِي لهم وأَرْفِق بهم، وأطلب إلى أصحاب السلطان مهما تكُن أحزابهم أن يشملوهم بشيء من العطف والرفق والعناية، حتى لا تفسَد طبيعتهم الديمقراطية، وحتى لا تتعرَّض فطرتهم الحرة إلى بعض ما تتعرض له من الشر الذي لا يؤذيهم وَحْدَهم؛ وإنما يؤذي معهم الناس جميعًا، ويُصبح شيئًا بغيضًا يُشْبِه الأمراض المُعدية التي تَتَجَاوز المرضى إلى الأصحَّاء!

هؤلاء الموظفون مُعرَّضون دائمًا لسخط أصحاب السلطان إذا تورطوا فيما لا يحبون، وأصحاب السلطان من الوزراء والرؤساء ناس كغيرهم من الناس، يُخطِئون ويُصيبون، ويُسرفون ويقصدون، ويجورون ويعدلون، والأصل أن لهم على الموظفين الذين يعملون معهم حقًّا؛ هو إنفاذ أَمْرهم في حدود النُظُم والقانون، فليس الموظف مِلْكًا لرئيسه يجب أن يتصرف وِفق هواه. وليس الموظف خادمًا لرئيسه ينبغي أن يجيبه إلى كل ما يريد. وليس الموظف موظَّفًا عند وزيره أو رئيسه، وإنما هو موظف عند الدولة التي لا تمثل الحكومة وحدها؛ وإنما تمثل الحكومة والشعب جميعًا … وإذن، فليس على الموظف أن يميل مع أهواء الوزراء والرُؤساء، ولا أن يُطِيعهم فيما يُخالِف النظم والقوانين، ولا أن يُحِبَّ ما يُحِبُّون ومن يحبون، أو يكره ما يكرهون ومن يكرهون. وإنما الموظف إنسان حُرٌّ حظه من الحرية كحظ الوزير والرئيس، لا يزيد عليه إصبعًا ولا ينقُصُ عنه أُنمُلَة.

والوزير والرئيس موظَّفان آخِرَ الأمر كغيرهما من المرءوسين؛ كلهم خادم مأجور للدولة، وقد أراد النظام — لأن المصلحة العامة أرادت — أن يكون بعض هؤلاء الموظفين رؤساء يديرون ويأمرون، وأن يكون بعضهم مرءوسين يُنفِّذون ويطيعون … يجري هذا كله طبقًا لعقد مقرر نظَّمه الدستور ونظَّمته القوانين بينهم وبين الدولة، لا بينهم وبين هذا الفرد أو ذاك، ولا بينهم وبين هذا الحزب أو ذاك، ولا بينهم وبين هذه الوزارة أو تلك.

هذه كلها أوَّلِيَّات يتعلمها الصِبية في دروس التربية الوطنية، ويتعلمها الشباب فيما يسمعون من أساتذتهم في المدارس الثانوية ومعاهد التعليم العالي.

ولكن العلم الذي يُلقَى في الدروس شيء؛ والعمل الذي تجرِي عليه الحياة اليومية شيءٌ آخر في مصر … كما أن الحقوق والواجبات التي تُقررها النظم والقوانين المكتوبة شيء، والحياة العملية اليومية شيء آخر في مصر … وإني لأذكر يومًا من الأيام أُشيع فيه أن في مصر أزمة وزارية حادة، وأن الوزارة توشك أن تُقال أو تستقيل، وأن حزبًا آخر سينهض بأعباء الحكم بعد إقالة الوزارة أو استقالتها.

شاع هذا في الصباح مع الصحف التي تَلْقَى الناس حين يخرجون من دُورِهم، أو تَقْتَحِم عليهم هذه الدُّور قبل أن يخرجوا منها. وأقبل الموظفون على مكاتبهم في وزارة من الوزارات لا يتحدثون إلا في هذه الإشاعة، يَذْكُرون الوزارة المضطربة مُنْكِرين لها، ساخطين عليها، ويذكرون الوزارة المُنتَظَرة مُكْبِرين لها راضين عنها كل الرضى، تجري بهذا كُلِّه ألْسِنَتُهم وتنطق به وجوههم، فأما قلوبهم وضمائرهم فعِلْمُها عند الله الذي يعلم خائنة الأعيُن وما تُخفِي الصدور! ثم ارتفع الضُحى، وكانت هناك غرفة لا يخفُّ حولها ازدحام الزائرين والقاصدين والموظفين لحظةً من نهار، وأخرى تقع منها غير بعيد لا يزورها الناس إلا لمامًا، فلما ارتفع الضحى من ذلك اليوم فرَغَت الغرفة الأولى وفَرَغَ ما حولها من الفضاء فلم يطرُقها طارق، ولم يُلِمَّ بها أحد، واستراح التليفون فيها وأراح، وتحوَّل التيار العنيف من الزائرين والقاصدين والموظفين إلى الغرفة المجاورة.

