الفصل الثالث

الاختبار

رست السفينة في الميناء، وبدأ الركاب في النزول إلى الشاطئ. كان السيد إسكومب قد أرسل إلى ربان السفينة يوصيه بأن أنزل مع أسرتي من على ظهر السفينة عند حلول الظلام حيث سيرافقنا قائد شرطة الميناء السيد تاتوم إلى المنزل، وذلك لأن البيض يشعرون بسخط شديد عليَّ ومن ثَمَّ فحياتي معرضة للخطر. نقل الربان الرسالة إليَّ فوافقت على الأخذ بنصيحته. لكن بعد مرور زهاء نصف الساعة، جاء السيد لوتون إلى الربان وقال: «أريد أن يأتي السيد غاندي في صحبتي إذا لم يكن لديه أي اعتراض. وبصفتي المستشار القانوني للشركة، أخبرك أنه ليس لزامًا عليك أن تنفذ ما جاء في رسالة السيد إسكومب.» ثم اقترب مني بعد ذلك، وقال: «إن لم تكن تشعر بالخوف، يمكن لزوجتك والأطفال أن يذهبوا بالعربة إلى منزل السيد روستومجي، ونتبعهم أنا وأنت سيرًا على الأقدام. لا أحبذ بالمرة فكرة دخولك المدينة في جنح الليل كاللصوص. ولا أعتقد أن أحدًا سيتعرض لك بأذى، فلقد هدأت الأمور الآن وتفرق البيض. وعلى كل حال، أرى أنه لا يجب أن تدخل المدينة خلسة.» وافقت على نصيحة السيد لوتون في الحال. وصلت زوجتي والأطفال إلى منزل السيد روستومجي بسلام. ونزلت مع السيد لوتون إلى البر بعد موافقة الربان. وكان منزل السيد روستومجي يبعد عن الميناء بحوالي ميلين.

ما لبثنا أن وطأنا الشاطئ، حتى تعرف إليَّ بعض الشباب وأخذوا يهتفون: «غاندي، غاندي!» خشي السيد لوتون أن يتزايد عدد الحشد، فنادى على عربة «الريكاشة» لتقلنا. لم أحبذ فكرة ركوب العربة قط، فقد كانت هذه المرة الأولى التي أركب فيها مثل هذه العربة. لكن الشباب لم يدعوني أركب العربة. لقد أرهبوا سائق العربة حتى فر هاربًا. وكلما تقدمنا، زاد عدد الحشود حتى أصبح من المستحيل أن نتقدم أكثر. أمسكوا في بادئ الأمر بالسيد لوتون وفصلوا كلًّا منا عن الآخر. ثم انهالوا عليَّ بالحجارة والطوب والبيض الفاسد. وقام بعضهم بإلقاء عمامتي على الأرض، في حين أخذ البعض الآخر ينهال عليَّ بالضرب ويركلني. أصابتني نوبة إغماء وتمسكت بالسياج الأمامي لأحد المنازل ووقفت هناك أستجمع أنفاسي. لكن كان من المستحيل أن يتركوني وشأني، فأتوا خلفي يلكمونني ويضربونني. تصادف مرور زوجة قائد الشرطة التي كانت تعرفني. ففتحت السيدة الشجاعة مظلتها مع عدم سطوع الشمس حينها، وحالت بيني وبين تلك الحشود. كبح موقف السيدة ثورة الدهماء، فقد كان من الصعب أن يوجهوا لي الضربات دون إصابة زوجة السيد ألكسندر، قائد الشرطة.

