الأنشودة الخامسة

«… فبسطت ذراعَيها البيضاوَين حول ابنها العزيز، ونشرت أمامه طية من ردائها اللامع لتكون وقاية ضد القذائف، حتى لا يقذفه أحد الدانيين ذوي الجياد السريعة برمح البرونز، فيخترق صدره ويزهق روحه …»

كيف ألحق «ديوميديس»، بشجاعته الخارقة، أفدحَ الخسائرِ بالطرواديين، حتى لقد جرح «أفروديت» و«أريس»، بمساعدة الربَّة «أثينا» … إلخ.

مفاخر «ديوميديس»!

ومنحت الربة «أثينا» القوة والشجاعة لابن توديوس. حتى يبرهن على تفوقه أمام جميع الأرجوسيين ويظفر بالصيت والمجد. لقد أشعلت من خوذته وترسه لهبًا لا يخبو، أشبه بنجم الحصاد الذي يشرق أشد تألقًا من جميع النجوم الأخرى، حين يستحم في مجرى «أوقيانوس». أشعلت بذلك اللهب من رأسه وكتفيه، ثم أرسلته وسط جموع الرجال الكثيفة. وكان بين الطرواديين كاهن هيفايستوس المدعو «داريس». وهو رجل ثري، لا غبار على سلوكه، وكان له ولدان: «فيجيوس» و«أيدايوس»، الماهران في جميع أساليب القتال. وقد فصل هذان الرجلان نفسيهما عن الجيش واندفعا نحو «ديوميديس»، وهما في عربتيهما بينما كان هو يهجم وهو واقف على قدميه فوق الأرض. ولما تقدم ثلاثتهم، واقترب الواحد من الآخر، بدأ «فيجيوس» بقذف رمحه الطويل، فمرق من فوق كتف ابن توديوس الأيسر دون أن يصيبه! فهجم هذا برمحه البرونزي الذي لم ينطلق عبثًا من يده. بل أصاب عدوه في صدره بين ثدييه، وطوح به على العربة! فقفز أيدايوس إلى الوراء، تاركًا العربة الجميلة، ولم تكن لديه الشجاعة ليخطو فوق جثة أخيه. كما أنه لم يكن لينجو من القدر الأسود، لولا أن هيفايستوس كان يحرسه فأنقذه، ولفه في ظلمة حتى لا يموت كاهنه العجوز — والد الفتى — كمدًا! ومع ذلك فقد دفع ابن توديوس المقدام الخيول إلى الأمام، وسلمها إلى زملائه ليأخذوها إلى السفن الخاوية. بيد أن الطرواديين ذوي النفوس العالية، ما إن أبصروا ولدَي داريس، يفر أحدهما ويخر الآخر صريعًا بجانب العربة، حتى امتلأت قلوبهم جميعًا باليأس. فأمسكت أثينا البراقة العينين بأريس الثائر من يده وقالت له: «أي أريس، يا أريس، يا جالب الشقاء على البشر، يا ناسف الحوائط الملطخ بالدماء، أما آن لنا أن نترك الآن الطرواديين والآخيين يتقاتلون، حتى يمنح الأب زوس المجد لمن يشاء منهما؟ هيا بنا نتنحَّى ونتحاشى غضب زوس!»

قالت ذلك وقادت أريس الهائج بعيدًا عن المعركة. ثم جعلته يجلس فوق الشواطئ الرملية لسكاماندر، ففرَّ الطرواديون أمام الدانيين، وقتل كل قائدٍ رجلًا من الأعداء، فانقض «أجاممنون» ملك البشر على أوديوس العظيم، قائد «الهاليزونيس»، فرماه بعيدًا عن عربته، وكان قد استدار بادئ ذي بدء ليفر، فغرس القائد رمحه في ظهره بين كتفيه ودفعه إلى داخل صدره، فسقط محدثًا صوتًا، وصلصلت من فوقه عدته الحربية.

وقتل أيدومينيوس «فايستوس»، ابن بوروس، الميوني، الذي قدم من تارني العميقة التربة، بينما كان يعتلي عربته؛ إذ طعنه برمحه الطويل طعنةً اخترقت كتفه اليمنى، فسقط من عربته تغشاه ظلمة رهيبة. وبعد ذلك شرع خدم أيدومينيوس يجرِّدونه من حلته الحربية.

وقتل مينيلاوس بن أتريوس — برمحه الحاد — «سكاماندريوس»، ابن ستروفيوس، الماكر في القنص، وكان مشهورًا بكونه صيادًا عظيمًا؛ لأن ربة الصيد «أرتيميس» نفسها قد علَّمته كيف يضرب كل متوحش مما تغذيه الغابة الجبليَّة. ومع ذلك فلم تنفعه «أرتيميس»، ولا كل تلك المهارة في الرماية التي تفوَّق فيها منذ القدم، فضربه مينيلاوس بن أتريوس، وهو يطلق العنان لقدميه أمامه، بطعنةٍ من رمحه في ظهره، ما بين كتفَيه، انغرس الرمح على أثرها في صدره غرسًا، فانكفأ على وجهه وصلصلت فوقه حلته الحربية.

وقتل ميريونيس١ «فيريكلوس»، ابن تيكتون، ابن هارمون الماهر اليدين في صناعة كل نوعٍ من الأعمال الغريبة؛ لأن الربة أثينا أحبته أكثر من جميع البشر. وكان هو الذي شيد السفن الجميلة لباريس، مصدر الشرور، وجالب الدمار على جميع الطرواديين، وعلى نفسه؛ إذ لم يعلم قط وحي الآلهة. وقد راح ميريونيس يطارده، حتى أدركه، فضربه في عجزه الأيمن، فنفذ طرف الرمح مارقًا حتى وصل إلى المثانة تحت العظم، فجثا على ركبتَيه صارخًا، وهو يتردَّى.
وقتل «ميجيس» بيدايوس، ابن «أنتينور». وكان، حقًّا، ابن سفاح، ومع ذلك فقد نشأته «ثيانو»٢ بعناية كأحد أطفالها تمامًا، كي تبهج زوجها، فاقترب منه ابن فوليوس الشهير برمحه، وعاجله بضربةٍ من الرمح الحاد على قفاه، فنفذ الرمح بين الأسنان وجز اللسان من جذره. وهكذا سقط يتخبَّط في الثرى، وعض بأسنانه على الرمح البرونزي البارد.
وقتل «يوروبلوس»،٣ ابن يوايمون، «هوبسينور» العظيم، ابن «دولوييون» الجريء القلب، الذي عين كاهنًا لسكاماندر، وكان القوم يبجلونه كإله، فانقضَّ عليه يوروبلوس، وهو يفر أمامه، وفي منتصف الطريق هوى على كتفه بسيفه فبتر ذراعه الثقيلة؛ ومن ثم سقطت الذراع الدامية على الأرض، وخيم الموت القاتم والفضاء العاتي على عينيه.

هكذا كانوا يشقون في الصراع العنيف، أما ابن توديوس، فما كان في مقدورك أن تقول إلى أي الجيشين انضم: هل تبع الطرواديين أم الآخيين! إذ انقض عبر السهل كأنه سيل الشتاء في أقصى قوته، يكتسح بفيضانه السريع الجسور، ولا تستطيع الجسور المتينة أن تقف في طريقه، ولا حتى أسوار بساتين الكروم المثمرة يمكنها أن تصدَّ قدومه المفاجئ عندما تدفعه أمطار زوس دفعًا، فتنهار أمامه أعمال البشر الرائعة. محطمة! هكذا اكتسح ابن توديوس أمامه كتائب الطرواديين الكثيفة، في فوضى، وما كان في وسعهم أن يقاوموه رغم كثرة عددهم!

بيد أنه عندما انتبه له ابن لوكاون٤ المجيد، وهو يسير عبر السهل يدفع أمامه الكتائب في فوضى، أسرع في الحال يسدِّد قوسه المقوسة نحو ابن توديوس، فأحكم التصويب ورماه وهو يهجم إلى الأمام في كتفِه اليمنى، على صفحة درقته، فانطلق السهم المرير خلالها لا يحيد عن طريقه حتى تلطخت الدرقة بالدماء. عندئذٍ صاح ابن لوكاون المجيد قائلًا: «فلتنهضوا، أيها الطرواديون ذوو النفوس العالية، يا من تحثون خيولكم. لقد أصيب خير رجل بين الآخيين، وإني لَأعتقد أنه لن يقوى طويلًا على احتمال ذلك السهم القوي.»

هكذا تكلَّم مزهوًّا، ومع ذلك فإن «ديوميديس» لم يصرعه السهم السريع، ولكنه انسحب إلى الوراء، ووقف أمام خيوله وعربته، وقال لسينيلوس، ابن كابانيوس: «هيا، يا ابن كابانيوس الطيب، انزل من العربة، كي يمكنك أن تخرج من كتفي هذا السهم الفظيع.»

وإذ ذاك وثب سثينيلوس من عربته إلى الأرض، ووقف إلى جواره، وجذب السهم المغروس في كتفه فتدفق الدم على الحلة المثناة. وعندئذٍ تضرع ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، قائلًا: «استمعي إليَّ، يا ابنة زوس حامل الترس،٥ يا دائمة اليقظة دون كللٍ ولا ملل! لو حدث أنكِ وقفت، بنية حسنة، إلى جانب أبي وسط معمعة القتال، فاشفقي عليَّ أيضًا يا «أثينا». قدري لي أن أقتل هذا الرجل، واجعليه يأتي في مدى مرمى رمحي، ذلك الرجل الذي ضربني ولم أكن منتبهًا له وهو يفخر عليَّ، ويُعلن أنني لن أرى ضوء الشمس الساطع مدةً طويلة.»

