الأنشودة الثامنة

… رفع الأب كفتي ميزانه الذهبيتين، ووضع فيهما مصيرين من الموت المفجع: واحدًا للطرواديين، وآخر للآخيين، ثم أمسك قب الميزان من منتصفه ورفعه.

كيف تذكر «زوس» عهده بأن يقتص من «أجاممنون» لما حاق بأخيل من ظلم؛ ومن ثم دعا الآلهة إلى أن تكف عن الحرب، و… و… للطرواديين النصر.

اجتماع فوق جبل أوليمبوس

أخذ الفجر، ذو الثوب الزعفراني ينتشر على وجه الأرض، فعقد «زوس» — الذي يقذف الصواعق — اجتماعًا للآلهة فوق أعلى ذؤابات جبل أوليمبوس الكثير القمم، وأخذ يخطب فيهم — بينما جميع الآلهة يصغون — فقال: «أصغوا إلي أيها الآلهة والربات جميعًا، كي أفضي إليكم بما يأمرني به قلبي الكائن في صدري، ولا يعارضن أحدكم قولي — ربة كانت أم إلهًا — أو يرفضن كلمتي، بل عليكم جميعًا بلا استثناء — أن توافقوا على كلامي، حتى يتسنى لي التعجيل بتنفيذ هذه الأمور، إن كل مَن يقع عليه بصري فأراه مبتعدًا عن الآلهة، معتزمًا السعي لنجدة الطرواديين أو الدانيين — على السواء — سيرجع إلى أوليمبوس مضروبًا بلا شفقة، أو فسأقذف به إلى تارتاروس الرازحة تحت الضباب، بعيدًا جدًّا، إلى أعمق هوة تحت الأرض: أبوابها من الحديد، وعتبتها من البرونز، وتبعد عن هاديس — في العمق — بعد السماء عن الأرض في الارتفاع! وعندئذٍ ستعلمون أنني أقوى الآلهة طرًّا، هيا تعالوا، جرِّبوا أيها الآلهة، كي تعرفوا جميعًا! … أدلوا من السماء بحبلٍ من ذهب، وأمسكوا جميعًا بطرفه — أيها الآلهة والربات — وعندئذٍ لن تستطيعوا أن تجذبوا «زوس» — المستشار الأعلى — من السماء إلى الأرض، ولو بذلتم أقصى جهد. أما أنا، فمتى عقدت العزم، ففي وسعي أن أجذبكم بسهولة — مع الأرض ذاتها والبحر كذلك — ثم أربط الحبل بعد ذلك حول إحدى ذؤابات أوليمبوس، فتظل كل هذه الأشياء معلقة في الفضاء، بهذه الدرجة أتفوق أنا على جميع الآلهة والبشر!»

هكذا تكلم «زوس»، فخيم الصمت على الجميع؛ إذ أدهشتهم كلماته، لأنه كان يخاطبهم بسيطرة تامة. وأخيرًا قامت الربة «أثينا» — ذات العينين النجلاوين — وقالت: «أبانا كلنا، يا ابن كرونوس، يا سيد جميع السادة، إننا أنفسنا نعلم يقينًا أن قوتك لا تُقهر، غير أننا نُشفق على الرماحين «الدانيين» الذين سيفنون الآن ويسوء مصيرهم. ومع ذلك فنحن سنمتنع عن القتال — كما تأمر — غير أننا سنقدم النصح للأرجوسيين بما فيه صالحهم، حتى لا يهلكوا جميعًا بسبب غضبك.»

عندئذٍ ابتسم «زوس»، جامع السحب، وتحدث إليها فقال: «لا تخافي، يا «تريتوجينيا»،١ يا طفلتي العزيزة، فلست — بأية حال — شديد الإصرار على ما قلت، وإنما أعتزم أن أكون رفيقًا بك.»

وما إن قال هذا حتى ربط جياده البرونزية الحوافر، السريعة العدو — ذوات المَعْرَفات الذهبية المتموجة — إلى عربته، ثم لف بالعسجد جسمه، وأمسك بالسوط الذهبي المتين الصنع، واعتلى مركبته، ومس الجياد بالسوط ليحثها على الانطلاق. فعَدَت — لا تلوي على شيءٍ — بين الأرض والسماء ذات الكواكب. وانطلق بها إلى أيدا — الكثيرة النافورات، أُم الحيوانات المفترسة — وإلى جارجاروس حيث يوجد معبده ومذبحة العطر الأريج. وهناك أوقف أبو الآلهة والبشر جياده، وخلاها عن العربة، وسكب عليها غمامًا كثيفًا، ثم جلس هو فوق أعالي قمم الجبل يتلألأ في مجده، ويطل على مدينة الطرواديين وسفن الآخيين.

