الفصل الخامس عشر

الاضطراب الديني

الآن أعود لقص تجاربي مع الأصدقاء المسيحيين، فقد أصبح السيد بيكر قلقًا بشأن مستقبلي، فدعاني لحضور مؤتمر ويلنجتون، حيث ينظم المسيحيون البروتستانت هذه الاجتماعات كل بضع سنوات بهدف التنوير الديني أو بعبارة أخرى تطهير النفس، ويمكن أن نطلق على ذلك النوع من الاجتماعات الإحياء الديني، وقد كان مؤتمر ويلنجتون ينتمي لهذا النوع من الاجتماعات. وكان رئيس المؤتمر القس المبجل أندرو موراي. وظن السيد بيكر أن جو السمو الديني الذي كان يملأ المؤتمر وحماسة الحضور وخشوعهم سيجعلني بلا شك أعتنق المسيحية.

كان أمله الأخير يتمثل في تأثير الصلاة، فقد كان يتمتع بإيمان راسخ في الصلاة، وكانت لدى السيد بيكر قناعة راسخة بأن الإله لا يقبل إلا الصلاة المؤداة بإيمان راسخ، وكان يستشهد بذكر أشخاص مثل جورج مولر من مدينة بريستول، الذي كان يعتمد على الصلاة بصورة مطلقة حتى عندما يكون له حاجة دنيوية. استمعت إلى حديثه عن تأثير الصلاة بحياد، ثم أخبرته أنه عندما ينفتح قلبي للمسيحية لن يمنعني من اعتناقها شيء، ولم أتردد للحظة في إخباره بذلك، فلقد اعتادت نفسي أن تتبع صوت ضميري، ولطالما أسعدني أن أتبع ذلك الصوت الذي ينبع من داخلي، فكان من المؤلم ومن الصعب عليَّ عدم الإنصات له.

توجهنا إلى ويلنجتون، حيث تعرض السيد بيكر للكثير من المشاكل بسبب اصطحابه «شخصًا ملونًا» مثلي. فقد تعرض إلى عدة مضايقات في مناسبات شتى بسببي، واضطررنا إلى أخذ راحة قصيرة في أثناء الرحلة لأنه كان يوم الأحد ولم يكن السيد بيكر أو مجموعته يسافرون في ذلك اليوم، وبعد جدال طويل وافق مدير فندق المحطة على استضافتي، لكنه مع ذلك رفض بصرامة أن أتناول الطعام في غرفة الطعام، لكن السيد بيكر لم يكن سهل الاستسلام، ودافع عن حقوق النزلاء. كنت أرى معاناته وأشعر بضيقه. مكثت معه في ويلنجتون أيضًا، وشعرت بما يعانيه من مشاكل صغيرة وذلك مع محاولاته المضنية لإخفائها عني.

كان المؤتمر يتكون من حشد من المسيحيين المخلصين، الذين أثار انتباهي إيمانهم. قابلت القس المبجل موراي، وكانت معظم الصلوات من أجلي. وقد راقني بعض ترانيمهم نظرًا لعذوبتها.

استمر المؤتمر ثلاثة أيام، أدركت فيها إخلاص الحاضرين وأعجبت بهم، لكنني لم أجد سببًا وجيهًا لتغيير ديني، وكان من المستحيل أن أؤمن بأن الخلاص ودخول الجنة مرهون فقط باعتناقي المسيحية، وقد صُدم بعض أصدقائي المسيحيين عندما أخبرتهم بوجهة نظري هذه، لكنني كنت مؤمنًا بها تمامًا.

المشكلة الحقيقة كانت أعمق من ذلك، فلم أستطع أن أؤمن بأن المسيح هو ابن الرب الأوحد الذي تجسدت فيه روحه، وأن أولئك الذين يؤمنون به وحدهم سينعمون بحياة سرمدية، فإن كان للرب أن يكون له ولد، فجميعنا أبناؤه، وإن كان المسيح مثل الرب أو هو الرب ذاته، فجميع البشر مثل الرب ويمكن أن يكونوا الرب ذاته. ولم أستطع تصديق أن المسيح افتدى بموته ودمه خطايا البشر جميعًا بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن لو نظرنا للأمر على نحو مجازي فيمكن أن يحمل بين طياته بعض الحقيقة. علاوة على ذلك، تقول المسيحية بأن البشر وحدهم لهم روح أما غيرهم من الكائنات الحية فالموت يعني لهم الفناء التام، لكنني كنت أرى غير ذلك. كان من الممكن أن أتقبل المسيح شهيدًا وتجسيدًا للتضحية ومعلمًا جليلًا، لكن ليس كأكمل إنسان عرفته البشرية. كان موت المسيح على الصليب يمثل عبرة للعالم أجمع، لكنني لم أجد في ذلك أي أثر غامض أو خارق في قلبي. ولم تضف لي سير حياة المسيحيين الصالحين ما يزيد على الذي يمكن أن أحصل عليه من حياة الصالحين في أي دين آخر، فلقد وجدت في حياة آخرين ممن ينتمون لديانات أخرى نفس الإصلاح الديني الذي سمعت المسيحيين يتحدثون عنه. ومن الناحية الفلسفية، لم أجد ما يميز المعتقدات المسيحية، بل وجدت أن الهندوس يفوقون المسيحيين بدرجة كبيرة فيما يتعلق بالتضحية، فكان من المستحيل أن أؤمن أن المسيحية دين كامل أو أنها أكمل الديانات.