هكذا قال في تضرعه، وسمعته الربة «أثينا» فجعلت أطرافه خفيفة، ورفعت قدميه ويديه، ثم اقتربت منه وتحدثت إليه بكلمات مجنحة قائلة: «كن شجاعًا الآن يا ديوميديس، كي تقاتل الطرواديين؛ لأنني وضعت في صدرك قوة أبيك، تلك القوة التي لا تُقهر، كتلك القوة التي كان يتمنَّاها الفارس «توديوس»، حامل الترس. وفضلًا عن هذا، فقد رفعت الغمامة من على عينيك، تلك التي كانَت عليهما من قبل، حتى يصبح في مقدورك أن تبصر جيدًا، على السواء، الآلهة والبشر، وعلى ذلك فإذا جاء إلى هنا أي إله ليجربك، فحذار، بأية حال من الأحوال، أن تقاتل أي إله من الآلهة الخالدين، وجهًا لوجه، إلا إذا دخلت المعركة الربة «أفروديت»، ابنة زوس، فعندئذٍ اضربها بطعنةٍ من رمحك البرونزي الحاد.»

وما إن نطقت الربة أثينا البراقة العينين بهذا القول، حتى انصرفت. فعاد ابن توديوس، واختلط من جديد بمحاربي الصفوف الأولى. وبالرغم من أن قلبه كان يتوق من قبل إلى مقاتلة الطرواديين، فقد استولى عليه الآن حماس يُوازي ثلاثة أضعاف ما كان يتولَّاه من قبل. حماس كالذي يعتري أسدًا جرحه راعٍ يحرس خرافه الكثة الفراء، وهو يقفز فوق سور حظيرة الخراف، ولكنه لم ينهزم، بل استثيرت قوته، فهو لا يقوم بأي دفاع، وإنما يتسلل وسط مباني المزرعة، فيدب الهرج والمرج بين القطيع غير المحروس، وتجتمع الخراف جماعات، كل قطيع بجانب الآخر، ولكن الأسد الثائر يقفز من فوق الحظيرة العالية. وهكذا، بمثل هذه الثورة هجم ديوميديس القوي على الطرواديين، ثم قتل بعد ذلك كلًّا من «إستونوس» و«هوبايرون»، راعيَي الجيش؛ إذ ضرب أحدهما فوق ثديه بطعنةٍ من رمحه المطعم بالبرونز، بينما هوى على الآخر بحسامه العظيم فوق عظم الترقوة من جانب الكتف ففصل الكتف عن العنق وعن الظهر. ثم ترك هذين ومضى في طريقه يقتفي أثر «أباس» و«بولودوس»، ابنَي العجوز «يوروداماس» مفسر الأحلام، فلم يعودا بعد ذلك ليفسر لهما أبوهما العجوز الأحلام، بل قتلهما ديوميديس المغوار، ثم استمر يتعقب «كسانثوس» و«ثوون»، ابنَيْ «فاينويس» المحبوبين، وقد هدت الشيخوخة المؤلمة قوى أبيهما، فلم ينجب ولدًا آخر يتولى رعاية ممتلكاته. قتلهما ديوميديس هناك وسلبهما الحياة الغالية، وخلف لأبيهما البكاء والحزن الممض؛ إذ لم يعيشا له ليرحب بعودتهما، فاقتسم أقرب أقربائه الممتلكات فيما بينهم!

وبعد ذلك انبرى «ديوميديس لولدي بريام بن داردانوس»: «أيخيمون» و«خروميوس»، وكانا في عربةٍ واحدة. وكما يثب الهزبر وسط الأبقار ويكسر عنق عجل أو بقرة وهي ترعى في مرج الغابة، هكذا أيضًا طعن ابن توديوس هذين بوحشيَّة، فأوقعهما من عربتهما على الرغم منهما، ثم جردهما من حلتيهما الحربيتين، وأعطى الخيول لرفقائه ليسوقوها إلى السفن.

مصرع «بانداروس» وإصابة أفروديت!

وإذ رأى «أينياس»٦ كيف أشاع ديوميديس الفوضى بين صفوف المحاربين، مضى خلال أرض المعركة بين قذف الرماح يبحث عن «بانداروس»٧ بن لوكاون شبيه الإله، عسى أن يجده في مكانٍ ما. فلما التقى بهذا المحارب المقدام، وقف أمامه وتحدث إليه قائلًا: «أي بانداروس، أين قوسُك الآن، وسهامُك المجنحة، وصيتك؟ ما من أحدٍ في هذه البلاد يستطيع الوقوف أمامك، ولا يسع أي فرد في لوكيا أن يعلن تفوقه عليك، فتعال الآن، وارفع يديك بالصلاة لزوس. ثم أطلق رمحًا على ذلك الرجل — مهما كانت له الغلبة بهذا الشكل — فإنه قد سبب للطرواديين كثيرًا من الآلام؛ إذ كم من رجل عظيم فكك له ركبتيه، إلا إذا كان هو في الحقيقة أحد الآلهة الغاضبين من الطرواديين. الغاضبين بسبب الذبائح، فإن غضب الآلهة ينزل ثقيلًا على العالمين!»

فرد عليه ابن لوكاون بقوله: «يا أينياس، يا مستشار الطرواديين ذوي الحلل البرونزية، إنني أعرفه من ترسه وخوذته ذات الخصلة، كما أعرفه عندما أرى جياده، ومع ذلك فلست أعلم على وجه التحقيق ما إذا كان إلهًا. وأعتقد أنه لا يستطيع الظفر بهذه المفاخر بدون مساعدة أحد الآلهة، ولا بد أن أحد الخالدين يحميه ويقف بالقرب منه، متخفيًا في طيات سحابة؛ ومن ثم فقد نحى عنه رمحي السريع بمجرد أن ومض! فلقد أطلقت رمحي بالفعل نحوه، وهويت بضربة على كتفه اليمنى فوق صفحة درقته، وظننت أنني قد أرسلته إلى العالم السفلي، بيد أنني لم أصرعه! حقًّا أنه ولا بد أحد الآلهة الغاضبين! وأنا لا أملك هنا عربة ولا خيولًا أركبها، ومع ذلك فإن لي، في قصر أبي «لوكاون»، إحدى عشرة عربة جميلة، جديدة الصنع والأثاث، نشرت فوقها الأغطية، وإلى جانب كلٍّ منها جوادان مكتنزان من أكل الشعير الأبيض والجويدار. وقد حدث قبيل رحيلي من هناك أن ألح عليَّ الرماح العجوز لوكاون في قصره المتين البناء أن أعتليَ عربةً وجوادًا، وأقود الطرواديين إلى معارك طاحنة. غير أنني لم أطعه — وليتني أصغيت إليه! — وإن كنت أبيت استخدام الجياد خشية أن ينقصها العلف في المدينة المحاصرة، وهي التي اعتادت الغذاء الكافي؛ ولذا تركتها وذهبت سائرًا على قدمَي إلى طروادة، معتمدًا على قوسي، لكن القوس، كما بدا لي، لم تنفعني بشيء. فلقد أطلقت بها سهمين صوب القائدين «ابن توديوس»، و«ابن أرثيوس» أصابا كليهما بطعنة نجلاء، وانبثق الدم منهما يقينًا، ولكني مع ذلك لم أفعل سوى زيادة إثارتهما؛ ولذا كان أخذي قوسي المعقوفة من على المشجب، مصحوبًا بسوء الحظ في ذلك اليوم الذي قدت فيه رجالي من الطرواديين دفاعًا عن مدينتنا الجميلة، كي أبهج هكتور. ولكن لو كان لي أن أعود وترى عيناي وطني وزوجتي والقصر المنيف المرتفع السقف، فهل لأحد الأجانب أن يقطع رأسي في الحال إن لم أحطم هذه القوس بيدي وألقها في النار المتأججة، إذ كانت كالريح عديمة النفع لي؟!»

عندئذٍ تحدث أينياس مجيبًا قائد الطرواديين بقوله: «كلا. لا تتكلم هكذا، فلن تستقيم الأمور بحال ما قبل أن نذهب معًا بالجياد والعربة لمواجهة هذا الرجل، ونعجم عودة السلاح، هيا، تعال معي، هيا إلى ظهر عربتي حتى ترى من أي نوعٍ هي جياد «تروس»، البارعة في العدو السريع جيئة وذهابًا في السهل، وهي تكر وتفر. ولسوف تصل بنا سالمين إلى المدينة وتنقذنا، حتى لو كتب زوس النصر مرة أخرى لديوميديس بن توديوس. تعال إذن وخذ السوط والأعنة اللامعة، بينما أنزل أنا إلى حومة القتال، أو فلتستعد أنت لهجمته، وأعني أنا بالجياد!»

فأجابه ابن لوكاون العظيم قائلًا: «احتفظ بالأعنة يا أينياس، وقُد جيادك بنفسك، فإنها عندئذٍ ستتفانى في العَدْو بالعربة المقوسة تحت قيادة سائقها المعتاد، لو اضطررنا إلى الفرار أمام ابن توديوس. وإلا فقد يتملكهما الذعر وتحرن إذا لم تسمع صوتك فلا تسرع بالابتعاد بنا عن المعركة، وعندئذٍ يهجم علينا ابن توديوس العظيم النفس، ويصرع كلينا، ويستولي على جيادنا الوحيدة. هيا، قُد بنفسك عربتك وجيادك، أما أنا فسأستعد لهجمة هذا الرجل برمحي الحاد.»