المعركة في يومها الثاني

تناول الآخيون — ذوو الشعر المسترسل — طعامهم بسرعة في أكواخهم، حتى إذا انتهوا منه، قاموا فارتدوا حللهم الحربية. وحذا الطرواديون حذوهم — من ناحيتهم — فسلحوا أنفسهم في جميع أنحاء المدينة، وكانوا أقل نفرًا، ولكنهم كانوا توَّاقين إلى خوض القتال، تدفعهم الحاجة الماسة، من أجل أطفالهم وزوجاتهم. وكانت جميع الأبواب مفتوحة، فتدفق الجيش بسرعة، مشاة وركبانًا، وارتفع الصخب والضجيج.

وما إن التقى الجمعان في صعيدٍ واحد، حتى قرعوا تروسهم ورماحهم، في حماس المقاتلين المدرعين بالبرونز، واصطكت التروس المرصعة بعضها ببعض، وانبعث لها ضجيج مرتفع، وما لبثت الإناث أن سمعت مع صيحات النصر، وأصوات القاتلين والمقتولين معًا، وتخضبت الأرض بالدماء.

وطوال الصباح، والنهار المقدس يزداد وضوحًا، ظلت القذائف تنطلق من كلا الجانبين نحو أهدافها، وراح الرجال يسقطون. حتى إذا تجاوزت الشمس كبد السماء، رفع الأب كفتي ميزانه الذهبيتين، ووضع فيهما مصيرين من الموت المفجع؛ واحدًا للطرواديين مستأنسي الخيول، وآخر للآخيين المتدثرين بالبرونز. ثم أمسك قب الميزان من منتصفه ورفعه فهبطت على الفور الكفة التي حملت يوم موت الآخيين.

وهكذا هوت أقدار الآخيين إلى الأرض الحنون، وارتفعت أقدار الطرواديين عاليًا إلى السماء الفسيحة. ثم أرعد الإله عاليًا من «أيدا» وأرسل وميضه المستعر وسط جيش الآخيين، فلما رأوه استولى عليهم الذهول وتملكهم الذعر المخيف أجمعين!

ومن ثم لم يجرؤ «أيدومينيوس» على الصمود، ولا أجاممنون، بل ولا البطلان «أياس» — خادما أريس — ولكن نسطور الجيريني، حامي الآخيين ثبت في وقفته، لا عن قصد وإنما لأن جواده كان قد أصيب بجرح بالغ، أحدثه «باريس» العظيم — زوج هيلينا ذات الشعر الفاتن — بسهم فوق الجمجمة — ففي هذه البقعة أهم مقتل للجياد — ومن ثم وثب الجواد عاليًا في ألم، فنفذ السهم إلى مخه، وأشاع الفوضى بين جياد العربة وهو يتلوى جامحًا.

وبينما قفز الرجل المسن بعيدًا، وأخذ يقطع الأعنَّة بسيفه، أقبلت جياد «هكتور» السريعة وسط الهرج، يقودها سائق جريء، هو «هكتور» نفسه. وكان لا بد للكهل من أن يفقد حياته، لولا أن «ديوميديس» — البارع في صيحة الحرب — بادر إلى الانتباه فأرسل صيحة مفزعة، وحثَّ «أوديسيوس» بقوله: «هيا يا ابن لايرتيس المولود من زوس، يا أوديسيوس، يا كثير الحيل، إلى أين تهرب موليًا ظهرك — وسط الحشد — كالجبناء؟ حذارِ أن يغرس شخص رمحه بين كتفيك أثناء فرارك. كلا، بل قف في مكانك حتى تصد عن الكهل عدوه المهتاج!»

هكذا قال، ولكن «أوديسيوس» العظيم — الشديد الجلد — لم يصغِ إليه، بل أسرع إلى سفن الآخيين الخاوية. غير أن ابن «توديوس» اختلط بالمقاتلين في الصفوف الأمامية — رغم أنه كان وحده — واتخذ موقفه أمام جياد الرجل المسن، ابن «نيليوس»، وخاطبه بكلمات مجنحة، قائلًا: «يا سيدي الكهل، الحق أن المحاربين الشبان يضيقون عليك الخناق، في حين أن قوتك قد خمدت، وقست عليك الشيخوخة، وخادمك ضعيف، وجيادك بطيئة. فتعال إذن، وامتطِ عربتي، حتى ترى من أي نوعٍ هي جياد تروس، الماهرة في العدو بسرعةٍ هنا وهناك فوق السهل، سواء في الكرِّ أو في الفرار، فلقد أخذتها من «أينياس» الذي يبث الخوف في النفوس، فدع جيادك لخادمَيْنا يتوليان أمرها، ولنقُد نحن هذَين الجوادَين على الفور ضد الطرواديين مستأنسي الخيول؛ كي يعرف هكتور كذلك أن رمحي يثور في يدي.»

