البراهماشاريا (١)
والآن وصلنا للمرحلة التي بدأت أفكر فيها بجدية في أخذ عهد البراهماشاريا (التحكم في شهوات النفس). لقد آمنت بشدة بفكرة الزواج بامرأة واحدة منذ أن تزوجت، وظللت مخلصًا لزوجتي نظرًا لأنه جزء من ولعي بالحقيقة. لكنني بدأت أدرك في جنوب أفريقيا أهمية الالتزام بالبراهماشاريا حتى مع زوجتي. لا أستطيع أن أتذكر بالتحديد الظروف أو الكتاب الذي وجه تفكيري إلى ذلك الاتجاه، لكن أذكر أن العامل الأساسي المحرك لهذه الفكرة كان تأثير رايشاندباي الذي سبق وتحدثت عنه. لا تزال تحضرني إحدى محادثاتي معه، حين تحدثت معه عن مدى إخلاص السيدة جلادستون لزوجها. وقد قرأت أنها أصرت على إعداد الشاي للسيد جلادستون حتى في مجلس العموم، حتى أصبحت عادة في حياة الزوجين المشهورين التي كان يحكمها التناسق والنظام. فأخبرت الشاعر رايشاندباي بذلك، وأخذت أمدح الحب بين الزوجين. وسألني: «أيهما تحبذ حب السيدة جلادستون إلى زوجها بصفتها زوجته أم خدمتها المخلصة له بغض النظر عن العلاقة التي تربطهما؟ فلتفترض أن أخته أو خادمته الوفية هي التي تهتم به بنفس الصورة، فماذا كنت ستقول وقتها؟ أليس لدينا أمثلة على أخوات أو خادمات بمثل هذا الإخلاص؟ هل كنت ستشعر بنفس السعادة التي شعرت بها في حالة السيدة جلادستون إذا ما كان نفس ذلك الإخلاص الحنون يتمثل في خادم؟ أرجو أن تدرس وجهة نظري.»
كان رايشاندباي نفسه متزوجًا. لقد بدا وقع كلماته على أذني قاسيًا عندما سمعتها لأول مرة، لكنها استحوذت عليَّ بشدة. شعرت بأن إخلاص الخادم يستحق المدح أكثر بكثير من إخلاص الزوجة لزوجها. فليس من الغريب أن تخلص المرأة لزوجها، بل إن الأمر طبيعي فهناك رباط قوي يربط بينهما. لكن الإخلاص المتبادل بين السيد وخادمه يتطلب جهدًا خاصًّا. وهكذا بدأت تتضح وجهة نظر الشاعر رايشاندباي تدريجيًّا.
فسألت نفسي كيف يجب أن يكون شكل العلاقة بيني وبين زوجتي؟ هل يقتصر إخلاصي لزوجتي على أن أجعل شهوتي كلها لها؟ إذن فما دمت عبدًا للشهوة، لا يعني إخلاصي لزوجتي أي شيء. وإحقاقًا للحق، لم تكن زوجتي تحاول إغوائي قط. لذلك كان من السهل عليَّ أن أتخذ عهد البراهماشاريا، إذا ما رغبت في ذلك. فقد كانت العقبة الوحيدة التي تعترض طريقي إرادتي الواهية أو شهوتي.
حتى بعد أن استيقظ ضميري وانتبهت إلى الأمر، حدث أنني ضعفت مرتين. ولقد كان ذلك الضعف نتيجة لأن الدافع المحرك لم يكن هو الهدف الأسمى. فقد كان هدفي الأساسي هو تجنب إنجاب المزيد من الأطفال، مع أنني قرأت عن وسائل منع الحمل عندما كنت في إنجلترا. ولقد سبق أن أشرت إلى ترويج الدكتور ألينسون لتنظيم الأسرة في الفصل الذي تحدثت فيه عن النباتية. وحتى إذا كان لذلك الترويج أثر مؤقت عليَّ، فقد كانت الغلبة لمعارضة السيد هيل لتلك الوسائل وتأييده للمساعي الذاتية على حساب الوسائل الخارجية للتحكم في الذات، حتى إن تلك المعارضة أصبحت ملزمة في الوقت المناسب. وهكذا سعيت إلى التحكم في شهوتي. وقد كانت تلك المهمة محفوفة بالصعاب. فبدأنا النوم في سريرين منفصلين. وقررت ألا أخلد إلى الفراش إلا بعد أن أكون منهك القوى تمامًا من العمل. ومع ذلك لم تؤت تلك الجهود الثمار المرجوة، لكن عندما أنظر إلى الماضي أجد أن الحل النهائي كان يكمن في الأثر المتراكم لجميع تلك الجهود التي لم يكتب لها النجاح.