وما إن قال هذا حتى اعتليا ظهر العربة المطعمة، وقادا الجياد السريعة بحماسٍ صوب ابن توديوس، فأبصر بهما «سثينيلوس»، الابن المجيد لكابانيوس فأسرع يحذر ابن توديوس بكلمات خاطفة قائلًا: «أي ديوميديس، يا ابن توديوس، أيها المحبب إلى نفسي، أرى اثنين من المحاربين المغاوير يتوقان إلى قتالك، وقد زودا بقوة لا حد لها. أحدهما بارع في استخدام القوس. هو بانداروس، الذي يجهر بأنه ابن لوكاون، بينما يدعي أينياس أنه ابن أنخيسيس المنقطع النظير، وأمه أفروديت. هيا، تعال معي نتحصَّن في العربة، وأرجوك ألَّا تتهوَّر بالاندفاع وسط مقاتلي الصفوف الأولى، خشية أن تفقد حياتك!»

عندئذٍ حدجه ديوميديس بنظرة غضبٍ من تحت حاجبَيه وقال: «لا تحدثني عن الفرار قط، فلن يجول بخاطري أن تحثني عليه، وما جبلت على القتال الخفي أو الهرب، فما زالت قوتي ثابتة. وليس في نيتي أن أركب عربة، بل سأذهب لمواجهتها كما أنا، وأعتقد أن الربة أثينا لن تحتمل جبني. أما هذان، فلن ترجع بهما جيادهما السريعة من عندنا. حتى ولو قبضت النجاة لأحدهما أو للآخر! وسأقول لك شيئًا آخر، فاحفظه عني في قلبك: لو منحتني أثينا، التي تفيض حكمة، شرف قتل كليهما، فهل لك أن تحتفظ هنا بهذه الجياد السريعة، وتربط الأعنة بقوة إلى جانب العربة. ولا تنسَ أن تهجم على جياد أينياس، وتنطلق بها من عند الطرواديين إلى جيش الآخيين المدرعين جيدًا. فإنها من نفس القطيع الذي أعطى منه زوس، الذي يدوي صوته إلى بعيد، بعض الجياد إلى «تروس» تعويضًا له عن ابنه «جانوميديس»،٨ لأنها أكرم جميع الجياد التي يضيء فوقها الفجر وتشرق عليها الشمس. ومن هذا القطيع سرق «أنخيسيس»، ملك البشر، السلالة، بأن وضع أفراسه وسطها دون علم «لاوميدون»، فولد له من هذه في قصره ستة جياد، احتفظ لنفسه بأربعة منها، رباها في حظيرته. أما الجوادان الآخران فقد أعطاهما لأينياس، فكانا مثيري الشغب، فلو استطعنا القبض على هذين الرجلين، نلنا شهرة فائقة.»

هكذا كانا يتكلمان في هذا الأمر، أحدهما إلى الآخر، وسرعان ما اقترب منهما الآخران يقودان الجوادين السريعين. فتحدث إليه ابن لوكاون المجيد أولًا بقوله: «أيا ابن توديوس الجليل، أيها المقدام الحكيم القلب، حقيقة أن سهمي السريع لم يخضعك، ذلك السهم المرير، لكني سأختبرك الآن برمحي، لعلي أن أصيبك!»

قال هذا، ثم اعتدل وقذف بالرمح الطويل الظل، فأصاب ترس ابن توديوس، وفي الحال اخترق طرف الرمح البرونزي الترس ووصل إلى درقته. فصاح عندئذٍ ابن لوكاون المجيد قائلًا: «لقد أصبتك في صميم أحشائك وأظن أنك لن تتحمل طويلًا، ولكنك منحتني مجدًا عظيمًا.»

فرد عليه ديوميديس القوي، غير هباب ولا وجل، قائلًا: «لقد أخطأت يا هذا ولم تصب، وأعتقد أن كليكما لن يكف عن القتال حتى يسقط أحدكما أو الآخر، ويعب من دمه «أريس»٩ ذو الترس الصلب المصنوع من الجلد.»

قال هذا ثم قذف، فوجهت أثينا الرمح صوب أنف خصمه بجانب العين، فمرق من بين أسنانه البيضاء. وهكذا اجتث البرونز العنيد لسانه من أصله، ونفذ طرف الرمح بجانب قاعدة الذقن. فسقط ابن لوكاون خارج العربة وصلصلت من فوقه حلته البراقة المتألقة، فانتحت الجياد السريعة الأقدام، جانبًا، وانتهت بذلك حياته وصعدت روحه.

وإذ ذاك قفز أينياس من العربة إلى الأرض بالترس والرمح الطويل، وقد اعتراه الخوف من أن يأخذ منه الآخيون القتيل. فوقف فوقه مباعدًا ما بين ساقيه كأسد واثق من قوته، وجعل رمحه وترسه المتزن من كل جانب أمام وجهه، تواقًا إلى قتل كل من تسول له نفسه أن يمسك بالجثة، وكان يصرخ صرخات مفزعة. غير أن ابن تيديوس أمسك حجرًا في يده — وكانت مهمة شاقة — حجرًا ينوء بحمله رجلان من رجال اليوم، ومع ذلك فقد شرع يلوح به وحده بخفة، ثم ضرب به أينياس عند الحَقْو حيث يتصل الفخذ بمفصل الحَقْو، فحطم الحجر المسنن عظم الحوض، ومزق الجلد، وعندئذٍ سقط المحارب جاثيًا على ركبتيه، وظل هكذا، يرتكز بيديه القويتين على الأرض، ثم خيم الليل المظلم فوق عينيه!

وعندئذٍ كان لملك البشر، أينياس، أن يموت، لولا أن ابنة زوس، أفروديت، كانت سريعة الملاحظة — ولا عجب فهي أمه التي أنجبته من أنخيسيس حينما كان يرعى قطيعه — فبسطت ذراعيها البيضاوين حول ابنها العزيز، ونشرت أمامه طية من ردائها اللامع لتكون وقاية ضد القذائف، حتى لا يقذفه أحد الدانيين ذوي الجياد السريعة برمح من البرونز، فيخترق صدره ويزهق روحه.

غير أن ابن كابانيوس١٠ لم ينسَ الأوامر التي أصدرها إليه ديوميديس البارع في صيحة الحرب، فأخذ جياده التي غدت وحيدة وأبعدها عن الضوضاء، وشد الأعنة إلى حافة العربة، ثم هجم على جوادي أينياس الجميلي العرف، وقادهما من عند الطرواديين إلى جيش الآخيين المدرعين جيدًا، وسلمهما إلى «دايبولوس»، زميله العزيز، الذي كان يبجِّله أكثر من جميع رفقاء صباه؛ لأنه كان يعدله في العقلية، وأمره بأن يقودهما إلى السفن الخاوية. ثم ركب المحارب عربته وأمسك بالأعنة اللامعة، وفي الحال قاد جواديه القويي الأظلاف، متلهفًا للبحث عن ابن توديوس. وكان هذا — في تلك الأثناء — قد ذهب في أعقاب الربة «كوبريس» يحمل رمحه البرونزي القديم الذي لا يرحم، مدركًا أنها ربةٌ ضعيفة، وليسَت واحدةً ممن يسيطرون على قتال المحاربين — فإنها لم تكن أثينا، ولا أينيو،١١ مخربة المدن — وما إن لحق بها بعد أن طاردها خلال الحشد العظيم، حتى قذفها ابن توديوس العظيم النفس برمحه الحاد، ووثب عليها فجرح سطح يدها الرقيقة، وفي الحال نفذ السهم خلال الثوب العطري الذي صنعته لها ربات الفتنة أنفسهن، واخترق اللحم عند الرسغ، في أعلى راحة اليد، فتدفَّق دم الربة الخالد، مثل المصل الذي يجري في عروق الآلهة المباركين؛ لأنهم لا يأكلون الخبز ولا يشربون الخمر الصهباء، ولذلك فإنهم بلا دماء ويدعون الخالدين.

فصاحت صيحة عالية، سقط في أثرها ابنها، فالتقطه الإله أبولو بين ذراعيه، وأنقذه ولفه في سحابة دكناء خشية أن يقذف أحد الدانيين ذوي الجياد السريعة رمحًا من البرونز إلى صدره ويزهق روحه. وعندئذٍ صاح ديوميديس البارع في صيحة الحرب، بأعلى صوته، قائلًا: «ابتعدي، يا ابنة زوس، عن الحرب والقتال. ألا يكفيك أنك تخدعين النساء الضعيفات؟ إنك إذا دخلت المعركة فسوف ترتعدين لمجرد سماع اسمها من مسافة بعيدة!»

وإذ قال هذا، انصرفت هي مذهولة وقد أمضها الحزن البالغ، فأخذتها أيريس السريعة القدمين بعيدًا عن الحشد، معذبة بالألم، وقد اسود لحمها البض. وسرعان ما وجدت «أريس» الثائر واقفًا عن يسار المعركة، يتكئ برمحه على سحابة، وبقربه جواداه السريعان. عندئذٍ جثت على ركبتيها. وتوسلت في الحال إلى أخيها العزيز أن يعطيها جواديه ذوي الغرة الذهبية، قائلة: «شقيقي العزيز، أغثني، وأعطني جواديك، حتى أتمكن من الوصول إلى أوليمبوس مسكن الخالدين؛ فقد أصابني رجل من البشر بجرح يؤلمني أشد الألم، إنه ابن تيديوس، الذي يستطيع أن يقاتل الآن حتى مع الأب زوس!»