هكذا قال، فلم يصم الفارس «نسطور الجيريني» أذنيه عن قوله. وقام الخادمان — «ستينيلوس» الشجاع، و«يوروميدون» الطيب، بالعناية بأفراس نسطور، وامتطى الآخران معًا عربة «ديوميديس». فأمسك «نسطور» بالأعنة اللامعة في يديه، وألهب الجياد بالسوط، فاقتربت مسرعةً من هكتور. وإذ ذاك صوَّب إليه ابن «توديوس» ضربة — وهما يطبقان عليه — ولكنه أخطأه. بيد أن خادمه وسائق عربته، «أينيوبيوس» ابن «ثيبايوس»، الجريء القلب، أُصيبَ في صدره، بجانب ثديه، وهو ممسك بالأعنة، فسقط خارج العربة، وانحرفت جياده السريعة الأقدام جانبًا، ففاضت روحه ونضبت قوته.

إذ ذاك غشي نفس هكتور حزن أليم على سائق عربته، ولكنه تركه مسجًّى، وإن أسف على زمالته، وشرع يبحث له عن سائق عربة جسور. ولم تطل حاجة الجياد إلى مسيطر؛ إذ سرعان ما عثر على ابن «إيفيتوس» — «أرخيميتوليموس» المقدام — فأمره بالصعود خلف جياده السريعة الأقدام وأسلمه الأعنة.

عندئذٍ حل الخراب، ووقعت أحداث لا سبيل إلى علاجها، وهكذا حبسوا في طروادة كالحملان، لولا أن أبا الآلهة والبشر فطن إليهم بسرعة، فأطلق رعودًا مروعة، وأرسل صاعقته الناصعة الإبراق، فألقى بها على الأرض أمام جياد ديوميديس، فارتفعت ألسنة لهب الكبريت الحارق، وأجفلت الجياد متراجعة تحت العربة وقد استولى عليها الفزع. فأفلتت الأعنة البراقة من يدي نسطور، وامتلأ قلبه بالخوف، وخاطب ديوميديس قائلًا: «أيا ابن توديوس، هيا، استدر بجيادك القوية الحوافر طلبًا للفرار. ألَا ترى أن النصر لا ينتظرك من لدن زوس؟ ها هو ذا ابن كرونوس، يمنح المجد لذلك الرجل «هكتور» في يومنا هذا، ثم يهبنا إياه فيما بعد، إذا شاء، ولا يملك امرؤ قط أن يصد إرادة زوس، مهما يكن مقدامًا؛ لأنه أقوى بمراحل، والحق يقال!»

فرد عليه ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، قائلًا: «إنك على حق، أيها الشيخ، فبالصواب نطقت، ولكن الحزن الشديد يتسلل إلى قلبي وروحي؛ لأن هكتور سيقول يومًا ما، وهو يخطب في جموع الطرواديين: «لقد أجبرت ابن توديوس على الفرار أمامي، موليًا الأدبار إلى السفن.» بهذا سيزدهي ويختال، فلتنشق الأرض وتبتلعني في ذلك اليوم!»

فأجابه الفارس «نسطور الجيريني» بقوله: «ويحي، يا ابن توديوس الحكيم القلب، ماذا تقول؟ مهما يرمك هكتور بالجبن والضعف، فإن الطرواديين والداردانيين لن يصغوا إليه، وكذلك زوجات كبار القلوب من أهل طروادة، حاملات التروس، الزوجات اللائي جندلت أزواجهن الأشدَّاء في الثرى!»

هكذا قال، واستدار للفرار بجياده القوية الحوافر — خلال الهرج السائد — فأخذ الطرواديون وهكتور يصبُّون عليه وابلًا من السهام الموجعة، في صخبٍ عجيب. وصاح هكتور العظيم ذو الخوذة البراقة، قائلًا بصوت عالٍ: «أيا ابن توديوس، لقد كان الدانيون ذوو الجياد السريعة تواقين إلى تكريمك وإيثارك — دون الآخرين — بأرفع مكان، وباللحوم والكئوس المترعة، ولكنهم الآن سيحتقرونك؛ إذ إنك — رغم كل شيء — لست خيرًا من المرأة. اذهب أيها الدمية الجبانة، فلن يكون مني إحجام وتقاعس يمكنانك من تسلق أسوارنا، كما أنك لن تقدر على حمل نسائنا في سفنك، فلسوف أسقيك كأس الحِمام قبل هذا!»