في غضون ذلك، هرع شاب هندي كان قد شهد الواقعة إلى قسم الشرطة وأخبر قائد الشرطة بما حدث. فأرسل السيد ألكسندر مجموعة من رجال الشرطة ليحرسوني ويوصلوني بسلام إلى وجهتي. وقد وصلوا في الوقت المناسب بالفعل. كان قسم الشرطة يقع في طريقنا، وحينما وصلنا إلى المخفر طلب مني قائد الشرطة أن أمكث هناك، لكنني شكرته ورفضت طلبه. وقلت له: «من المؤكد أنهم سوف يهدءون عندما يدركون الخطأ الذي اقترفوه، فأنا أثق بعدالتهم.» وصلت إلى منزل السيد روستومجي بسلام بصحبة رجال الشرطة. كان جسدي مليئًا بالكدمات، لكنني لم أُصب إلا بجرح واحد. بذل طبيب السفينة، السيد داديبارجور، الذي كان موجودًا في المنزل كل ما في استطاعته للمساعدة.

كانت الأجواء هادئة داخل المنزل، لكن البيض كانوا يحاصرون المنزل في الخارج. كان الليل يلقي بظلاله على المدينة، وكانت أصوات الحشود ترتفع بالهتاف: «يجب أن تسلموا لنا غاندي.» كان قائد الشرطة نافذ البصيرة، فحاول أن يسيطر على الحشود بمداعبتهم لا تهديدهم، وذلك مع تملك القلق منه. فأرسل لي رسالة نصها: «إذا كنت ترغب في إنقاذ بيت صديقك وممتلكاته، وكذلك أسرتك، يجب أن تفر من المنزل متنكرًا.»

هكذا وجدت نفسي في اليوم نفسه أواجه موقفين متناقضين. فعندما لم يكن هناك خطر على حياتي، نصحني السيد لوتون بأن أظهر علانية وقبلت نصيحته، لكن ما إن أصبح الخطر حقيقيًّا حتى أسداني صديق آخر نصيحة مناقضة تمامًا وقد قبلتها أيضًا. لا أعلم ما إذا كنت فعلت ذلك خوفًا على حياتي أو خوفًا على حياة صديقي وممتلكاته أو خوفًا على حياة زوجتي وأطفالي؟ من يستطيع أن يجزم بأنني كنت على صواب عندما واجهت الحشود المتجمهرة في بادئ الأمر بشجاعة، كما قيل، أو عندما هربت منهم متنكرًا؟

لا جدوى من الحكم على صحة أو خطأ الأحداث التي وقعت بالفعل. لكن من المهم أن نفهمها، وأن نتعلم منها — إذا أمكن — دروسًا قد تنفعنا في المستقبل. من الصعب التنبؤ بما يمكن أن يقوم به المرء في ظل ظروف بعينها. ونجد أن الحكم على الشخص من أفعاله الظاهرة فقط، ليس إلا حكمًا غير مؤكد نظرًا لعدم اعتماده على معلومات كافية.

مع ذلك، جعلني الاستعداد للهرب أنسى جروحي. تنكرت في زي شرطي هندي، بناء على اقتراح قائد الشرطة، ووضعت فوق رأسي وشاحًا مدراسيًّا ملفوفًا حول صفيحة من المعدن كأنها خوذة. وخرجت بصحبة اثنين من رجال الشرطة، تنكر أحدهم بزي تاجر هندي وطلى وجهه ليبدو كالهنود، لكنني لا أذكر تنكر الشرطي الآخر. وصلنا إلى متجر مجاور يقع في شارع جانبي، فشققنا طريقنا خلال أكياس الخيش المتراكمة في المخزن حتى هربنا من بوابة المتجر. ثم شققنا طريقنا بحذر بين الحشود متجهين نحو عربة كانت تنتظرني في نهاية الشارع. فأخذنا العربة وانطلقنا مرة أخرى إلى قسم الشرطة الذي عرض عليَّ السيد ألكسندر المكوث فيه من قبل، فشكرته وشكرت ضباط الشرطة.

وفي حين كنت أشق طريقي فارًّا من منزل صديقي، كان السيد ألكسندر يلهي الحشود بهتاف:

اشنقوا غاندي العجوز على أغصان شجرة التفاح الفاسد.