هكذا قالت، فأعطاها أريس جياده ذات الغرة الذهبية، فاعتلت ظهر العربة، بقلب شارد، وإلى جوارها صعدت أيريس وأمسكت الأعنة بيديها، ثم لمست الجياد بالسوط لتبدأ بالتحرك، وعندئذٍ لم يمنع أي شيء الجوادين من العدو قدمًا، وبسرعة وصلت الربتان إلى مسكن الآلهة، إلى أوليمبوس المنحدر، حيث أوقفت أيريس، التي تحاكي قدماها سرعة الريح، الجوادين، ثم فكتهما من العربة، ووضعت أمامهما طعامًا إلهيًّا، ولكن أفروديت الحسناء ألقت بنفسها على ركبتي أمها «ديوني»، فضمت الأم ابنتها بين ذراعيها، وربتت عليها بيدها ثم تحدثت إليها قائلة: «والآن، من من أبناء السماء، يا طفلتي العزيزة، قد عاملك هكذا بطيش، كما لو كنت قد أتيت نكرًا أمام الجميع؟»

فردت عليها أفروديت المولعة بالضحك قائلة: «جرحني ابن توديوس، «ديوميديس» الجريء القلب؛ وذلك لأنني كنت أحمل ابني العزيز أينياس، بعيدًا عن القتال، ذلك الذي هو أعز في عيني من سائر البشر؛ لأن الحرب الشعواء لم تعد حربًا بين الطرواديين والآخيين فحسب؛ إذ أن الدانيين يتقاتلون الآن، حتى مع الخالدين.»

فأجابتها ديوني، الربة الفاتنة، بقولها: «تشجعي، يا طفلتي، واحتملي آلامك؛ لأن كثيرين منا نحن الساكنين فوق أوليمبوس، قد نالهم الأذى على يد البشر، بأن جلب بعضهم المصائب المحزنة على البعض الآخر. وهكذا عانى «أريس» عندما كبله «أوتوس» و«إيفيالتيس» القوي — أبناء ألويوس — بالأصفاد القاسية، فرقد مغلولًا في زنزانة من البرونز ثلاثة عشر شهرًا، وعندئذٍ كان لا بد أن يهلك أريس، الذي لا يملُّ القتال، لولا أن «أيريبويا» الفاتنة، زوجة أبي ولدي ألويوس، أخبرت هيرميس — رسول الآلهة — فسرق أريس، الذي كان وقتئذٍ مكروبًا غاية الكرب؛ إذ كانت تؤلمه قيوده المحزنة. وهكذا تألمت هيرا عندما أصابها ابن أمفتريون القوي بسهم ذي ثلاثة أسنة فوق ثديها الأيمن، فألمَّ بها ألم لا يمكن تخفيفه بأية حالٍ من الأحوال. وهكذا أيضًا عانى «هاديس» المتوحش، كما عانى غيره، من سهم مرير، يوم أن ضربه نفس هذا الرجل — ابن زوس حامل الترس — في «بولوس»، وسط الأموات، وتركه نهبًا للآلام. بيد أنه ذهب إلى منزل زوس وإلى أوليمبوس الشاهق بقلبٍ مثقلٍ بالحزن، مفعمٍ بالآلام؛ لأن السهم اخترق كتفه القوية، وأزعج روحه، ولكن «بايون» نثر على الجرح عقاقير تقتل الألم، أدت إلى شفائه؛ لأنه لم يكن في الحقيقة من الجنس البشري، بل كان إلهًا متهورًا، يقوم بأعمال العنف، ولا يكف عن الشرور، حتى لقد أثار بسهامه حفيظة الآلهة التي تقطن في أوليمبوس. ذلك هو الشرير الذي سلطته عليك الربة أثينا، ذات العينين النجلاوين. وإنها لَحماقةٌ من ابن توديوس ألَّا يعرف أن من يُقاتل الخالدين لا يعمر طويلًا، ولا يلتف أطفاله حوله عندما يعود من الحرب والمعارك الطاحنة المفزعة. والآن دعي ابن توديوس، رغم ما هو عليه من قوة، أن يكون على حذرٍ خشية أن يقاتله مَن هو أقوى منك. وقد لا يمضي وقت طويل حتى توقظ «إيجاليا» ابنة أدراستوس الحكيمة، أهل بيتها من نومهم، بنواحها المتواصل وهي تبكي زوجها الذي اقترنت به، والذي هو خير رجلٍ بين الآخيين، إنه «ديوميديس» مستأنس الخيول.»

قالت هذا، وأخرجت المصل بكلتا يديها من الذراع، فشفيت الذراع، وزالت الآلام المبرحة، ولكن ما إن أبصرتها أثينا وهيرا، حتى انطلقتا تغضبان زوس، ابن كرونوس، بألفاظ السخرية. وكانت الربة ذات العينين البراقتين هي أول من قالت: «أبي زوس، هل تغضب مما سأقوله لك؟ من المؤكد الآن أن «كوبريس» كانت تحث إحدى الآخيات على تعقب الطرواديين الذين تحبهم الآن حبًّا عجيبًا، وبينما هي تعانق إحدى نساء آخيا الجميلات الملبس، خدشت يدها الرقيقة في دبوسها الذهبي.»

وإذ قالت ذلك، ابتسم أبو البشر والآلهة، واستدعى أفروديت الذهبية وقال لها: «لم تُجعل أعمال الحرب لكِ يا طفلتي، كلا، بل عليكِ أن تسعي وراء شئون الزواج المحبوبة، أما شئون القتال كلها فستكون مهمة أريس السريع وأثينا.»

هجوم مضاد من «طروادة»!

وبينما كانوا يتحدثون هكذا، الواحد إلى الآخر، هجم «ديدميديس»، الماهر في صيحة الحرب، على أينياس، ولما كان يعلم أن أبولو نفسه كان يحميه ويبسط ذراعيه فوقه، كأنه لم يشعر بأي خوف من الإله العظيم، بل كان لا يزال مصممًا على قتل أينياس وتجريده من عدته الحربية المجيدة. فهجم عليه ثلاث مرات، يريد في حماس أن يقتله، ولكن في كل مرة، كان أبولو يدفع ترسه اللامع إلى الوراء، غير أنه عندما هجم عليه للمرة الرابعة، صاح فيه أبولو الذي يضرب من بعيد صيحة مفزعة، قائلًا: «فكر، يا ابن توديوس، واهرب، لا تضع نصب عينيك أن تكون روحك كروح الآلهة، ما دام عنصر الآلهة لا يشبه بأية حال عنصر البشر الذين يسيرون فوق الأرض!»

فلما قال هذا، تراجع ابن توديوس إلى الوراء قليلًا، اجتنابًا لغضب أبولو الذي يضرب من بعيد، وبعدئذٍ أخذ أبولو أينياس بعيدًا عن الحشد إلى بيرجاموس المقدسة حيث أقيم معبده، فعالجته هناك الربتان «ليتو» و«أرتيميس» حاملة القوس، في المحراب الكبير، ومجدتاه، غير أن أبولو ذا القوس الفضية صنع شبحًا في صورة أينياس، يرتدي حلة مدرعة كحلة أينياس، فراح الطرواديون والآخيون الأماجد يتقاتلون حول الشبح، ويضربون الدرقات المصنوعة من جلود الثيران، والتي تغطي صدر كل منهم. والتروس المستديرة، وخصلات الشعر المدلاة على أكتافهم. ثم تحدث أبولو إلى «أريس» الثائر قائلًا: «أي أريس، يا أريس يا جالب الهلاك للبشر، ويا مدمِّر الأسوار، الملطخ بالدماء، ألا تدخل المعركة الآن وتقصي عنها هذا الرجل، ابن توديوس هذا الذي يستطيع الآن أن يقاتل حتى ضد الأب زوس؟ فقد أصاب كوبرس١٢ أولًا، وهو يقاتلها وجهًا لوجه، بجرحٍ في يدها عند الرسغ، ثم هجم عليَّ أنا نفسي كما يهجم على إله.»
قال هذا ثم جلس فوق قمة بيرجاموس، ودخل أريس المخرب وسط صفوف الطرواديين، في صورة «أكاماس»١٣ السريع، قائد التراقيين. يحثهم، ويخاطب أبناء بريام، المنحدرين من زوس، قائلًا: «أيا أبناء بريام، الملك المنحدر من زوس، إلى متى تتركون جيشكم يعبث فيه الآخيون تقتيلًا؟ هل سيظل الأمر هكذا حتى يقاتلوا حول أبوابنا المتينة البناء؟ فها هو أينياس، ابن أنخيسيس، ذلك الرجل الذي كنا نبجله كما نبجل هكتور العظيم، ها هو يرقد صريعًا. فهيا، تعالوا ننقذ زميلنا النبيل من أتون المعركة.»
وبقوله هذا أثار حمية وروح كل فرد، وفضلًا عن ذلك فقد عنَّف ساربيدون١٤ هكتور الأمجد، بقوله: «أي هكتور، أين ذهبت الآن قوتك القديمة؟ كنت تقول قول الواثق إنك ستحافظ وحدك على المدينة بمساعدة إخوتك وأزواج شقيقاتك، دون حاجةٍ إلى الجيوش أو الحلفاء، ولكني لا أرى الآن أو أتبين واحدًا من هؤلاء، وإنما هم يقبعون كالكلاب حول أسد، ولا يقاتل أحد سوانا، نحن الذين لسنا بينكم غير حلفاء؛ لأنني، أنا الذي لست سوى حليف، قد جئت من مسافةٍ نائية، من لوكيا القريبة من كسانثوس البعيدة الغور، حيث تركت زوجتي العزيزة، وطفلي الرضيع، وثروتي العظيمة، التي يطمع فيها كل محتاج. ورغم ذلك فإنني أحث اللوكيين، كما أتوق أنا نفسي إلى مقاتلة أي رجل، ولو أنه ليس لي أي شيءٍ هنا يستطيع الآخيون أَخْذه مني، بينما تقف أنت بلا حراك، ولا تحث جنودك حتى على الصمود والدفاع عن زوجاتهم. فخذ حذرك حتى لا تقع أنت وإياهم فريسة وغنيمة لأعدائكم، فتصبحوا كمن وقع في شباك الصيد الكتانية، وسرعان ما سيخربون مدينتكم الآهلة بالسكان. على عاتقك تقع كل هذه المهام ليل نهار، فيجب عليك أن تتوسل إلى قواد الحلفاء الذائعي الصيت، أن يصمدوا دون ذعر، وبذلك تتحاشى اللوم العنيف.»