هكذا قال هكتور، فتردَّد ابن «توديوس» فيما يفعل: أيفر بجياده أم يقاتله وجهًا لوجه؟! ثلاث مرَّات تردَّد في قرارة نفسه وروحه، وثلاث مرات أرعد «زوس» الناصع — من جبال «أيدا» — معطيًا الطرواديين علامة ونصرًا، كي يحول نتيجة المعركة. وصاح هكتور بصوتٍ مرتفع يُخاطب الطرواديين بقوله: «أيها الطرواديون واللوكيون والداردانيون، يا من تقاتلون في عراك ملتحم، كونوا رجالًا يا أصدقائي، وفكروا في البطولة المستبسلة. أرى أن ابن كرونوس قد أعطاني النصر والمجد العظيم — بنية صادقة — وجعل للدانيين المحن والكروب. يا لهم من حمقى؛ إذ أقاموا هذه الخنادق الضعيفة غير النافعة، فهي لن تقاوم أو تصمد أمام قوتنا، وسوف تقفز خيولنا بسهولةٍ فوقها. وعندما أُصبح في النهاية وسط السفن الخاوية، فلا تنسوا تلك النار المهلكة، فربما أضطر إلى أن أحرق السفن بالنار، ثم أقتل الرجال. أما الأرجوسيون فسيظلون تحت الدخان، مذهولين بجانب سفنهم.

وما إن قال هذا، حتى صاح يستحث جياده: «هيا يا كسانثوس، وأنت يا بودارجوس، ويا أيثون، ويا لامبوس العظيم، الآن ردوا لي ما عليكم من دين، فإن «أندروماخي» — ابنة أيتيون الجريء القلب — قد قدمت لكم كميات وفيرة من القمح اللذيذ الطعم، وخلطت لكم الخمر لتشربوا منها ما طاب لكم أن تشربوا، فكان هذا دينًا لي عليكم؛ إذ إنني زوجها الصنديد. هيا يا جيادي، أسرعي في المطاردة، كي يمكننا أن نأخذ ترس نسطور، الذي بلغ صيته عنان السماء، ذلك الترس المصنوع من الذهب الخالص كله، حتى قضبانه، وكي نخلع عن كتفي ديوميدس مستأنس الخيول درع صدره الغنية بالزخارف والتي تَعِب هيفايستوس في صنعها له. فلو أننا استطعنا الحصول على هذين، لكان لي الأمل في أن أجبر الآخيين هذه الليلة على الفرار!»

الآخيون يشنون هجومًا مضادًّا

هكذا قال مزهوًّا، فحنقت هيرا الجليلة، وهزت نفسها فوق عرشها، فاهتز أوليمبوس الشامخ. وخاطبت الرب بوسايدون القوي، قائلة: «ويحي، يا مزلزل الأرض، يا واسع السلطان، ألم يحس قلبك في صدرك بأي عطف حتى الآن على الدانيين الذين يهلكون؟ ومع ذلك فإنهم يحضرون لك الكثير من القرابين الجميلة في هيلينا وإيجة، تبجيلًا لك، ولكنك للآن لم ترد لهم النصر! … ولو أننا عزمنا جميعًا — نحن الذين نُساعد الدانيين — على دَفْع الطرواديين إلى الوراء، وعلى إيقاف زوس ذي الصوت البعيد المدى، إذن لجلس وحده مغيظًا فوق أيدا.»

فلما اضطرب قلب السيد، مزلزل الأرض، قال لها: «أي هيرا، أيتها الطائشة الحديث، ما هذه الألفاظ التي تفوهت بها؟ لم يحدث قط أن اشتقت إلى رؤيتنا جميعًا في صراع مع زوس، ابن كرونوس، فإنه بحق أقوى منا بمراحل.»