أطلعت أصدقائي المسيحيين على تلك الأفكار كلما سنحت الفرصة، لكن إجاباتهم لم تكن مقنعة.

وهكذا لم أقبل بالمسيحية كديانة كاملة أو أكمل الديانات، ولا حتى بأن الهندوسية كذلك. وكانت نقائص الهندوسية جلية أمامي، فلو أن فكرة «النبذ» جزء من الهندوسية، فهي إذن جزء فاسد أو غير مرغوب فيه. ولم أستطع فهم سبب وجود الكثير من الطوائف والطبقات. وما معنى قولنا بأن الفيدا١ هي كلمات الإله الموحاة؟ وإذا كانت هي كلمات الإله الموحاة، فلماذا لا يكون الإنجيل والقرآن وحيًا من عند الإله أيضًا؟

ومثلما كان أصدقائي المسيحيون يسعون إلى إقناعي باعتناق المسيحية، كان أصدقائي المسلمون يسعون إلى دخولي في الإسلام، فقد ظل السيد عبد ﷲ يحثني على دراسة الإسلام، وكان دائمًا يحكي لي عن عظمة ذلك الدين.

كتبت إلى رايشاندباي معبرًا عن الأفكار التي تراودني، وراسلت الكثير من المؤسسات الدينية في الهند وتلقيت ردودًا منها. وكان خطاب رايشاندباي مطمئنًا إلى حد بعيد، حيث أخبرني أن أتحلى بالصبر وأدرس الهندوسية بتعمق أكبر. قال لي في إحدى الجمل التي كتبها في خطابه: «عند النظر إلى المسألة بحيادية، أرى أنه لا توجد ديانة تتمتع بالفكر السامي والعميق الذي تتمتع به الهندوسية أو برؤيتها للروح أو بإحسانها.»

اشتريت ترجمة جورج سال للقرآن وبدأت في قراءتها، وحصلت على عدد من الكتب التي تتحدث عن الإسلام، وراسلت بعض الأصدقاء المقيمين في إنجلترا، وعرفني أحدهم على إدوارد ميتلاند٢ الذي بدأت في مراسلته. أرسل لي إدوارد كتاب «الطريقة المثلى» الذي كُتب بالتعاون مع آنا كينجسفورد، وكان الكتاب يتناول التبرؤ من العقيدة المسيحية الشائعة وقتها. وأرسل لي كتابًا آخر يحمل عنوان «التفسير الجديد للإنجيل»، وقد أعجبني الكتابان، ورأيت أنهما يؤيدان مبادئ الهندوسية. بالإضافة إلى ذلك، أثر فيَّ كتاب تولستوي «مملكة الإله تكمن بداخلك» جليل الأثر، فبدت جميع الكتب التي أطلعني عليها السيد كوتس عديمة القيمة أمام التفكير المستقل والأخلاقيات العميقة والصدق الذي يتسم به هذا الكتاب.
هكذا قادتني دراستي لتلك الكتب إلى اتجاه لم يتوقعه أصدقائي المسيحيون. واستمرت مراسلتي لإدوارد ميتلاند لمدة طويلة، واستمرت مراسلاتي مع رايشاندباي حتى وافته المنية. وقرأت بعض الكتب التي أرسلها لي، منها «بانشيكاران» Panchikaran و«مانيراتنامال» Maniratnamala و«موموكشو براكاران أوف يوجافاسيشثا» Mumukshu Prakaran of Yogavasishtha وكتاب «شادارشانا ساموشايا» لكاتبه هاريبادرا سوري Haribhadra Suri’s Shaddarshana Samuchchaya وغيرها.

ولقد بقيت ممتنًّا لأصدقائي المسيحيين لأنهم جعلوني أخوض في رحلة البحث الديني تلك، مع أنني سلكت طريقًا غير الذي تمنوه، ولن أنسى أبدًا الأيام التي قضيتها معهم. وكان الزمن يحمل لي بين طياته المزيد من هذه العلاقات الجميلة والروحانية.

هوامش

(١) الفيدا: هي مجموعة ضخمة من النصوص الهندية المقدسة.
(٢) إدوارد ميتلاند (١٨٢٤–١٨٩٧م): وهو كاتب بريطاني شهير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