هكذا خاطبه «ساربيدون»، فوخزت كلماته قلب هكتور، فوثب لتوه من عربته إلى الأرض، في حلته المدرعة، يلوح برمحيه الحادين في كل مكان وسط الجيش، حاثًّا الرجال على القتال، ومثيرًا وطيس القتال المفزع.

ومن ثم جمعوا جموعهم، واتخذوا موقفهم في مواجهة الآخيين، وثبت الأرجوسيون في أماكنهم في جموع مكثفة أمام هجماتهم، دون أن يركنوا إلى الفرار. وكما تحمل الريح التبن من الأجران المقدسة عندما يذري الرجال الحصاد، وتفصل «ديميتير»١٥ الجميلة الشعر، الغلة عن التبن، وسط عواصف الريح المندفعة، وتصير أكوام التبن بيضاء، هكذا أيضًا صار الآخيون الآن بيض الرءوس والأكتاف من سحب العثير التي أثارَتْها حوافر جيادهم وسط المحاربين فارتفعت إلى عنان السماء البرونزية، عندما اشتبكوا ثانية في القتال، وراح السائقون يدورون بعرباتهم ذات العجلات. كانوا يندفعون قدمًا بقوة أيديهم، وأنزل «أريس» الثائر ستارًا من الظلمة حول المعركة ليساعد الطرواديين، وهو يطوف في كل مكان. وهكذا نفذ أمر أبولو، ذي السيف الذهبي، الذي أمره بأن يوقظ روح الطرواديين بمجرد رؤيته رحيل أثينا؛ إذ كانت هي التي تشد أزر الدانيين. وأرسل أبولو نفسه أينياس بعيدًا عن المحراب العظيم، وبث الشجاعة في قلب راعي الجيش. فاحتل أينياس مكانه وسط رفاقه، وابتهج هؤلاء عندما أبصروه ينضم إليهم حيًّا سليمًا يفيض جرأة باسلة. ومع ذلك فلم يوجهوا إليه أي سؤال قط، إذ منعهم من ذلك انشغالهم بمتاعب من نوع آخر، تلك المتاعب التي كان يدفعهم إليها ذو القوس الفضية نفسه، وكذا أريس ملك البشر، وآلهة الشقاق الثائرة بغير انقطاع.

أما في الجانب الآخر فقد راح البطلان «أياس» و«أوديسيوس»، «ديوميديس»، يحمسون الدانيين على القتال، ولو أن أولئك، من تلقاء أنفسهم، لم تخر عزيمتهم أمام انقضاض الطرواديين العنيف وهجماتهم، بل ثبتوا في أماكنهم كالضباب الذي ينشره ابن كرونوس في الطقس الراكد فوق قمم الجبال، لا يتحرَّك، عندما تهبط قوة الريح الشمالية والرياح الثائرة الأخرى التي تهب عنيفة فتبعثر السحب الظليلة هنا وهناك. هكذا أيضًا قاوم الطرواديون الدانيين صامدين دون فرار. وطاف ابن أريوس خلال الجيش يصدر أوامر كثيرة قائلًا: «أيها الأصدقاء، كونوا رجالًا، وامتلئوا جرأة وإقدامًا، وليخجل كلٌّ منكم من زميله في العراك الطاحن؛ فالناجون ممن يخجلون أكثر من القتلى، أما من أطلق العنان لقدميه فلن ينالها منه أي مجد أو نفع!»

وبعد أن تكلَّم ابن أتريوس، أسرع يقذف رمحه، فأصاب محاربًا من الصفوف الأولى كان زميلًا لأينياس العظيم النفس، هو «دايكوون»، ابن «بيرجاسوس»، الذي كان يبجله الطرواديون تبجيلهم لأبناء بريام، لسرعة تلبيته للقتال في الصفوف الأولى. لقد ضربه الملك أجاممنون برمحه فوق ترسه، فلم يحجز الترس الرمح، بل انطلق الرمح وسطه، ودفعه خلال الحزام إلى أسفل بطنه، فسقط يتردَّى محدثًا صوتًا مكتومًا، ومن فوقه صلصلت حلته المدرعة.

بعد ذلك قتل أينياس اثنين من أبطال الدانيين، هما ابنا «ديوكليس»: «كريثون» و«أورسليوخوس»، اللذان كان يعيش والدهما في فيراي المتينة البناء، وهو رجلٌ واسع الثراء من حيث المادة، أما من جهة النسب فإنه ينحدر من نهر الفيوس المتدفق وسط مجرى فسيح خلال بلاد البوليين، وقد أنجب «أورسيلوخوس» ليصير ملكًا على كثيرٍ من الأقوام، ثم أنجب هذا «ديوكليس» العظيم النفس، فولد للأخير ذكران توأمان هما: كريثون، وأورسيلوخوس، البالغ المهارة في شتى ضروب القتال. فلما بلغ التوءمان مبالغ الرجال، ذهبا مع الأرجوسيين في السفن السوداء إلى طروادة الذائعة الصيت بجيادها؛ كي ينالا تعويضًا عن ولدي أتريوس، أجاممنون ومينيلاوس. بيد أن الموت اختطفهما في تلك البلاد. فكانا كأسدين نشأتهما أمهما في أحراش غابةٍ كثيفةٍ فوق قمم الجبال، فكانا يفترسان الماشية والخراف السمينة، ويعيثان فسادًا بين جموع البشر، فقتلهما البشر بواسطة الرماح البرونزية الحادة. وهكذا مات هذان التوءمان بيد أينياس، وسقطا كما تسقط أشجار الحور الباسقة.

بيد أنه ما إن سقطا حتى أشفق عليهما مينيلاوس العزيز لدى أريس، فأخذ يجول بين محاربي المقدمة، مرتديًا البرونز اللامع، يلوح برمحه، وقد أثار أريس حميته حتى يلقى حتفه على يدي أينياس. ولكن «أنتيلوخوس»، ابن نسطور العظيم النفس، أبصر به، فسار وسط محاربي الصفوف الأمامية؛ لأنه كان يخاف على راعي الجيش خوفًا شديدًا من أن يلحقه أذًى، فراح يعوق جهودهم إعاقة شاملة. وقد رقد أينياس ومينيلاوس يرفعان أيديهما ورمحيهما الواحد في مواجهة الآخر متلهفين على القتال، بينما اقترب «أنتيلوخوس» من راعي الجيش. وعندئذٍ لم يثبت أينياس، رغم كونه محاربًا شديد المراس، لما رأى بطلين يواجهانه جنبًا إلى جنب، فانسحب من القتال. أما هما فبعد أن جرَّا جثتَي التعسين نحو جيش الآخيين وضعاهما بين أيدي زملائهما، ثم عادا ليقاتلا بين الصفوف الأمامية.

بعد ذلك قتل الاثنان «بولايمينيس»، غريم أريس، وقائد حاملي التروس العظيمي النفوس البافلاجونيين، ففيما كان يقف ساكنًا، إذا بمينيلاوس بن أتريوس، الشهير باستخدام الرمح، يطعنه برمحه فوق عظم الترقوة، بينما صوب أنتيلوخوس ضربةً إلى خادمه وسائق عربته «مودون»، أعظم أبناء «أتومنيوس»، بينما كان يدور بخيوله ذات الحوافر الفردية، فأصابه بحجر فوق المرفق تمامًا، فسقطت الأعنة، التي في بياض العاج، من يديه إلى ثرى الأرض. عندئذٍ وثب أنتيلوخوس فوقه، وغيب سيفه في صدغه، فسقط من فوق العربة على أم رأسه وكتفيه طريحًا في الثرى. وظل على هذا الوضع هناك فترةً طويلةً — إذ وقع فوق رمل عميق — حتى وطئته خيوله، وألقته على الأرض فوق الثرى، فضربها أنتيلوخوس بالسوط، وساقها إلى جيش الآخيين.

ولكن هكتور أبصر بها بين الصفوف، فهجم عليها وهو يصيح عاليًا. وقد تبعته فرق الطرواديين القوية، يقودها «أريس» والملكة أينيو، التي كان يسير في ركابها إله «ضجيج الحرب» العديم الرحمة، بينما راح أريس يلوح برمحٍ عظيمٍ في يديه، ويسير تارةً أمام هكتور وتارة أخرى وراءه.