وعند تلقيه خبر وصولي بأمان إلى قسم الشرطة، بلغ قائد الشرطة الحشود المتجمهرة بالخبر قائلًا: «حسنًا، لقد فر ضحيتكم عن طريق متجر مجاور. من الأفضل أن تعودوا إلى منازلكم الآن.» تضاربت ردود أفعال تلك الحشود، فاستشاط بعضهم غضبًا، وضحك البعض الآخر، في حين رفض البعض أن يصدقوا الخبر.

فقال قائد الشرطة: «حسنًا، إذا لم تكونوا تصدقون الخبر، من الممكن أن آخذ اثنين منكم إلى داخل المنزل، وإذا ما وجدوه هناك فسأسلمه إليكم. وإذا لم يكن بالداخل، فسيكون عليكم الرحيل. أنا على يقين أنكم لا تودون تحطيم منزل السيد روستومجي أو التعرض بأذى إلى زوجة السيد غاندي أو أطفاله.»

أرسلت الحشود ممثليهم لتفتيش المنزل. فعادوا بعد مدة وجيزة يجرون ذيول الخيبة، فتفرقت الحشود أخيرًا. وكانت غالبية الحشود معجبة ببراعة قائد الشرطة في التعامل مع الموقف، وكان منهم الثائرون والغاضبون.

وقد طلب السيد تشمبرلن، وزير المستعمرات البريطانية، من حكومة ناتال محاكمة المعتدين. وأرسل السيد إسكومب إليَّ وعبر لي عن أسفه لما أصابني من أذى، فقال لي: «صدقني، أشعر بأسى شديد لما ألم بك من أذى. بالطبع كان من حقك الأخذ بنصيحة السيد لوتون بمواجهة الأمر على صعوبته، لكنني على يقين من أن تلك المأساة ما كانت لتحدث لو أخذت بنصيحتي. أنا على استعداد للقبض على الجناة ومحاكمتهم إذا ما تعرفت على هويتهم. فالسيد تشمبرلن أيضًا يريدني أن أحاكمهم.»

فأجبته قائلًا: «لا أرغب في مقاضاة أحد. يمكنني التعرف على هوية واحد أو اثنين من الجناة، لكن ما الطائل في معاقبتهم؟ علاوة على أنني لا ألوم المعتدين على ما اقترفوه، فلقد أُخبروا أنني انتقدت البيض المقيمين في ناتال وشوهت سمعتهم عندما كنت في الهند. فلا عجب أن يثوروا هكذا إذا ما صدقوا مثل هذه الافتراءات. فاللوم يجب أن يوجه إلى القادة وإليك، إذا سمحت لي. كان عليك أن توجه الناس إلى الحقيقة، لكنك أيضًا صدقت ما قالته وكالة رويتر وافترضت أن تلك الافتراءات صحيحة. لا أريد مقاضاة أي من الجناة، أنا على يقين من أنهم سيأسفون على ما فعلوا عندما يكتشفون الحقيقة.»

فقال لي السيد إسكومب: «هل يمكنك أن تكتب لي ما أخبرتني به لتوك؟ لأنني سأرسل إلى السيد تشمبرلن لأخبره بذلك. ولا أريدك أن تأخذ أية قرارات مندفعة. يمكنك، إذا أردت، أن تستشير السيد لوتون وغيره من أصدقائك قبل أن تتوصل لقرار نهائي. مع ذلك، أقر أنه حتى في حالة رفضك مقاضاة المعتدين، عليك أن تساعدني على استعادة الهدوء والنظام بالإضافة إلى الدفاع عن سمعتك وتبرئة ساحتك.»

فكان ردي: «أشكرك، لا أحتاج إلى استشارة أحد. فلقد اتخذت قراري قبل أن آتي إليك. لا أريد أن أقاضي الجناة، وأنا مستعد في هذه اللحظة أن أكتب قراري هذا.»

فأعطيته البيان اللازم ثم رحلت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