الفصل التاسع عشر

المؤتمر الهندي لناتال

كان عملي بالمحاماة لي وظيفة ثانوية. فكان من الضروري أن أركز على الخدمة العامة لأشعر بأهمية بقائي في ناتال. لم يكن إرسال العريضة التي تتعلق بالحرمان من حق التصويت كافيًا في ذاته. فقد كان يجب الاستمرار في الثورة ضد القانون حتى نؤثر على وزير المستعمرات، ولذلك كان من الضروري تشكيل كيان دائم. تشاورت مع السيد عبد ﷲ والأصدقاء، فقررنا إنشاء منظمة عامة دائمة.

ولقد احترت للغاية عندما أردت اختيار اسم أطلقه على تلك المنظمة. فلم أكن أريد أن يرتبط اسم المنظمة بأي من الأحزاب. كنت أعلم أن كلمة المؤتمر Congress تحمل مفهومًا بغيضًا لدي المحافظين في إنجلترا لكن مع ذلك كان الاسم يمثل الحياة في الهند بحذافيرها، وكنت أرغب في نشره في ناتال. وكان من الجبن أن أتردد في اختيار الاسم. بناء على ذلك، وبعد أن قدمت أسبابي التي اخترت على أساسها الاسم، اقترحت أن تحمل المنظمة اسم «المؤتمر الهندي لناتال».١ وقد بدأ عمل الحزب بالفعل في الثاني والعشرين من مايو/أيار.

ازدحمت غرفة السيد دادا عبد ﷲ الواسعة بشدة في ذلك اليوم. ولقي الحزب استحسان جميع الحضور المتحمسين. كان دستور الحزب بسيطًا، ولكن رسوم الاشتراك فيه كانت مرتفعة. فقد اقتصرت عضوية الحزب على من يقدر على دفع خمسة شلنات شهريًّا. نجحنا في إقناع الأثرياء بالتبرع بأكبر مبلغ ممكن، وكان على رأسهم السيد دادا عبد ﷲ الذي تعهد بدفع جنيهين إسترلينيين شهريًّا. وتعهد شخصان آخران بدفع نفس المبلغ. رأيت أنه ليس من الملائم أن أبخل، فخصصت جنيهًا إسترلينيًّا شهريًّا، ولم يكن ذلك بالمبلغ القليل، لكنني رأيت أنه لن يكون من المستحيل أن أُدبِّر مثل ذلك المبلغ. واستطعت بعون الإله تدبير المبلغ. وهكذا انضم إلينا عدد كبير من الأعضاء ممن استطاعوا دفع جنيه إسترليني شهريًّا. وكان يفوقهم عدد الأشخاص الذين يدفعون ١٠ شلنات. وكان هناك التبرعات التي كنا نقبلها بامتنان.

أثبتت التجربة أن الناس لا يدفعون اشتراك الحزب بمجرد طلبه منهم. وكان يستحيل أن نستمر في الذهاب إلى الأعضاء خارج حدود دربان. فأخذت الحماسة التي كانت متقدة في وقت ما في التلاشي بعد ذلك. وحتى الأعضاء المقيمون داخل دربان، كنا نضطر للإلحاح عليهم كي يسددوا الاشتراكات.

وكانت وظيفتي كأمين سر الحزب تشتمل على مسئولية تحصيل الاشتراكات. وجدت نفسي في إحدى المراحل مضطرًّا إلى أن أجعل الموظف الذي يعمل معي يشتغل ليل نهار لتحصيل الاشتراكات، مما جعله يشعر بالإرهاق. ورأيت أنه لتحسين الوضع من الأفضل أن تُدفع الاشتراكات مقدمًا بصورة سنوية بدلًا من شهرية. لهذا دعوت لانعقاد اجتماع حزب المؤتمر الهندي لناتال.

رحب الجميع باقتراح دفع الاشتراك سنويًّا بدلًا من شهريًّا وتثبيت الحد الأدنى للاشتراك بمبلغ ٣ جنيهات إسترلينية. كان لذلك عظيم الأثر في تسهيل عملية التحصيل.