فلما رآه ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، ارتعدَت فرائصه وأعضاؤه، وكما يقف مَن يجتاز سهلًا فسيحًا، هيابًا، أمام نهر سريع الجريان تتدفَّق مياهه إلى البحر، وقد أبصر الزبد يعلو مياهه الثائرة، هكذا تراجع ابن تيديوس، وخاطب الجيش بقوله: «أيها الأصدقاء، أرأيتم كيف كنا نعجب دائمًا بهكتور العظيم، ونعده رجل الرمح والمقاتل المقدام؛ إذ كان إلى جانبه أحد الآلهة يدرأ عنه السوء — كما يقف أريس الآن إلى جانبه في صورة إنسان؟ — هيا إذن تراجعوا إلى الخلف، ووجوهكم شطر الطرواديين، وحذارِ أن يأخذكم الحماس لتُقاتلوا ضد الآلهة.»

وإذ خاطبهم على هذا النحو، واقترب منهم الطرواديون حتى صاروا على قيد خطوات، قتل هكتور اثنين من أبرع المقاتلين والمحاربين الأفذاذ، هما «مينيستيس» و«أنخيالوس»، اللذان كانا في عربة واحدة. وما إن سقطا حتى رثى لهما أياس التيلاموني، فاقترب منهما، وبضربة من رمحه اللامع أصاب «أمفيوس»، ابن «سيلاجوس»، الذي كان يُقيم في بايسوس، وكان غنيًّا في المادة، غنيًّا في حقول القمح، ولكن القدر ساقه ليمد يد المساعدة لبريام وأولاده. فضرب أياس التيلاموني فوق حزامه في الجزء الأسفل من البطن، فسقط يتخبط. عندئذٍ اندفع أياس نحوه ليجرده من حلته الحربية، فأمطره الطرواديون وابلًا من رماحهم الحادة اللامعة، فتلقى ترسه كثيرًا منها، لكنه ثبت عقبه فوق الجثة، وجذب الرمح البرونزي، غير أنه لم يستطع أن ينزع عن الكتفين باقي العدة الحربية الجميلة؛ إذ كان مثخنًا بالقذائف. وفضلًا عن ذلك، فقد كان يخاف حراب الطرواديين الأمجاد. الذين التفوا حوله في جموع غفيرة وبشجاعة فذة، شاهرين الرماح، ورغم طوله الفارع، وقوته وجلاله، فإنهم دفعوه بعيدًا عنهم، فتراجع وهو يترنح.

هكذا أُبليَ هؤلاء في الصراع العنيف، غير أن «تليبوليموس»، ابن هرقل، الطويل المقدام، ساقه القدر المحتوم ضد «ساربيدون» الشبيه بالآلهة. وبينما كان يتقدم كلٌّ منهما نحو الآخر — ابن زوس، جامع السحب، وحفيده — بدأ «تليبوليموس» يتكلَّم أولًا قائلًا: «أيا ساربيدون، يا مستشار اللوكيين، ماذا يضطرك إلى الاختفاء هنا، كرجلٍ غير كفءٍ للقتال؟ يكذب من يقول إنك منحدر من زوس حامل الترس، فإني أراك تقل كثيرًا عن المحاربين المنحدرين من زوس في عصور قدامى الرجال. يقول الناس إن أبي هرقل القوي، البارع في القتال، كان من نوع آخر، كان ذا قلب أسد، وقدم إلى هنا ذات مرة ليسلب جياد الملك «لايميدون» ولم تكن معه غير ست سفن فقط، وعدد قليل من المحاربين، ومع ذلك فقد خرب مدينة طروادة، وجعل طرقاتها يبابًا. إنك لجبان القلب، ورجالك يرتجفون ذعرًا. وإني لأعتقد أن مجيئك من لوكيا لن يجدي في الدفاع عن رجال طروادة شيئًا، وأنك لست بالقوي أبدًا، وأن يدَيَّ ستقهرانك، فتجتاز أبواب هاديس.»

فأجابه «ساربيدون»، قائد اللوكيين بقوله: «أي تليبوليموس، لا مراء في أن والدك قد دمر طروادة المقدسة بسبب حمق الرجل العظيم «لايميدون». الذي عنفه بعبارات لاذعة، كانت ذات أثر حميد، لكنه لم يحظَ بالجياد التي قدم من أجلها مجتازًا الفيافي النائية. أما أنت فسوف تنال الموت والمصير الأسود على يدي، وبعد أن يصرعك رمحي تنيلني المجد، وتذهب روحك إلى هاديس ذات الجياد الكريمة!»

وإذا قال ساربيدون ذلك، رفع تليبوليموس رمحه الدرداري، فانطلقت الرماح الطويلة من أيديهما في لحظةٍ واحدة، فأصابَه ساربيدون فوق عنقه تمامًا، ونفذت السن البغيضة في الحال، وخيمت ظلمة الليل فطوته. أما تليبوليموس فقد أصاب ساربيدون برمحه الطويل، فوق فخذه اليسرى، ونفذت السن بسرعةٍ حتى وصلت إلى العظم، ولكن أباه أنقذه من الهلاك.

بعدئذٍ جاء الزملاء الأجلاء وحملوا زميلهم ساربيدون شبيه الإله بعيدًا عن ميدان القتال، وكان الرمح الطويل يؤلمه غاية الألم وهم يسحبونه، ولكن أحدًا منهم لم يلحظ ذلك أو يفكر في أن ينزع الرمح من فخذه، لفرط عجلتهم، كي يستطيع الوقوف على قدميه، إذ كان كل همهم إسعافه.

أما في الجانب الآخر فقد حمل الآخيون، المدرعون جيدًا تليبوليموس إلى خارج ساحة الوغى، وأبصر ذلك أوديسيوس العظيم، فغلى مرجل غضبه بين أحنائه، وأخذ يُسائل نفسه: هل يطارد بعد ذلك ابن زوس الذي يرعد عاليًا، أم الأفضل أن يزهق روح عدد آخر من اللوكيين؟ بيد أنه لم يكن مقدرًا لأوديسيوس العظيم القلب أن يقتل بالبرونز الحاد ابن زوس الشجاع؛ ولذلك حولت أثينا فكره نحو جيش اللوكيين. فقتل «كوبرانوس» و«الاستور» وخروميوس والكاندروس وهاليوس ونويمون وبروتانيس، ومع ذلك فقد كان في إمكان أوديسيوس العظيم أن يقتل عددًا أكثر من اللوكيين لولا أن لمحه هكتور العظيم ذو الخوذة البراقة، فانطلق خلال مقاتلي الصفوف الأمامية، مرتديًا البرونز الملتهب، ومسببًا فزع الدانيين. فسر لمجيئه ساربيدون، ابن زوس، وتوسل إليه بعبارات الاستعطاف قائلًا: «يا ابن بريام، لا تحملني مشقَّة الرقود هنا فريسة للدانيين، بل مد إليَّ يد المعونة، وبعد ذلك، إن لزم الأمر، دع روحي تفارق جسدي في مدينتك، إذا كان غير مقدر لي أن أعود إلى بيتي في وطني لأدخل السرور على نفس زوجتي العزيزة وابني الرضيع.»

هكذا قال، ولكن هكتور ذا الخوذة البراقة لم يفتح فاه بكلمة يرد بها عليه، بل سارع، تواقًا بمنتهى النشاط، إلى دفع الأرجوسيين إلى الوراء، وإلى إزهاق أرواح كثيرين منهم. وجاء زملاء ساربيدون شبيه الإله، الأجلاء، وأجلسوه تحت شجرة بلوط جميلة، من أشجار زوس حامل الترس، وتقدم بيلاجون الشجاع، وانتزع الرمح الدرداري من فخذه، فخارت قواه، وهبطت على عينيه غمامة، ولكنه لم يلبث أن أفاق، وهبت عليه الريح الشمالية بنسيمها، فأعادت إليه الحياة بعد أن كاد يلفظ روحه بصورة محزنة.

أما الأرجوسيون، فأمام هجوم أريس وهكتور المتدثر بالبرونز، لم يحاولوا الهروب إلى سفنهم السوداء، كما أنهم لم يستطيعوا الصمود في القتال، بل ظلوا يتقهقرون عندما بلغهم أن أريس موجود وسط الطرواديين.

ترى، من كان أول المقتولين، ومن كان آخرهم، على يد هكتور بن بريام، وأريس البرونزي؟ كانوا: تيوثراس، شبيه الآلهة، ثم أوريستيس، سائق الجياد، وتريخوس، رماح أيتوليا، أوينوماوس، وهيلينوس، ابن أينوبيس، وأوريسبيوس ذو الحزام المتألق الذي كان يسكن في هولي على حدود البحيرة الكيفيسية، يرعى ثروته رعاية عظيمة، وكان يُقيم بقربه آخرون من البيوتيين ذوي الضياع البالغة الثراء.

إصابة إله الحرب!

غير أنه لما تنبهت الربة «هيرا» ذات الذراعين البيضاوين إليهما وهما يعيثان فسادًا بين صفوف الأرجوسيين في الصراع المرير، أسرعت في الحال تقول لأثينا: «ويحي، يا ابنة زوس حامل الترس، الحق أننا وعدنا مينيلاوس دون جدوى، فلن يستطيع العودة إلى وطنه إلا بعد أن يكون قد اجتاح طروادة المتينة الأسوار، إذا تركنا أريس المخرب يعيث بهياجه هكذا. هيا تعالي، كي نفكر سويًّا في ذلك القتال الطاحن.»

