الفصل الثالث والعشرون

المعرض الضخم

أقيم معرض ضخم في باريس في عام ١٨٩٠م. وكنت قد قرأت عن تفاصيل الإعداد له، وكنت أرغب في مشاهدة باريس. فرأيت أن من الأفضل أن أجمع بين الأمرين وأذهب في ذلك الوقت، فأحضر المعرض وأشاهد باريس. وقد جذبني إلى المعرض بصورة خاصة برج إيفل الذي شُيد بأكمله من الحديد، وبلغ ارتفاعه ١٠٠٠ قدم. بالطبع كانت هناك أشياء أخرى جذبتني لزيارة باريس، لكن البرج كان أهمها، حيث إنه من المفترض عدم إمكانية ثبات أي بناء بذلك الارتفاع حتى ذلك الوقت.

علمت أن هناك مطعمًا نباتيًّا في باريس، فحجزت غرفة ومكثت سبعة أيام. استطعت ترشيد مصروفاتي بصورة كبيرة سواء في رحلتي إلى باريس أو في زيارتي للمعالم السياحية هناك، فقد كنت أذهب إلى هذه المزارات السياحية سيرًا على الأقدام مستعينًا بخريطة باريس، التي استعنت بها للوصول إلى المعرض. فقد كانت مثل هذه الخرائط كافية لتدل الشخص على الشوارع الرئيسية والأماكن المهمة.

في الواقع، لا أذكر عن المعرض إلا ضخامته وتنوعه. لكنني أذكر جيدًا برج إيفل نظرًا لأنني صعدته مرتين أو ثلاث. كان هناك مطعم بالطابق الأول، فأهدرت سبعة شلنات لمجرد نيل شرف القول: إنني تناولت غدائي على مثل هذا الارتفاع الشاهق.

لا تزال صورة الكنائس القديمة بباريس مطبوعة في ذاكرتي، فهي تتمتع بفخامة وسكينة لا يمكن نسيانها. ولا يمكن نسيان روعة بناء كاتدرائية نوتردام والزخارف المتقنة للواجهة الداخلية للمبنى وما تحويه من نحوت جميلة. شعرت وقتها أن من ينفق هذه الملايين على مثل هذه الكاتدرائيات المقدسة لا يمكن أن يحتوي قلبه إلا على حب الإله.

قرأت الكثير عن أزياء باريس وعبثها، وقد كان ذلك العبث جليًّا في كل شارع بها، لكن الكنائس كانت تقف بارزة بعيدة عن هذه المشاهد. فما إن يدخل المرء إحدى هذه الكنائس، حتى ينسى ما عاناه من ضوضاء وصخب خارجها. وسيجد تصرفاته مختلفة، فسيتصرف بوقار وتبجيل وهو يمر بأحد الأشخاص الراكعين أمام تمثال السيدة مريم العذراء. لقد ظل الشعور الذي أحسست به حينها يلازمني، حتى إنني موقن أن الركوع والصلاة ليسا مجرد خرافات، فلا أتخيل أن تكون تلك الأرواح المخلصة الراكعة أمام السيدة مريم تعبد مجرد تمثال من الرخام. لقد التهبت في قلوبهم نيران الإخلاص الحقيقي، فهم لا يعبدون الحجر وإنما الإله الذي يمثله هذا التمثال. شعرت حينها أنهم لا ينتقصون من عظمة الإله بهذا النوع من العبادة، وإنما يزيدون في تمجيده.

وأرغب في أن أذكر ملحوظة حول برج إيفل. إلى الآن لا أعلم الغاية التي يستخدم البرج من أجلها، لكنني سمعت وقتها أن البعض مجده والبعض الآخر انتقده. وكان تولستوي أهم من انتقد تشييده. فقال: إن برج إيفل هو نصب تذكاري يخلد حماقة الإنسان لا حكمته. وزعم تولستوي أن التدخين هو أشر المسكرات؛ حيث إن مدمن التدخين يشرع في ارتكاب جرائم لا يجرؤ السكير أبدًا على اقترافها. فالخمر يجعل من الإنسان مجنونًا، أما التدخين فيحجب عقله ويجعله يبني قلاعًا في الهواء. برج إيفل هو نتاج الإنسان وهو تحت مثل ذلك التأثير. فما الفن الذي يمثله برج إيفل؟ لا يمكن القول بأنه أسهم في إضافة لمسة جمال حقيقية إلى المعرض. اندفعت حشود الناس لمشاهدة البرج وتسلقوه لأنه كان شيئًا جديدًا وفريدًا من حيث حجمه. فكان البرج اللعبة المسلية في المعرض التي ننجذب إليها ما دمنا أطفالًا. وقد كان البرج إثباتًا جيدًا لحقيقة كوننا جميعًا أطفالًا ننجذب إلى الألعاب. إن هذا هو الغرض من برج إيفل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