معضلة روحانية
وصلني برقيتان فور وصول أخبار تقدمي وغيري من الهنود للخدمة في الحرب إلى جنوب أفريقيا. كانت البرقية الأولى من السيد بولاك الذي تساءل عن مدى توافق انضمامي للحرب مع إيماني بمبدأ الأهيمسا.
في واقع الأمر، كانت الأسباب التي دفعتني للمشاركة في حرب البوير هي ذات الأسباب التي جعلتني أقرر الاشتراك في هذه الحرب. كنت على دراية كاملة بأن الاشتراك في الحرب لا يتفق مطلقًا مع مبدأ الأهيمسا، لكن مهمة المرء لا تكون واضحة دائمًا، فكثيرًا ما يضطر الباحث عن الحقيقة إلى تلمس طريقه في الظلمات.
إن الأهيمسا هو مبدأ شامل، وما نحن إلا بشر عاجزون عالقون وسط نيران العنف (هيمسا). فالقول المأثور الذي يشير إلى أن الإنسان يحيا على حساب حياة الآخرين يحمل معنى عميقًا. فالإنسان لا يمكن أن يعيش دون أن يمارس عنفًا خارجيًّا، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد. إن حياة الإنسان في حد ذاتها — من مأكل ومشرب وتنقل — تشتمل بالضرورة على بعض العنف، أو تدمير لحياة الآخرين إذا صح القول. وهكذا نجد أن المخلص للأهيمسا يظل مخلصًا لمعتقده إذا كانت جميع أفعاله نابعة من عاطفته، وإذا ما نأى بنفسه قدر المستطاع عن تدمير المخلوقات الأضعف منه وحاول أن يحافظ عليها. ومن ثَمَّ هو يسعى باستمرار إلى التحرر من دائرة العنف المميت، وسوف يحرز تقدمًا في تحكمه في شهوات نفسه وتنميته للعاطفة، لكنه لن يستطيع أبدًا أن يتخلص من العنف الخارجي بالكلية.
ومرة أخرى نجد أن الفرد عندما يخطئ يؤثر خطأه على الجميع لأن أساس الأهيمسا هو وحدة الحياة مجتمعة، ولذلك لا يمكن أن يتحرر الإنسان كليًّا من العنف. فما دام الإنسان كائنًا اجتماعيًّا، لا يمكنه إلا أن يشارك في العنف الذي يستلزمه قيام المجتمع ذاته. عندما ينشب صراع بين دولتين، تكون مهمة المناصر لمبدأ اللاعنف أن يوقفه، أما من هو غير كفء للقيام بتلك المهمة أو من لا يقدر على مقاومة الحرب أو غير المؤهل لمقاومتها، فيمكنه أن يشارك في الحرب لكنه يعمل في الوقت نفسه وبصدق على تحرير نفسه وأمته والعالم أجمع من الحرب.
كنت آمل أنْ أحسن وضعي ووضع أبناء وطني بواسطة اللجوء إلى الإمبراطورية البريطانية. فعندما كنت في إنجلترا، كنت أنعم بحماية الأسطول البريطاني. وباحتمائي بقدرتها التسليحية، كنت أشارك بصورة مباشرة في العنف الذي يمكن أن تقوم به. لذلك وجدت نفسي أمام ثلاثة خيارات إذا ما أردت أن أحافظ على علاقتي بالإمبراطورية وأن أعيش تحت رايتها: كان الخيار الأول أن أعلن المقاومة الصريحة للحرب، وأن أقاطع الإمبراطورية وفقًا لمبادئ الساتياجراها إلى أن تغير الإمبراطورية من سياستها العسكرية. وكان الخيار الثاني أن أتسبب في إلقائي في السجن بتهمة العصيان المدني لقوانين الإمبراطورية التي أرى وجوب عصيانها. أما الخيار الثالث، فكان أن أشارك في الحرب إلى جانب الإمبراطورية ومن ثَمَّ أكتسب القدرة العقلية والبدنية اللازمة لمقاومة العنف الذي تنطوي عليه. وكنت أفتقر لتلك القدرة العقلية والبدنية، لذلك وجدت أنه ليس أمامي إلا الاشتراك في الحرب.
لا فرق في نظري بين الجنود المقاتلة وغير المقاتلة إذا ما نظرنا إلى الأمر من حيث مبدأ اللاعنف. فمن يتطوع للعمل لدى عصابة ما ناقلًا للأخبار أو كحارس في أثناء ممارستهم لأعمالهم الإجرامية أو يعمل على تمريضهم إذا أُصيب أحدهم، لا يقل جرمه عن أفراد العصابة أنفسهم. وكذلك الحال للذين يعملون على رعاية جرحى الحرب، فأيديهم لا تخلو من إثم الحرب.
لقد حدثت نفسي بتلك الأمور كلها، حتى قبل أن أستلم برقية بولاك، وفور أن تسلمت البرقية ناقشت تلك الآراء مع الكثير من الأصدقاء، وتوصلت إلى أن من واجبي أن أتقدم للخدمة في الحرب. وحتى في الوقت الحالي أرى أن ذلك القرار لم يكن خاطئًا، ولا أشعر بالندم على ما أقدمت عليه فقد كنت أرى جوانب إيجابية في الحفاظ على العلاقة مع إنجلترا.
أعلم أنه حتى في ذلك الوقت لم أستطع الحصول على تأييد جميع أصدقائي لموقفي. كانت المسألة شائكة. كان هناك مجال لاختلاف الآراء، ومن ثَمَّ بذلت كل ما في وسعي لتوضيح أسبابي لمن يؤمنون بمبدأ الأهيمسا ويبذلون جهودًا جادة لممارسته على مختلف المستويات الاجتماعية. إن الباحث عن الحقيقة لا يمكنه أن يقدم على أي فعل بدافع الخضوع للعادات المتبعة، بل عليه دائمًا وأبدًا أن يكون متفتحًا لقبول أي تعديل في سلوكياته، وأن يعترف بخطئه عندما يكتشفه مهما كانت العواقب.