وإذ قالت ذلك، لم تحجم الربة أثينا ذات العينين النجلاوين عن أن تستمع إليها. وعندئذٍ أخذت هيرا، الربة الجليلة ابنة كرونوس العظيم، تسير جيئة وذهابًا، تسرج الجياد ذات القلائد الذهبية، وبسرعة ثبتت «هيبي» العجلات المستديرة البرونزية إلى جانبي العربة، تلك العجلات ذات البرامق الثمانية المتصلة بالسرة الحديدية. وكانت «أباسيط» تلك العجلات من الذهب غير القابل للفناء، ومن فوقها إطار من البرونز، يُبهج الناظرين، كما كانت محاور العربة الفضية تدور حول هذا الجانب وذاك. أما هيكل العربة فكان مجدولًا بإحكام بشرائط من الذهب والفضة، وينتهي بحافتين تُحيطان به. كما كان يخرج من مقدم الهيكل قضيب من الفضة، ربط إلى طرفه النير الذهبي الجميل، وألقت فوقه سيور الصدر الجميلة الذهبية، ثم أمسكت هيرا بالنير، وقادت الجياد السريعة الأقدام، أشد ما تكون اشتياقًا إلى النضال وصيحة الحرب.

غير أن أثينا، ابنة زوس حامل الترس، تركت ثوبها الناعم يسقط في حجرة أبيها، ذلك الثوب الفاخر الوشي، الذي نمقته بيدَيها، وخاطته بنفسها. وارتدت عباءة زوس، حاشد السحب، وتسربلت في حلة مدرعة للحرب، وعلقت حول كتفيها الترس ذا الأهداب، الذي يبعث الرعب والفزع، وقد توج بتاج دائري يتألف من آلهة الشغب، والكفاح، والشجاعة، والمطاردة التي تجمد الدم في العروق، ورأس الوحش المفزع — «الجورجون» — المثير للرعب والذعر، والذي يستخدم بمثابة «طيرة» لزوس حامل الترس. ووضعت فوق رأسها الخوذة ذات القرنين والحليات الأربع، المصنوعة من الذهب الخالص، والمزينة بصور محاربي مائة مدينة.

ثم ركبت العربة الملتهبة، وأمسكت برمحها الثقيل، الضخم، المتين، الذي أبادت به صفوف الرجال — من المحاربين الذين غضبت عليهم، هي نفسها، ابنة الملك القوي — وبسرعة لمست هيرا الجياد بالسوط، وإذ ذاك اصطفَّت على مفصلاتها — من تلقاء نفسها — أبواب السماء التي كانت تقوم ربَّات الساعات بحراستها، أولئك الربات اللواتي تعهد إليهن السماء العظيمة وأوليمبوس، بأن يفتحن الأبواب للسحب الكثيفة أو يغلقنها.

وخلال تلك الأبواب ساقت الربتان جيادهما التي تحتمل المناخس بصبر، فوجدتا «زوس» جالسًا بعيدًا عن الآلهة الآخرين فوق أعلى قمةٍ من ذؤابات أوليمبوس العديد القمم. عندئذٍ أوقفت الربة هيرا، البيضاء الذراعين، الجياد، وتوجهت بالسؤال إلى زوس الأعلى، ابن كرونوس، قائلة: «أبتاه زوس، ألست حاقدًا على أريس بسبب تلك الأعمال العنيفة، ولأنه أباد مثل ذلك الجيش اللجب العظيم من الآخيين، بطيش وبغير سبب معقول، الأمر الذي يحزنني، بينما تطرب «كوبريس» و«أبولو» ذو القوس الفضية، لأنهما أطلقا هذا الرجل المأفون الذي لا يراعي أي قانون؟ أبي زوس، ألا تغضب مني لو أنني ضربت أريس بطريقة محزنة وطردته خارج ميدان القتال؟»

فرد عليها زوس، حاشد السحب: «كلا، هيا الآن، وسلطي عليه أثينا، التي تمنح الغنيمة، والتي طالما تاقت أكثر من غيرها أن تجلب عليه الآلام المريرة!»

وإذ قال ذلك، لم تحجم الربة هيرا الناصعة الذراعين عن الإصغاء. ثم لمست جيادها بالسوط، فانطلقت لا يقف في طريقها شيء، تطير بين الأرض والسماء ذات النجوم. وكانت القفزة الواحدة من جياد الأرباب، العالية الصهيل، تقطع من المسافة بقدر ما يبلغ مرمى بصر المرء الجالس فوق قمةٍ شاهقةٍ يذرع بعينَيْه أجواز الفضاء القصي، ويجول بناظره عبر أعماق البحر القاتمة كالخمر.

ولما أشرفت الربَّة على طروادة، والنهرَين المتدفقَين، حيث يتحد مجريا نهر «سيمويس» ونهر «سكاماندر»، أوقفت هيرا الغراء الساعدين جيادها، وخلتها عن العربة، وسكبت حولها غمامًا كثيفًا، كما أنبت لها نهر سيمويس مرعى إلهيًّا كي ترعى فيه.

وبعد ذلك انطلقت الربتان في طريقهما معًا، تسيران بخطوات اليمام الخجول، تواقتين إلى تقديم المساعدة لمحاربي أرجوس. فوصلتا إلى حيث تقف الأغلبية وأعظم الشجعان مجتمعين حول ديوميديس القوي، مستأنس الخيول، كأنهم الأسود الضارية أو الخنازير البرية التي تفتر قوتها، وقفت هناك الربة هيرا الناصعة الذراعين، في صورة «ستينتور»١٦ العظيم القلب، ذي الصوت البرونزي، الشبيه بصوت خمسين رجلًا، وصاحت قائلة: «ويحكم أيها الأرجوسيون. يا لَلْخزي والعار، أيها الأخسَّاء، ليس فيكم من شيء جميل سوى المظهر فحسب! لطالما اشتهى أخيل العظيم أن يسير إلى القتال، فما كان الطرواديون يستطيعون التقدم إطلاقًا حتى أمام الأبواب الدردانية، من فرط ما كانوا يرهبون رمحه المكين، أما الآن فإنهم يقاتلون بعيدًا عن المدينة بالقرب من السفن الخاوية.»
وما إن قالت هذا حتى حفزت قوة وروح كل رجل، ثم قفزت الربة أثينا البراقة العينين إلى جوار ابن توديوس، فوجدَت ذلك الباسل إلى جوار خيوله وعربته، يبرد الجرح الذي أنزله به «بانداروس»١٧ بسهمه؛ إذ كان يُثيره العرق الذي يسيل تحت الحامل العريض لترسه المستدير، وكانت ذراعه متعبة، فكان يرفع الحامل ويمسح الدم القاتم.
ثم أمسكت الربة بأعنَّة خيوله وقالت: «ما أقل شبه ابن توديوس بالأب الذي أنجبه! كان توديوس صغير الجسم، ولكنَّه كان محاربًا. فحتى عندما كنت لا أكلفه عناء القتال أو إظهار قوته، كنت في أي وقتٍ يأتي فيه في سفارة إلى طيبة، بين كثيرٍ من «الكادموسيين»، وليس معه أي آخي، آمره بتناول الطعام في ساحاتهم في سلام، ومع ذلك كان كسابق عهده، يتحدَّى بروحه الباسلة شباب الكادموسيين ويهزمهم في كل ميدان، بسهولة ويسر. فلقد طالما كنت له حامية. أما أنت، فبرغم أني أقف إلى جوارك وأحرسك، وآمرك بأن تقاتل الطرواديين، بقلب متأهب، فإنك إما قد دب في أوصالك التعب الناجم عن الهجمات الكثيرة، أو أن الفزع الرعديد يستولي على جنانك. وإذن فما أنت من ذرية توديوس، الابن الحكيم القلب لأوينيوس.»١٨

فأجابها ديوميديس القوي بقوله: «إنني أعرفكِ، يا ابنة زوس حامل الترس؛ ولذا سأصرح لكِ بمكنونات قلبي ولن أخفي عنكِ شيئًا. لا ذعر أو جبن يستولي على جناني، ولا أي تراخٍ ولكني ما زلت ذاكرًا الأمر الذي أصدرته لي. إنك لن تحمليني عناء القتال وجهًا لوجه مع الآلهة المباركين الآخرين، أما إذا دخلت أفروديت، ابنة زوس، إلى المعركة، فقد أمرتني بأن أضربها بالبرونز الحاد. وعلى ذلك فهذا سبب كوني أتقهقر، وسبب إصداري الأمر لجميع الأرجوسيين الباقين بأن يحتشدوا هنا معي؛ لأنني أرى «أريس» يسيطر على ساحة الوغى.»

فردَّت عليه أثينا، ذات العينين النجلاوين، بقولها: «أيا ابن توديوس، أيا ديوميديس، العزيز على قلبي، لا تخشَ أريس، أو غيره من الخالدين؛ إذ سأكون معينة لك في كل وقت. هيا، تعال، قُدْ جيادك الفردية الحوافر، واضربه أولًا وجهًا لوجه، ولا تخشَ أريس الثائر، الذي يعيث هنا فسادًا وتخريبًا، ذلك الخائن الذي كان يتحدث الآن معي ومع هيرا، متظاهرًا بأنه سيقاتل ضد الطرواديين، بينما قدم المساعدة للأرجوسيين، ومع ذلك فهو ينحاز الآن إلى الطرواديين، ناسيًا هؤلاء!»