تعلمت منذ بداية الأمر ألا أنفذ أي خدمة عامة باستخدام أموال مقترضة. فيمكن للمرء أن يثق بوعود الآخرين في الكثير من الأمور إلا ما يتعلق منها بالأموال. لم أجد أحدًا يدفع المبالغ التي وعد بها، ولا حتى من الهنود بناتال. ولم يقع الحزب في الديون قط لأننا لم نكن نقوم بأي عمل دون توافر الأموال.

أظهر العاملون معي حماسة عظيمة فيما يتعلق بجذب الأعضاء. ويرجع الفضل في ذلك إلى العمل الذي جذب اهتمامهم، وأكسبهم خبرة عظيمة في الوقت ذاته. توافدت الحشود تحمل أموال الاشتراكات عن طيب خاطر. وكانت المهمة الأصعب تتمثل في العمل في القرى المتباعدة داخل البلاد، فلم يكن لدى الناس وعي بالخدمة العامة. مع ذلك، تلقينا دعوات لزيارة أماكن نائية، حيث عرض كبار التجار استضافتنا.

احتدم الموقف في إحدى الزيارات بهذه الجولة. كنا نتوقع أن يسهم مضيفنا بمبلغ ٦ جنيهات إسترلينية، لكنه رفض إلا أن يقدم ٣ جنيهات إسترلينية فقط. كان علينا أن نرفض مثل ذلك الموقف، وإلا وجدنا غيره من المشتركين ينتهجون نهجه فتنهار عملية التحصيل. كنا في ساعة متأخرة من الليل، وشعرنا جميعًا بالجوع يتسلل إلى بطوننا. لكننا لم نستطع تناول أي طعام، فكيف نتناول الطعام قبل أن نحصل على المبلغ الذي عزمنا على تحصيله؟ فشلت جميع محاولات إقناع المضيف، الذي بدا عنيدًا. حاول التجار بالمدينة إقناعه، وجلسنا جميعًا طوال الليل نتجادل. لكن المضيف كان عازمًا على ألا يتزحزح عن رأيه ولو قدر أنملة، ولم يكن عزمنا بأقل منه. كان معظم رفاقي يستشيطون غضبًا من موقف المضيف، لكنهم تمالكوا أنفسهم. وأخيرًا، رضخ المضيف وكان حينها الليل قد انقشع بالفعل، فدفع الستة جنيهات إسترلينية وقدم لنا الطعام. وقعت هذه الحادثة في تونجات Tongaat، لكن صداها وصل إلى ستانجر على الساحل الشمالي وإلى تشارلزتاون التي تقع في الجزء الداخلي من البلاد. ساعد ذلك على تسهيل مهمتنا في تحصيل الاشتراكات.

لم يكن جمع الأموال هو المهمة الوحيدة المنوط بنا أداؤها. وفي حقيقة الأمر، تبنيت منذ زمن بعيد مبدأ يقول بألا تضع تحت تصرف الفرد أموالًا تزيد عن الحاجة.

كانت الاجتماعات عادة ما تعقد مرة شهريًّا أو أسبوعيًّا إذا لزم الأمر. كنا نقرأ محضر الاجتماع السابق، ثم نناقش جميع المسائل والموضوعات. لم يكن لدى الناس خبرة بالمشاركة في المناقشات العامة أو بكيفية الكلام بإيجاز وفي صلب الموضوع. فكان الجميع يتردد بشأن النهوض والتحدث. وشرحت للناس قواعد الاجتماعات، فالتزموا بها واحترموها. لقد أدركوا أن ما يحدث إنما هو تثقيف لهم، واكتسب الكثير منهم القدرة على التفكير والتحدث على الملأ بشأن أمور ذات اهتمام عام، وذلك مع عدم اعتيادهم على الحديث أمام جمهور قط.