هكذا تكلم كلٌّ منهما إلى الآخر، وكان جميع الفضاء الذي يفصله الخندق عن السفن زاخرًا بالعربات، حتى الأسوار، كما كان حاملو التروس يتزاحمون، وقد احتشدوا بجانب هكتور بن بريام، نظير «أريس» السريع الذي منحه زوس الآن مجدًا، وكاد يحرق السفن الجميلة بالنيران الملتهبة، لولا أن هيرا الجليلة حضت أجاممنون على أن ينهض ويحث الآخيين بسرعة، وعلى ذلك شق طريقه بمحاذاة أكواخ الآخيين وسفنهم، حاملًا عباءة أرجوانية كبيرة في يده القوية، واتخذ موقفه بجوار سفينة أوديسيوس السوداء، الضخمة البنيان، والتي كانت في الوسط حتى يتسنى لأية صيحة أن تصل إلى الطرفين؛ إلى أكواخ أياس بن تيلامون، وإلى أكواخ أخيل؛ إذ كان هذان قد سحبا سفنهما الجميلة إلى الطرفين القصيين، معتمدين على شجاعتهما وقوة أيديهما. فوقف هناك وأطلق صيحة مدوية، ينادي بها الدانيين بأعلى صوته قائلًا: «سحقًا لكم، أيها الأرجوسيون، يا أحقر من أنجب العار، ويا من لم تؤتوا من الشجاعة سوى مظهرها! أين ذهب فخرنا وزهونا يوم أن أعلنا ملء أشداقنا أننا أشجع الناس؟ ذلك الزهو الذي تباهيتم به يوم أن كنتم في ليمنوس، وأنتم تأكلون ملء بطونكم من لحم البقر المستقيم القرون، وتشربون الطاسات المترعة بالخمر حتى حافاتها، قائلين: إن كل امرئٍ منكم يستطيع أن يواجه مائة مقاتل، بل مائتين من الطرواديين، في حين أننا لا نستطيع الآن أن نُواجِه فردًا واحدًا، ولا «هكتور» هذا، الذي لن يلبث حتى يشعل النيران المتأججة في سفننا؟! أبتاه زوس، هل أعميت — من قبل — قلب أي من الملوك العتاة بمثل هذا العمى، وجردته من المجد العظيم؟ ومع ذلك فإنني على يقين من أنني لم أمر قط — في سفينتي ذات المقاعد — بمذبحٍ جميلٍ من مذابحك، خلال طريقي المشئوم إلى هنا، إلا وأحرقت دهن الثيران وأفخاذها، وأنا أتوق إلى تخريب طروادة المحكمة الأسوار. أي زوس، حقِّق لي هذه الرغبة: اسمح لأرواحنا — على الأقل — بالهروب والنجاة، ولا تسمح للآخيِّين بأن يَبِيدوا هكذا على أيدي الطرواديين.»

هكذا تكلم، فأشفق عليه زوس وهو يبكي، ووعده بأن ينقذ شعبه من الهلاك. وفي الحال أرسل نسرًا — وهو العلامة الأكيدة بين الطيور المجنحة — يحمل في مخالبه ظبيًا، ابن ظبية سريعة. وطار حتى مذبح زوس الجميل، وأسقط الظبي بجواره، في المكان الذي اعتاد الآخيون أن يقدموا فيه الذبائح لزوس الباعث جميع العلامات. فلما أبصروا الطائر مقبلًا من لدن زوس، ضاعفوا هجومهم على الطرواديين واهتموا بالمعركة.

عندئذٍ لم يكن لأي رجل من الدانيين، رغم كثرة عددهم، أن يفخر بأنه سبق ابن توديوس في دفع جياده السريعة عبر الخندق، حيث نازل الأعداء فرادى، فلقد كان ابن توديوس أول من قتل محاربًا، وهو «أجيلاوس» ابن «فرادمون»، إذ إنه حول جياده ليفر، غير أنه لم يكد يستدير حتى غيب ديوميديس رمحه في ظهره — بين الكتفين — ودفعه عبر صدره، فسقط من عربته يتردى، ومن فوقه صلصلت عدته الحربية.

وجاء بعده ابنا «أتريوس» أجاممنون ومينيلاوس — ثم البطلان «أياس» متدثرين بالشجاعة الثائرة، وأعقبهم «أيدومينيوس»، ورفيقه «ميريونيس»، نظير «أينواليوس» قاتل البشر. وجاء بعدهم «يوروبولوس»، ابن «يوايمون» «المجيد»، وجاء «تيوكير» تاسعهم، ناشرًا قوسه المعقوفة الظهر، فاتخذ موقفه تحت ترس أياس بن تيلامون. فكان على «أياس» إذن أن يحرك ترسه خلسة ليمكن المحارب من أن يترقب فرصته، حتى إذا ما أطلق هذا سهمًا وأصاب واحدًا من الجمع، يسقط ذلك الواحد ويلفظ روحه، وعندئذٍ يتراجع «ثيوكير» ويلجأ إلى «أياس» كطفل في كنف أمه، فيخفيه هذا بترسه المتألق!

فمن كان أول من قتلهم «ثيوكير» العظيم من الطرواديين؟ كان «أورسيلوخوس» الأول، ثم «أورمينوس»، فأوفيليستيس، فدايتور، فخروميوس، فلوكوفونتيس شبيه الإله، فأموباون بن بولوايمون، فميلانيبوس، كل هؤلاء صرعهم ثيوكير، واحدًا بعد آخر، فسقطوا على الأرض الفسيحة. فلما رآه أجاممنون — ملك البشر — سر لإحداثه الفوضى في صفوف الطرواديين بقوسه القوية، فوقف إلى جواره وخاطبه بقوله: «أي ثيوكير المحبوب، يا ابن تيلامون، قائد الجيوش، أطلق سهامك على هذا النحو، حتى توجد بصيصًا من الأمل في الإخلاص للدانيين، ومجدًا لأبيك تيلامون، الذي رباك مذ كنت طفلًا، وآواك في داره رغم أنك كنت لقيطًا، فاجلب له الشرف، رغم كونه بعيدًا جدًّا. وعلاوة على ذلك فإنني أعلن لك ما سوف يتحقق فعلًا: إذا أتاح لي زوس — حامل الترس — وأثينا، أن أخرب مدينة طروادة المتينة البناء، فسوف تكون يداك أول يدين أضع فيهما — بعد يدي — جائزة الشرف؛ سواء كانت هذه الجائزة ثلاثة جياد أو اثنين مع عربتهما، أو كانت سيدة ترقد معك في فراشك.»

