الفصل السابع

كومب ميلا

توجهت بعد ذلك إلى رانجون لمقابلة الطبيب ميهتا، لكنني توقفت في الطريق في كلكتا. وهناك نزلت ضيفًا على الراحل السيد بهوبيندراناث باسو، وهنا تجلى كرم الضيافة البنجالية في أفضل صوره. كنت في تلك الآونة أتبع النظام الغذائي المقتصر على الفاكهة بصرامة، فأمر لي بكل أنواع الفاكهة والمكسرات المتوفرة في كلكتا، وظلت سيدات المنزل مستيقظات طوال الليل لانشغالهن بإزالة القشرة الخارجية للمكسرات المختلفة، وأَوْلَيْنَ عناية فائقة بإعداد الفاكهة النضرة بالطريقة الهندية، وأعددن عدة أطعمة شهية لرفاقي، ومن بينهم ابني رامداس. ومع تقديري لتلك الضيافة الكريمة، إلا أنني لم أستطع تحمل فكرة أن يتولى بيت بأكمله استضافة ضيفين أو ثلاثة ضيوف، لكنني لم أجد مفرًّا من تلك المجاملة المحرجة.

كنت مسافرًا على ظهر السفينة وأنا في طريقي إلى رانجون. وفي حين شعرنا بالخجل في منزل السيد باسو نتيجة لاهتمامه الزائد بنا، وجدنا أنفسنا في السفينة نعاني إهمالًا تامًّا، حتى تجاه وسائل الراحة الأساسية لركاب ظهر السفينة. فقد كان الحمام شديد القذارة، والمراحيض كانت كأنها بالوعات نتنة. فلكي يستخدم المرء المرحاض، كان عليه أن يخوض في القاذورات أو أن يقفز من فوقها.

كان الوضع فوق طاقة البشر، فتوجهت إلى كبير الموظفين، ولكن دون جدوى. وقد أسهم الركاب بعاداتهم السيئة في اكتمال تلك الصورة القذرة، فكانوا يبصقون في أماكن جلوسهم، وينثرون فضلات الطعام والسجائر وأوراق نبات التنبول في المكان. كانت الضوضاء تعم الأجواء، وكان كل راكب يحاول الحصول على أكبر مساحة ممكنة. وكانت الأمتعة تشغل حيزًا أكبر مما يشغله الركاب أنفسهم. وهكذا عانينا لمدة يومين في ظل تلك المحنة القاسية.

وقد كتبت خطابًا إلى وكيل شركة السفن عند وصولي إلى رانجون أخبره فيه بجميع الوقائع التي شاهدتها. وبفضل ذلك الخطاب وجهود الطبيب ميهتا، كانت رحلة العودة أفضل بقدْرٍ ما.

ومن جديد عاد نظامي الغذائي القاصر على الفاكهة ليمثل مشكلة لمضيفي، لكنني استطعت التحكم في ضخامة قائمة الطعام بعض الشيء نظرًا لأن منزل الطبيب ميهتا كان بنفس مستوى منزلي. لكن شهيتي وعيني رفضتا أن تضعا قيودًا فعلية على أنواع الأطعمة نظرًا لأنني لم أحدد عدد الأصناف التي يمكن أن أتناولها. لم يكن هناك ساعات محددة لتناول الطعام، لكنني كنت أفضل تناول العشاء قبل الغروب. ومع ذلك، لم يكن من الممكن تناول العشاء قبل الساعة الثامنة أو التاسعة.

كان ذلك في عام ١٩١٥م، وهو موعد انعقاد مهرجان كومب الذي ينعقد في هاردفار مرة كل اثني عشر عامًا. لم أكن أتوق إلى حضور المهرجان، لكنني كنت متلهفًا لمقابلة مهاتما مونشيرامجي الذي كان في المدرسة الروحانية الخاصة به. أرسلت الجمعية التي كان جوخلي ينتمي إليها عددًا كبيرًا من المتطوعين للخدمة في المهرجان، برئاسة السيد هريداياناث كونزرو، وبصحبة الطبيب ديف بصفته المسئول الطبي. وطُلب مني إرسال جماعة فونيكس لمساعدتهم، مما جعل ماجنلال غاندي يسبقني. وقد لحقت بالمجموعة عند عودتي من رانجون.