وما إن قالت هذا حتى جذبت «ستينيلوس» بيدها، من العربة إلى الأرض فأسرع يقفز من العربة، فركبتها إلى جوار ديوميديس العظيم؛ إذ كانت الربة متلهفة إلى القتال. وبصوت عالٍ طقطق محور العربة البلوطي تحت حمله الثقيل؛ لأنه كان يحمل ربة موهوبة الجانب ومقاتلًا منقطع النظير. فأمسكت «أثينا» بالسوط والأعنة، وقادت الجياد الفردية الحوافر بسرعةٍ ضد أريس. وكان عندئذٍ يجرد «بيريفاس» الضخم من عدته الحربية، ذلك الذي كان يفضل جميع الأيتوليين، الابن العظيم لأوخيسيوس. كان أريس الملطخ بالدماء يجرِّده من حلته، ولكن أثينا لبست خوذة «هاديس»، حتى لا يبصرها أريس القوي!

والآن عندما تنبه أريس، مدوخ البشر، إلى ديوميديس العظيم، ترك بيريفاس الضخم راقدًا حيث هو، حيث كان قد قتله وسلبه حياته، وتقدم مباشرة نحو ديوميديس، مستأنس الجياد. وبينما كانا يقتربان أحدهما من الآخر، قذف أريس رمحه البرونزي، أولًا نحو النير وأعنة الجياد، متلهفًا إلى إزهاق روح غريمه، غير أن أثينا النجلاء العينين أمسكت بالرمح، وألقت به على العربة، حتى لا يصل إلى الهدف. وبعد ذلك أطلق ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، رمحه البرونزي صوب أريس، فأسرعت أثينا ووجهته بقوة نحو بطنه، حيث كان متمنطقًا بدرقاته، فأصابه وجرحه وهو يخترق ويمزق بشرته الرقيقة. ثم سحب الرمح ثانية. وعندئذٍ زأر أريس بقوة كما يصرخ وسط المعركة تسعة أو عشرة آلاف مقاتل، عندما ينضمون إلى معركة إله الحرب. فاستولت الرجفة على الآخيين والطرواديين على السواء، وشاع بينهم الذعر؛ فقد زأر أريس الذي لا يمل القتال بمثل تلك الشدة!

وكما تبدو الظلمة القاتمة من خلال السحب، عندما تهب ريح لافحة بعد موجة من الحر، هكذا أيضًا برز زوس البرونزي لديوميديس، ابن توديوس، وهو يرحل خلال السحب إلى السماء الفسيحة. ووصل بسرعةٍ إلى موطن الآلهة، إلى أوليمبوس الشاهق، وجلس إلى جانب زوس بن كرونوس حزين القلب، وأظهر له دمه الخالد ينبثق من الجرح، وانتحب وهو يقول له: «أبي زوس، ألست ساخطًا وأنت ترى هذه الأعمال العنيفة؟ أيجب علينا نحن الآلهة أن نعاني باستمرار خطط القسوة التي يدبرها بعضنا ضد البعض الآخر كلما أراد إظهار وده للبشر؟ هل نحن جميعًا في صراع معك؛ لأنك والد تلك الفتاة المجنونة المؤذية، التي يتركز عقلها دائمًا في الأعمال غير المشروعة؟ إن جميع الآلهة المقيمين في أوليمبوس يطيعونك ويخضعون لك، كل واحد منا، نحن رعاياك، ما عداها هي، فإنها لا تطيعك، لا بالقول ولا بالفعل، بل تطلقها وتترك لها الحبل على الغارب، لا لشيء إلا لأن هذه الفتاة العابثة ابنتك!

والآن قد شجعت ابن توديوس، ديوميديس، المتعجرف، ليصب جام غضبه على الآلهة الخالدين؛ فقد أصاب «كوبريس» بادئ ذي بدء بطعنة، وجرحها في يدها عند الرسغ في قتالٍ دار بينهما وجهًا لوجه. وبعد ذلك هجم عليَّ أنا نفسي، كما لو كان إلهًا! ولو لم تحملني قدماي السريعتان بعيدًا، لقاسيت الآلام طويلًا وسط كومات الموتى البشعة، أو لعشت مجردًا من القوة بسبب ضربات الرمح.»

عندئذٍ أجابه زوس حاشد السحب، وقد قطب حاجبيه، بقوله: «لا تجلس إلى جواري قط، أيها الخائن. ما أبغضك إلى نفسي — من دون جميع الآلهة الذين يقطنون في أوليمبوس — لأن القتال محبب إلى نفسك دائمًا، وكذا الحروب والمعارك. إن لك نفس الروح التي لا تطاق، والتي لا تعرف الاستسلام، روح أمك هيرا، التي لا أستطيع مطلقًا أن أسيطر عليها بكلامي. وإنك لتعاني الآن على ما أظن، من جراء تشجيعها لك. وعلى أية حال فلن أحتمل بعد الآن أن أراك تتألم؛ لأنك من ذريتي، وقد أنجبتك أمك لي، أما لو كنت من نسل أي إله آخر، وكنت عابثًا بهذا الشكل، فإنك كنت قمينًا بأن تجد نفسك، منذ أمد طويل، أقل في المرتبة من أبناء السماء!»

وبعد أن قال هذا، أمر «بايون»١٩ بأن يشفي جرحه، فنثر بايون على الجرح بعض العقاقير التي تبدِّد الألم، فشفاه — إذ لم يكن في الحقيقة من الجنس البشري بأية حال — وكما يعجل عصير التين بزيادة كثافة اللبن الأبيض السائل، فيتخثر بمجرد أن يحرِّكه المرء، كذلك بمثل هذه السرعة ضمد بايون جراح «أريس» الثائر٢٠ ثم أعانته هيبي على الاغتسال، وألبسته رداءً جميلًا، وأجلسته إلى جانب زوس بن كرونوس، متهللًا في مجده.

عندئذٍ رجعت هيرا الأرجوسية، وأثينا الألالكومينية، عائدتين إلى قصر زوس العظيم، بعد أن جعلتا أريس، جالب الشقاء على البشر، يكفُّ عن سفك دماء البشر!

١  بطل كريتي ذهب مع «أيدومينيوس» إلى طروادة حيث ظهرت شخصيته كبطل محارب شجاع نشيط يمتاز بمهارته في قذف السهام.
٢  ابنة الملك «كيسيوس» التراقي، وزوجة «أنتينور» الطروادي. كانت كاهنة معبد أثينا في القلعة الطروادية.
٣  طالب الزواج من هيلينا، وكان في حرب طروادة من أشجع الإغريق وتقدم لمقاتلة هكتور في معركة فردية، وحين انتهت الحرب كان نصيبه من مغانمها تمثالًا لديونيسوس محفوظًا في صندوق، فما إن فتح الصندوق ورأى التمثال حتى اعتراه خبل!
٤  كان «لوكاون»، ابن «برياموس» الذي أخذه أخيل أسيرًا وبيع في «لمنوس»، ثم هرب ليعود إلى طروادة وليقابل أخيل مرة ثانية ويُقتل بيده.
٥  أثينا.
٦  اشترك متأخرًا في الحرب الطروادية فأثبت جدارته العظيمة كقائد، واحتلَّ المكانة التالية لهكتور في البطولة والشجاعة.
٧  ابن «لوكاون». كان مفضلًا عند أبولو، فوهبه المهارة في الرماية بالسهام، فأكسبه هذا امتيازًا عندما حارب ضد الإغريق في طروادة.
٨  كان من أجمل البشر، خطفه نسر «زوس» وهو يرعى قطعان أبيه. وهناك من يقول إن زوس نفسه هو الذي خطفه وهو متنكر في هيئته نسر ليعيش معه بين الآلهة وليعمل ساقيًا. ولقد عوض زوس أباه عنه بجوادين مباركين.
٩  إله الحرب، ويطلق عليه الرومان اسم «مارس».
١٠  «ستينيلوس».
١١  هي ربة القتال ومخربة المدن والديار، وخادمة إله الحرب.
١٢  اسم لأفروديت.
١٣  كان قد ذهب إلى طروادة يطالب بعودة هيلينا. وهو أحد الأبطال الإغريق الذين اختبئوا داخل الحصان الخشبي.
١٤  كان قد جاء مع رفيقه «جلاوكوس» وأنصاره «اللوكيين» إلى طروادة كحليف، وفيها أثبت أنه عظيم الفائدة في مساعدة الطرواديين، وقام بأعمالٍ عظيمةٍ تدل على جسارةٍ وقوة.
١٥  هي ربة البقول والفاكهة والبذور والحصاد، أي الزراعة عامة، ولما كانت الزراعة مهد المدنية فقد اعتبرت أيضًا ربة القانون والنظام والزواج.
١٦  منادٍ إغريقي في الحرب الطروادية. كان لصوته قوة صوت خمسين رجلًا.
١٧  كان مفضلًا عند الرب أبولو فوهبه المهارة في الرماية بالسهام، فأكسبه هذا امتيازًا عندما حاربا ضد الإغريق في طروادة.
١٨  كان «أوينيوس» ملكًا يكرم الرب «ديونيسوس» تكريمًا خاصًّا، فوهبه الأخير الكرمة في مقابل الضيافة السخية.
١٩  طبيب آلهة «أوليمبوس».
٢٠  من العجيب أن يفطن هوميروس — منذ ثلاثة آلاف سنة — إلى وجه الشبه الكبير بين عمليَّة تخلط الدم التي تؤدي إلى وقف النزيف COAGULATION OF BLOOD وبين عملية تخثُّر اللبن GURDLING OF MILK وكلاهما يؤدي إلى تجمُّد السائل نتيجة تفاعل كيماوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