فرد عليه ثيوكير المنقطع النظير بقوله: يا ابن أتريوس العظيم المجد، لِم تحضني على ما أنا متحمس له؟ الحق أنني لن أنكص طالما كانت فيَّ قوة، فمنذ أن دفعناهم صَوْب طروادة وأنا قابعٌ في انتظار الرجال بقوسي، لأعمل فيهم التقتيل. ولقد أطلقت حتى الآن ثمانية سهام طويلة الأشواك، استقرت كلها في أجساد الشبان السريعي الحركة في القتال، إلا هذا الكلب المسعور فلست أملك إصابته.»

وبعد أن تكلم أطلق سهمًا آخر من وتر قوسه نحو هكتور مباشرة، وقلبه يهفو إلى إصابته، ولكنه مع ذلك أخطأه، فأصاب السهم صدر «جورجوثيون» ابن بريام الشجاع، الذي أنجبته «كاستيانايرا» الفاتنة الأيسومية، الشبيهة بالربة، وكما يحدث في الحديقة إذ تنحني الخشخاشة المحملة بالثمار، تحت أمطار الربيع، كذلك أحنى هو رأسه المثقل بالخوذة!

وأطلق ثيوكير سهمًا آخر من وتر قوسه صوب هكتور مباشرة، وقلبه تواق إلى إصابته، ولكنه أخطأه للمرة الثانية. إذ جعل أبولو السهم ينحرف، فأصاب صدر «أرخيبتوليموس» — سائق عربة هكتور الجسور — بجانب ثديه، وهو يسرع وسط معمعة القتال، فسقط من العربة، فانحرفت الجياد السريعة الأرجل، وهنا خارت قواه وفاضت روحه. فحزن هكتور على سائق عربته حزنًا بالغًا، ومع ذلك تركه يرقد حيث هو، وأمر «كيبريونيس» شقيقه — الذي كان يقف قريبًا منه — بأن يقبض على أعنة الخيول، فأطاع الأمر دون إحجام. ثم قفز هكتور نفسه من عربته المتألقة إلى الأرض وهو يصيح صيحة مروعة، وأمسك بيده صخرة وانقض على ثيوكير يريد أن يهوي بها عليه. وكان ثيوكير في تلك الآونة قد التقط من جعبته سهمًا مريرًا، وثبته في وتر قوسه، وفيما كان يجذبه إلى الخلف، ضربه «هكتور» — ذو الخوذة البراقة — بالحجر المدبب بجانب كتفه، حيث تفصل عظمة الترقوة العنق عن الصدر — وهي البقعة الأشد مقتلًا — فقطع وتر القوس، وشل إحساس يده من عند الرسغ، فسقط على ركبتيه. وهكذا رقد، ووقعت القوس من يده. غير أن «أياس» لم يكن غافلًا عن سقطة أخيه، فأسرع يجري نحوه، ووقاه بترسه. وعندئذٍ انحنى اثنان من أخلص رفاقه — هما: «ميكيستيوس» ابن «أخيوس»، و«ألاسطور» العظيم — فحملاه، وهو يئن أنينًا مؤلمًا، إلى السفن الخاوية.

ومرة أخرى، أذكى الأوليمبي في قلوب الطرواديين، فدفعوا الآخيين في الحال إلى الخندق العميق. وانطلق هكتور وسط الصفوف الأولى يزهو بقوته. وكما يطارد كلب سريع الأقدام خنزيرًا بريًّا أو أسدًا — فيمسك به من الخاصرة أو من العجز، ويتشبث به في حذرٍ وهو يدور حول نفسه — راح هكتور يطارد الآخيين ذوي الشعر المسترسل، ذابحًا من كانوا في المؤخرة. حتى دبت بينهم الفوضى. ومروا أثناء فرارهم بين الأوتاد والخنادق، وقتل الطرواديون كثيرين منهم، ثم وقفوا إلى جانب سفنهم، ينادون بعضهم بعضًا، ورفعوا أيديهم إلى جميع الآلهة، وأخذ كل فرد منهم يصلي بحرارة. بيد أن هكتور شرع يدفع جياده الجميلة المَعْرَفة في هذا الطريق أو تلك. وعيناه أشبه بعيون الجورجون أو عيون أريس، جلاب الهلاك للبشر.