لم أستطع أن أتوصل إلى الحل النهائي قبل عام ١٩٠٦م. لم تكن الساتياجراها قد بدأت بعد، ولم يكن لديَّ أدنى فكرة عن أنها ستبدأ. كنت أعمل في جوهانسبرج عندما وقعت «ثورة» الزولو في ناتال، التي حدثت بعد حرب البوير بفترة وجيزة. شعرت بأن الواجب يلزمني بعرض خدماتي على حكومة ناتال في مثل هذه الظروف. وقد تمت الموافقة على عرضي كما سنرى في فصل آخر.
لكن العمل جعلني أفكر في اتجاه التحكم في النفس بشدة. وكعادتي استشرت زملائي في الأمر. فتولدت لديَّ قناعة أن الإنجاب وما يترتب عليه من الاعتناء بالأطفال يتعارض مع الخدمة العامة. اضطررت إلى أن أفترق عن الأسرة في جوهانسبرج كي أتمكن من العمل خلال «الثورة». وخلال شهر من عرض خدماتي للمساعدة، كان عليَّ أن أتخلى عن منزلي الذي جهزته بعناية. أخذت زوجتي وأطفالي إلى فونيكس، ثم عملت في قيادة فرق الإسعاف التابعة لقوات ناتال. لقد تجلت فكرة التخلي عن الرغبة في الأطفال والثروة وأن أحيا حياة الناسك وأتخلى عن مسئوليات رعاية الأسرة إلى ذهني حينما كنا نقوم بالمسيرات العسكرية الشاقة، وذلك كي أتمكن من تكريس نفسي لخدمة الجالية.
مثلت المدة التي عملت فيها في أثناء «الثورة» مرحلة مهمة في حياتي مع أن انشغالي بها لم يستمر أكثر من ستة أسابيع. أخذت أهمية العهود تتجلى أمامي أكثر من ذي قبل. أدركت أن العهد لا يقيد الحرية، بل على العكس فهو يفتح الباب أمام الحرية الحقيقية. لكن حتى ذلك الوقت لم أكن قد وفقت في مسعاي نظرًا لافتقاري للإرادة وعدم ثقتي بنفسي أو برحمة الإله. فأخذ عقلي يتقلب في بحر الشك متلاطم الأمواج. وأدركت أن الإنسان يغرق في الفتن إذا ما رفض أن يتخذ على نفسه العهد، وأن التزام الإنسان بالعهد ما هو إلا رحلة من الانغماس في الشهوات إلى الزواج الأحادي الحقيقي. فمن يقول «أنا أؤمن بمحاولة تغيير نفسي، لكنني لا أريد أن ألزم نفسي بأي عهد» هو ذو عقلية ضعيفة ويظهر رغبة ماكرة في تجنب الالتزام بالعهد. وإلا فأين تكمن الصعوبة في اتخاذ القرار النهائي؟ أتعهد بالفرار من الأفعى التي أعرف أنها ستلدغني، لكنني لا أقوم ببساطة بمحاولة للهرب منها. أعلم أن المحاولة وحدها يمكن أن تجعلني ألقى حتفي. مجرد المحاولة يعني جهلي بالحقيقة المؤكدة بأن الأفعى ستقتلني. لهذا فحقيقة قناعتي بأنه يمكنني الاعتماد على المحاولة فقط، يعني أنني لم أدرك بعد ضرورة اتخاذ إجراء محدد. «لكن لنفترض أن رأيي اختلف في المستقبل، كيف يمكن أن ألزم نفسي بالعهد الذي أخذته على نفسي؟» كانت تلك الفكرة كثيرًا ما تحول دون اتخاذي لقراري النهائي. لكن ذلك الشك أيضًا يعكس الافتقار إلى إدراك واضح وهو أن هناك أمرًا يجب التخلي عنه. هذا ما عناه نيشكولانلاند حين أنشد:
وهكذا، عند التخلص من الرغبة، يكون التعهد بالتخلي عن ذلك الشيء هو النتيجة الطبيعية والحتمية.