وضَحِكَ صاحب الغرفة الأولى فيما بينه وبين نفسه رثاءً لهؤلاء الناس، وضَحِكَ صاحب الغرفة الثانية فيما بينه وبين نفسه سُخريةً من هؤلاء الناس. ثم أقبل المساء وحَمَلَت الصحف إلى الناس أن الوزارة باقية في مناصبها، وأن الأزمة قد حُلَّت أو أُرجِئَتْ، فلما كان الغد عاد التيار إلى مجراه الأول؛ فازدحم الفضاء حول الغرفة الأولى، وخلا حول الغرفة الثانية خُلُوًّا مخيفًا. وضَحِكَ صاحب الغرفة الأولى فيما بينه وبين نفسه ساخرًا من هؤلاء الناس، وضَحِكَ صاحب الغرفة الثانية فيما بينه وبين نفسه راثيًا لهؤلاء الناس!

وكل وزارة صائرة إلى الأزمة مهما تُعْمَّر، وكل حزب سياسي ذي خطر ناهض بأعباء الحكم ذات يوم مهما يبعد عن الحكم. فإذا خَضَعَ الموظفون لهذا الخوف وأصبحوا كالقِربة التي تُمخض بغير انقطاع، وتُهزُّ هزًّا عنيفًا مُتصلًا في غير راحة ولا أناة ولا سكون؛ فأَخْلِقْ بهم أن ينصرفوا إلى غير أعمالهم، وأن يُشْغَلُوا بغير ما يُؤْجَرون عليه من العمل، وأن يُعْنَوا بغير ما تفرِض عليهم النُظُم والقوانين أن يُعْنَوا به من الأمر.

ذلك إلى أن الرجل الديمقراطي بالطبع، الحر بالفطرة؛ لا ينبغي أن يُهَزَّ ولا يُمخض لسقوط وزارة ونهوض وزارة أخرى، ولعزل رئيس وتولية رئيس آخر … وإثم هذا كله ليس على الموظفين، وإنما هو على الوُزراء والرُؤساء الذين يتجاوزون حدودهم، ويطلبون إلى الموظفين بالإشارة الدالة وبالقول الصريح أكْثَر مما يُبيح لهم القانون أن يطلبوا منهم. وفي الأمر ما هو أشد من ذلك خطرًا وأعظم منه نكرًا، فالموظف قد أَلِفَ من الوزراء والرؤساء أن يُخاصم مَن يخاصمون، ويُوالي من يوالون، حتى أصبح يرى ذلك واجبًا عليه، وحتى أصبح يرى رِزْقَه مُعرَّضًا للخطر إن خاصم وليًّا للوزير، أو وَفَى لخصمٍ من خصوم الوزير. وكذلك تَفْسُد الطبيعة الديمقراطية والفِطرة الحرة … وكذلك تَفْسُد الصِلات بين الناس، ويقوم الكذب والنفاق والقطيعة مَقام الصدق والإخلاص والتواصُل. وكذلك تضيع مصالح الناس ومنافعهم؛ لأن الموظفين مضطرون إلى أن يَرْعَوْا في خدمة هذه المصالح والمنافع أهواء الوزراء والرؤساء؛ لا أصول الحق والعدل والقانون، وكذلك تُهْدَر الكرامة والعزة، ويُصبح الموظف عبدًا للوزير وخادمًا للرئيس، لا يملك مِنْ أَمْر نَفْسِه شيئًا، وقد استقر في قلبه خطأً أو صوابًا أنه موظف عند الوزير والرئيس، لا عند الدولة التي هي فوق الوزير والرئيس … وكذلك تقوم حياة الموظفين على الخوف أن يُقْطَع الرزق ذات صباح أو ذات مساء!

ولست أعرف شيئًا يُفسِد الأخلاق ويملأ الحياة العامة شرًّا ونُكرًا كالخوف، ولست أعرف شيئًا يُصلِح الأخلاق ويملأ الحياة العامة والخاصة خيرًا وعُرفًا كالأمن … فهل من سبيل إلى أن تُعصَم قلوب الموظفين من الخوف، وتَطْمَئِنَّ نفوسهم إلى الأمن لتقوم حياتهم وصِلاتهم على ما تقتضيه الطبيعة الديمقراطية والفطرة الحرة من الصدق والإخلاص والوفاء ورعاية الكرامة والارتفاع عما يُذِلُّ ويُهِين؟!

١٩٤٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