كانت الرحلة من كلكتا إلى هاردفار تحديدًا شاقة. وكنا أحيانًا ما نجد مقصورات منعدمة الإضاءة. وبداية من مدينة سهارنبور، جرى تكديسنا في عربات البضائع والماشية التي لم يكن لها أسقف. وقد أحرقنا لهيب شمس الظهيرة المتوهجة من فوقنا والأرضية الحديدية المتأججة من أسفلنا. ولم تستطع آلام العطش التي سببتها مثل هذه الرحلة إقناع الهندوس المتمسكين بالعادات الدينية بتناول الماء إذا كان من يد «مسلم». ويجب أن أشير إلى أن أولئك الهندوس أنفسهم لا يترددون لهذه الدرجة عندما يصف لهم الطبيب في أثناء مرضهم الخمر أو مرق لحم البقر، أو عندما يقدم لهم المسئول عن تركيب الأدوية الماء، مسلمًا كان أو مسيحيًّا.

علمتنا الإقامة في شانتينيكيتان أن أعمال النظافة ستكون مهمتنا الأساسية في الهند. نُصبت الخيام الخاصة بالمتطوعين في هاردفار في أحد المعابد التي توفر الإقامة والطعام مجانًا (الدهارماشالا)، وحفر الطبيب ديف بعض الحفر كي تستخدم كمراحيض. وكان عليه أن يستأجر عمال نظافة للاعتناء بتلك المراحيض. وهنا وجدت عملًا لمجموعة فونيكس، حيث عرضنا تنظيف المراحيض بالتراب وتولي مهمة التخلص من القاذورات. وقد قبل الطبيب ديف عرضنا بكل سرور. كنت أنا من تقدم بالعرض، لكن ماجنلال غاندي هو الذي تولى المهمة. كان عملي يتلخص في الجلوس في خيمتي، والظهور للناس وأن أجري مناقشات دينية وغير دينية مع العديد من الحجاج الذين كانوا يزورونني. وهكذا لم يتبق لديَّ وقت لأنفرد بنفسي؛ فقد كان أولئك الأشخاص الذين يرغبون في التبرك برؤيتي يتبعونني حتى مكان الاغتسال، ولم يتركوني حتى في أثناء تناول طعامي. وهكذا أدركت في هاردفار الانطباع العميق الذي خلفته خدماتي المتواضعة في جنوب أفريقيا عني في جميع أنحاء الهند.

وكنت في وضع لا أحسد عليه، فقد كنت في مأزق شديد. فعندما كنت غير معروف، كان عليَّ تحمل العناء الذي يعانيه الملايين من أبناء البلاد، أثناء السفر عبر السكك الحديدية على سبيل المثال. وعندما أصبحت محاطًا بالحشود التي سمعت بأمري، وقعت ضحية لجنونهم برؤيتي. كثيرًا ما كنت أتحير في تقرير أي الوضعين أسوأ. لكنني على الأقل أعرف أن الحب الأعمى من أولئك الأشخاص للتبرك برؤيتي كثيرًا ما أثار غضبي، وجعل قلبي يتألم. وذلك في حين كان السفر يرفع من معنوياتي مع المشقة الناتجة عنه، ونادرًا ما أدى إلى غضبي.

كنت في تلك الأيام من القوة بحيث أستطيع التجوال كثيرًا، ولحسن الحظ لم أكن معروفًا بالدرجة التي تجعلني أتسبب في جلبة كبيرة عند خروجي إلى الشوارع. وأثناء جولاتي لاحظت غفلة الحجاج ونفاقهم وقذارتهم أكثر مما لاحظت تقواهم. فقد بدا وكأن النساك المتواجدين هناك قد وُلدوا ليتمتعوا بملذات الحياة.