«هيرا» و«أثينا» تقرران التدخل

وإذ أبصرت بهم الربة «هيرا» — الناصعة الذراعين — أشفقت عليهم، وخاطبت في الحال «أثينا» بعبارات مجنحة قائلة: «ويحي، يا ابنة زوس — حامل الترس — هل نظل كلتانا بلا تفكير مطلقًا في الدانيين الذين يتساقطون صرعى، ولو في هذه المرة الأخيرة فحسب؟ لسوف يملئون كأس القدر الشرير، فيهلكون أمام هجوم رجل واحد، هو هكتور بن بريام، الذي يثور الآن ثورةً جامحة ما لها مثيل، والذي ارتكب كثيرًا من الآثام حقًّا!»

فقالت لها الربة أثينا ذات العينَين النجلاوَين: «حقًّا، لكم كنت أتوق إلى أن يفقد هذا الرجل قوته وحياته، مقتولًا في وطنه بأيدي الأرجوسيين، غير أن أبي مهتاج، لا يضمر خيرًا، وهو عنيدٌ، بل إنه آثمٌ يخيِّب آمالي، ولا يتذكر قط أنني كثيرًا ما أنقذت ابنه عندما كاد يهلك أثناء أدائه مهام «يوروسثيوس»، فقد كان يبكي ويتضرع إلى السماء، ومن السماء كان يرسلني «زوس» لمساعدته. ولو أنني أدركت هذا بما في قلبي من حكمة — عندما أرسله «يوروسثيوس» إلى بيت هاديس الديدبان، كي يخرج كلب هاديس المقيت من داخل أيريبوس — لما كان قد نجا من مياه نهر ستكوس التي تتدفَّق رأسيًّا. وبالرغم من هذا فإن زوس يكرهني الآن، ويستجيب لأغراض «ثيتيس» التي قبلت ركبتيه وأمسكَت ذقنه بيدها، متوسِّلة إليه أن يخلع المجد على أخيل، مخرب المدن، ولكن من المحقق أن سيأتي اليوم الذي يعود فيه فيناديني بعزيزته البراقة العينين. أما الآن فأعدي لنا جيادنا القوية الحافر، ريثما أدخل قصر «زوس» حامل الترس، وأرتدي حلتي الحربية استعدادًا للقتال، كي أرى ما إذا كان ابن بريام — هكتور ذو الخوذة البراقة — سيسر عندما نظهر معًا في الأفق على طول خنادق المعركة. نعم، من المؤكد أن كثيرًا من الطرواديين سيتخمون الكلاب والطيور بشحومهم ولحومهم، عندما يتردون بجانب سفن الآخيين.»

هكذا تكلمت، ولم تمتنع الربة «هيرا» — البيضاء الساعدين — عن الإصغاء إليها. ثم مضت هيرا — الربة الجليلة، ابنة كرونوس العظيم — تسرج الجياد الذهبية الغرة. ولكن أثينا — ابنة زوس حامل الترس — أسقطت رداءها الرقيق، الفاخر الوشي، الذي طرزته بنفسها، فوق أرض أبيها، ولبست عباءة «زوس» جامع السحب، وتأهبت في عدتها الحربية، لأجل الحرب المحزنة. ثم اعتلت العربة المتوهجة وأمسكت برمحها الثقيل، الكبير القوي، الذي تفنى به صفوف الرجال من المحاربين الذين تغضب عليهم، وهي ابنة الرب العظيم. ولمست «هيرا» الجياد بالسوط، فانفتحت أبواب السماء من تلقاء نفسها وهي تصرُّ على مفصلاتها، تلك الأبواب التي تقوم آلهة الساعات على حراستها، والتي عهد إليها بالسماء العظيمة وأوليمبوس، بحيث إن لها أن تبدد السحب الكثيفة أو تحشدها. وخلال هذه الأبواب، ساقت الربتان جيادهما التي تحتمل المنخس بصبر.

بيد أن الأب زوس أبصر بهما من أيدا، فاستشاط غضبًا، وأرسل لفوره «أريس» الذهبية الجناحين برسالة، وقال لهما: «اذهبي يا أريس السريعة، ورديهما على أعقابهما، ولا تحمليهما مشقة مقابلتي وجهًا لوجه، فلن تكون لالتقائنا في عراك عاقبة سعيدة. إن ما أقوله الآن هو ما سيحدث فعلًا فلسوف أمسح جيادهما السريعة في العربة وأقذف بهما منهما، وأحطم العربة إربًا، ولن يبرئهما انقضاء عشر سنوات متتابعة، من الجراح التي تُسبِّبها لهما الصاعقة؛ كي تعرف ذات العينين البراقتين العاقبة، إذا ما ناضلت ضد أبيها. أما هيرا فلست أحمل لها مزيدًا من ضغينةٍ أو غضب؛ إذ إنها اعتادت أن تعارضني دائمًا فيما أتخذ من قرارات!»

