بولاك يقبل المخاطرة
أتحسر دائمًا على عدم تمكني من الإقامة في المزرعة إلا لمدة قصيرة مع أنني من قام بإنشائها في فونيكس. كنت أعتزم في الأصل أن أتخلى تدريجيًّا عن ممارسة المحاماة، وأذهب للعيش فيها والتكسب من العمل بيدي، وأن أجد متعة الخدمة في فونيكس، لكن الإله لم يقدر لذلك أن يكون. اكتشفت من واقع خبرتي أن الإنسان يضع الخطط التي لا تلبث أن يغيرها الإله. لكن في الوقت ذاته نجد أن النتيجة لا تتأثر عندما يكون الهدف الأساسي هو البحث عن الحقيقة، وغالبًا ما تكون أفضل من المتوقع بغض النظر عن كيفية إحباط خطط الإنسان. فالتحول غير المتوقع الذي شهدته فونيكس والأحداث غير المتوقعة التي حدثت كانت بالطبع غير سيئة، لكن من الصعب القول إنها كانت أفضل من توقعاتنا الأساسية.
قسمنا الأرض التي تقع حول مبنى المطبعة إلى قطع تتكون كل منها من ثلاثة أكرات حتى يتمكن الجميع من كسب رزقه من العمل بيديه، وقد حصلت على إحدى قطع الأرض تلك، وقد اضطررنا إلى بناء منازل من الألواح الحديدية المُمَوَّجة على تلك الأراضي. كنا نرغب في بناء منازل من الطين وتزويدها بسقف من القش أو الحصى على غرار منازل الفلاحين، لكننا لم نستطع فعل ذلك؛ لأن بناء المنزل بهذه الطريقة سيكون أكثر كلفة ويستغرق وقتًا أطول، في حين كان الجميع متلهفين للاستقرار في أسرع وقت ممكن.
كان مانسوخلال نازار ما زال رئيس تحرير جريدة «الرأي الهندي»، فلم يقبل بالمشروع الجديد وظل يدير الجريدة من فرعها بدربان. ومع استئجارنا منضدين لحروف الطباعة في المطبعة، كانت الفكرة متاحة لجميع أفراد المزرعة لكي يتعلموا كيفية تنضيد حروف الطباعة، وهي أسهل عملية في طباعة الصحف ولكنها أكثر مللًا. ومن ثَمَّ، قمنا بتعليم الذين لا يعرفون كيفية العمل، وقد بقيت بليد الذهن حتى النهاية، فقد تفوق ماجنلال غاندي علينا جميعًا، وأصبح خبيرًا في التنضيد مع أنه لم يعمل في الطباعة من قبل، ولم يكن سريعًا فحسب، بل أدهشني بإتقانه لجميع أقسام عمل المطبعة الأخرى، ودائمًا ما رأيت أنه غير مدرك لما يتمتع به من قدرات.
كنا بالكاد قد استقررنا، وبالكاد انتهينا من تشييد المنازل عندما اضطررت لمغادرة ذلك العش حديث البناء والتوجه إلى جوهانسبرج؛ فلم يكن الوضع يسمح باستمرار العمل هناك دون إدارتي.
أخبرت بولاك فور عودتي إلى جوهانسبرج بالتغييرات المهمة التي أحدثتها، وكانت سعادته لا توصف عندما علم بأن الكتاب الذي أقرضني إياه أتى بتلك الثمار، فسألني: «هل يمكنني المشاركة في ذلك المشروع الجديد؟» فأجبته: «بالطبع يمكنك الانضمام للمزرعة إذا كنت ترغب في ذلك.» فقال لي: «أنا على أتم الاستعداد إذا سمحت لي بذلك.»
وقد جذب إصرار بولاك انتباهي، إذ قدم إلى رئيسه في العمل إخطارًا يفيد تركه للعمل في «جريدة الناقد» خلال شهر من تاريخه، وبالفعل وصل إلى فونيكس في الوقت المحدد. وقد استطاع بنزعته الاجتماعية أن يستحوذ على قلوب الجميع، وسرعان ما أصبح أحد أفراد العائلة. وكان يتسم بالبساطة، فقد تكيف على الحياة في فونيكس بسهولة بدلًا من أن يشعر بأن الحياة هناك غريبة أو شاقة. لكنني لم أستطع تركه يمكث طويلًا في المزرعة، فقد قرر السيد ريتش أن يكمل دراساته القانونية في إنجلترا، وكان من المستحيل أن أتحمل عبء العمل وحدي؛ لذلك اقترحت على بولاك أن ينضم إلى العمل بالمكتب ويتدرب ليصبح محاميًّا. وقد فكرت في أن كلًّا منا سيتقاعد في النهاية ويستقر في فونيكس، لكن ذلك لم يحدث قط. كان بولاك نزاعًا إلى الثقة بالآخرين، حتى إنه كان عندما يثق بأحد الأصدقاء، يحاول الاتفاق معه بدلًا من مناقشته. كتب لي ذات مرة من فونيكس يخبرني بأنه على استعداد للرحيل من المزرعة والانضمام للمكتب ليتدرب ليصبح محاميًّا مع حبه للحياة هناك وشعوره بالسعادة التامة وآماله بتطوير المزرعة إذا ما كان ذلك سيساعد على تحقيق أهدافنا بصورة أسرع. تلقيت تلك الرسالة بسعادة، وغادر بولاك المزرعة متوجهًا إلى جوهانسبرج، وحضر ليتدرب في مكتبي.
وفي نفس الوقت تقريبًا، التحق شخص ثيوصوفي من اسكتلندا يُدعى ماكينتير بالمكتب ليتدرب لديَّ عندما أخبرته بأن يحذو حذو بولاك، وكنت أعده لاجتياز أحد الاختبارات المحلية.
وهكذا بدا وكأنني أغوص بعمق أكثر فأكثر في التيار المعاكس مدفوعًا بالغاية المحمودة لتحقيق الأهداف المنشودة في فونيكس سريعًا. ولولا إرادة الإله، لوجدت نفسي محاصرًا في تلك الشبكة تحت اسم الحياة البسيطة.
وسوف أصور بعد بضعة فصول كيف نجوت أنا ومبادئي على نحو لم يتوقعه أحد أو حتى يتخيله.