قررت ألا تطبع دفاتر الإيصالات في البداية، نظرًا لعلمي بأن النفقات الثانوية تستنزف مبالغ ضخمة في بعض الأوقات. كان لديَّ ماكينة نسخ في مكتبي، وكنت أستخدمها في نسخ الإيصالات والتقارير. ولم أبدأ في طباعة تلك الإيصالات والتقارير إلا بعد أن امتلأت خزائن الحزب، وبعد زيادة عدد الأعضاء وحجم العمل. مثل هذا الترشيد يُعد عنصرًا مهمًّا لجميع المؤسسات، مع علمي بعدم الالتزام الدائم به. لهذا السبب رأيت أن من الأنسب أن أتعرض للتفاصيل الخاصة بنشأة مثل هذه المؤسسة الصغيرة والمتنامية.

لم يكن الناس يكترثون بالحصول على إيصالات تثبت المبالغ التي دفعوها، لكننا كنا دائمًا ما نصرُّ على إعطائهم تلك الإيصالات. وهكذا كنا نحسب جميع الأموال بدقة، ويمكنني الجزم بأن دفاتر الحسابات لعام ١٨٩٤م لا تزال سليمة وموجودة في سجلات حزب المؤتمر الهندي لناتال. إن الحفظ الدقيق للحسابات من العناصر الرئيسية اللازمة لأية مؤسسة، والتي تفقد المؤسسة دونه سمعتها الحسنة. فمن المستحيل الوصول إلى الحقيقة المجردة دون الإمساك الدقيق بالحسابات.

وكانت خدمة الهنود المتعلمين من الذين ولدوا في المستعمرات سمة أخرى تمتع بها الحزب. فقد شُكلت «جمعية الهنود المتعلمين من أبناء المستعمرات» تحت إشراف الحزب. وقد كان الأعضاء في معظمهم من أولئك الشباب المتعلم، وكان عليهم سداد رسم اشتراك زهيد. قامت الجمعية بدورٍ في التعبير عن احتياجات أولئك الشباب وشكواهم، وحثهم على التفكير، وإقامة جسور الاتصال بينهم وبين التجار الهنود، وأيضًا في إفساح المجال لهم لخدمة المجتمع. لقد كانت الجمعية من الجمعيات التي تعتمد على النقاش. كان الأعضاء يجتمعون بصورة منتظمة ويتحدثون أو يقرءون الصحف التي تتناول موضوعات مختلفة. وافْتُتِحَت مكتبة صغيرة تابعة للجمعية.

كانت الدعاية هي السمة الثالثة التي تمتع بها الحزب. وقد تمثل ذلك في إطلاع الإنجليز في جنوب أفريقيا وإنجلترا، والأهل في الهند، على الأوضاع الحقيقية في ناتال. وقد كتبت كُتيبين تدعيمًا لهذا الغرض. كان أولهما يحمل اسم «التماس إلى جميع البريطانيين في جنوب أفريقيا» An Appeal to Every Briton in South Africa. وقد احتوى على عرض للوضع العام للهنود في ناتال مدعمًا بالأدلة. أما الكتيب الآخر فكان يحمل اسم «الهنود وحق التصويت — التماس» The Indian Franchise—An Appeal. وكان الكتيب يتضمن تاريخًا مقتضبًا لحق تصويت الهنود في ناتال مدعمًا بالحقائق والأرقام. ولم يكن هذان الكتيبان إلا ثمرة الكثير من الجهد والدراسة. لكن لا قيمة لتلك المشقة في مقابل المحصلة النهائية التي توصلت إليها. وجرى بالفعل تداول هذين الكُتيبين على نطاق واسع.

نتيجة لهذا النشاط المضني، نجحنا في اجتذاب العديد من الأصدقاء في جنوب أفريقيا، وفي اكتساب تعاطف جميع الأطراف في الهند. ومهد ذلك طريق عمل محدد أمام الهنود بجنوب أفريقيا.

هوامش

(١) المؤتمر الهندي لناتال: يشير المؤلف هنا إلى حزب المؤتمر الهندي Congress Party الذي تأسس عام ١٨٨٥م، والذي كان يمثل نقطة معارضة أساسية للوجود الإنجليزي في الهند.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