وهنا رأيت بقرة بخمس أقدام! اندهشت كثيرًا عند رؤيتي لذلك المشهد، لكن سرعان ما حررني رجال العلم من ذلك الوهم. إن البقرة ذات الأقدام الخمس كانت أضحية المخادعين الجشعين. وعلمت أن القدم الخامسة لم تكن إلا قدمًا قد أخذت من عجل حي وأُلحقت بالبقرة! وقد استخدمت تلك القسوة المزدوجة بغرض الاحتيال على الجهال. فلم يكن هناك هندوسي واحد يمكن ألا ينجذب لبقرة ذات خمسة أقدام. ولا يوجد هندوسي واحد يمكن أن يبخل بأمواله لشراء مثل تلك البقرة الخارقة.

وجاء يوم المهرجان. لقد كان ذلك اليوم يومًا مهمًّا لي. لم أكن قد ذهبت إلى هاردفار بهدف الحج؛ فلم أفكر قط في التردد على أماكن الحج للتحلي بالتقوى. لكن لا يمكن أن يكون ذلك الحشد المكون من مليون وسبعمائة ألف رجل كله من المنافقين أو مجرد زائرين للمكان، وكنت على يقين بأن رجالًا لا حصر لهم قد أتوا لنيل الثواب ولتزكية أنفسهم. إن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يعرف المرء إلى أي مدى يزكي مثل ذلك النوع من الاعتقاد الروح.

وهكذا أمضيت الليل بطوله غارقًا في التفكير. كان هناك تلك الأرواح التقية التي يحيط بها النفاق من كل جانب، لكن لا إثم عليهم أمام بارئهم. إن كانت زيارة هاردفار خطيئة في حد ذاتها، فيجب أن أعارضها علانية وأرحل عن المكان في يوم المهرجان. أما إذا كان الحج إلى هاردفار ومهرجان كومب ليس بخطيئة، فيجب أن أفرض على نفسي قيودًا تكفيرًا عن الآثام المتفشية هناك وأطهر نفسي. ولم يكن ذلك بالأمر الغريب عليَّ؛ فحياتي قائمة على القرارات التأديبية. أخذت أفكر في الإزعاج غير الضروري الذي سببته لمضيفيَّ في كلكتا ورانجون، الذين استضافوني بحفاوة، ولذلك قررت حصر الأصناف التي يشملها غذائي اليومي، وأن أتناول وجبة العشاء قبل الغروب. كانت لديَّ قناعة بأنه لو لم أفرض على نفسي تلك القيود، سأعرض بذلك مضيفيَّ لإزعاج كبير في المستقبل، وسوف أجعلهم ينشغلون بخدمتي بدلًا من أن أشغل نفسي بالخدمة. فأخذت عهدًا على نفسي بألا أتناول في اليوم أكثر من خمسة أصناف من الطعام، وألا أتناول الطعام بعد غروب الشمس، وفكرت بإمعان في الصعاب التي يمكن أن أواجهها، وكنت أريد ألا أترك ولو ثغرة واحدة، فأخذت أفكر فيما يمكن أن يحدث إذا ما أُصبت بمرض إذا اعتبرت الدواء من ضمن الأصناف الخمس، ولم أقم بأي استثناء لأصناف بعينها. وقررت في النهاية ألا أقوم بأية استثناءات تحت أي ظروف.

مر على التزامي بتلك العهود ثلاث عشرة سنة حتى الآن، وقد أخضعتني تلك العهود إلى اختبار قاسٍ، لكن أستطيع القول بأنها كانت بمثابة درعي الواقي. فأعتقد أن تلك العهود قد أبقت على حياتي لبضع سنوات إضافية، ونجتني من العديد من الأمراض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