هكذا قال، فانطلقت «إيريس» السريعة القدمين لتبلغ الرسالة، وذهبت لتوها من جبل أيدا إلى أوليمبوس الشاهق. فالتقت عند مدخل أوليمبوس العديد الذؤابات، واستوقفتهما، وأبلغتهما ما قاله زوس، قائلة: «إلى أين تسعيان؟ لِم جن قلباكما في صدريكما؟ إن كرونوس يحرم عليكما أن تقدما المعونة للأرجوسيين، بل إنه توعَّد وسينفذ وعيده: فسوف يمسخ جيادكما السريعة في عربتكما، ويقذف بكما خارجها، ويحطم العربة ذاتها إربًا، ولن تبرأ جراحكما التي ستسببها لكما الصاعقة، في مدى عشر سنوات متتاليات، كي تعلمي يا ذات العينين النجلاوين، معنى صراعك ضد أبيك، أما هيرا فإنه لا يحمل لها مزيدًا من ضغينة ولا حقد؛ إذ إنها متعودة على أن تعارضه باستمرارٍ في كل قرارٍ يتخذه. ولسوف تكونين متهورة، وغاية في الجرأة والجسارة، إذا تجاسرت على رفع رمحك القوي ضد زوس!»

فلما أتمَّت أيريس السريعة القدمين ما قالته، خاطبت هيرا أثينا بقولها: «ويحي، يا ابنة زوس حامل الترس! حقًّا أنني لن أحتمل الآن أن يشن كلانا الحرب ضد زوس من أجل بني الإنسان. فليهلك هذا، وليعش ذلك، كلٌّ لما قدر له من مصير، أما زوس، فليتخذ قراره في فؤاده، وليقضِ على الطرواديين وعلى الدانيين بما يحلو له!»

وإذ قالت هذا، رجعت أدراجها بخيولها القوية الحافر. وعندئذٍ قامت الساعات عنهما برفع النير عن جيادهما الجميلة المَعْرَفة، وعقلتها عند مذودها الحافل بالغذاء الإلهي الشهي، وأسندت العربة على سور المدخل اللامع. ثم جلست الربتان فوق عرشَين من الذهب وسط الآلهة الآخرين، وبقلبيهما حزن مكين.

ولكن الأب زوس قاد عربته — المتينة العجلات — وجياده من أيدا إلى أوليمبوس، وتوجه إلى مجلس الآلهة. فقام عنه مزلزل الأرض الذائع الصيت برفع النير عن جياده، ووضع العربة في مربطها، ونشر فوقها الغطاء، ثم جلس زوس، البعيد النظر، فوق عرشه الذهبي، فاهتز أوليمبوس العظيم تحت قدميه. وكانت «أثينا» و«هيرا» هما الوحيدتان اللتان جلستا بمنأى عن زوس، ولم تُخاطباه بكلمة واحدة، أو تسألاه شيئًا. غير أنه كان منتبهًا — في قرارة قوله — إلى ذلك، فخاطبهما بقوله: «ماذا يحزنكما، يا أثينا وهيرا؟ من المؤكد أنكما لم تتعبا من إثارة الفوضى في معركة الطرواديين المجيدة؛ إذ إنكما تكنان لهم كراهية بالغة فليحدث ما يحدث، فطالما أملك قوة لا تقاوم، فإن جميع من في أوليمبوس من الآلهة لن يستطيعوا أن يثنوني عن عزمي. أما أنتما الاثنتان فقد حلَّت الرجفة بأطرافكما اللامعة، حتى قبل أن تُشاهدا الحرب وأعمال الحرب الفظيعة. فهكذا أقول وهو ما كان خليقًا بأن يتحقق فعلًا، ولو أنكما رزئتما بالصاعقة، لما أمكنكما العودة بعربتكما إلى أوليمبوس، حيث مسكن الخالدين.»

هكذا تكلم، فتمتمت أثينا وهيرا، اللتان كانتا تدبران المصائب للطرواديين، وهما تجلسان بالقرب منه. وتمالكت أثينا نفسها، فلم تقُل شيئًا، إذ كان الغضب الجامح والسخط يتملكانها نحو أبيها «زوس»؛ ولكن صدر «هيرا» كان خلوًا من مثل غضبها، فتحدثت إليه قائلة: «يا ابن كرونوس المهيب إلى أقصى حد، ما هذا القول الذي نطقت به؟ إننا نعلم علم اليقين — من تلقاء أنفسنا — أن قدرتك ليست بالضعيفة، ولكننا مع ذلك نشفق على الرماحين الدانيين الذين سيفنون الآن ويلقون مصيرًا سيئًا. ومع ذلك فلسوف نكف أيدينا عن المعركة إذا أنت أمرت بذلك غير أننا سنقدم للأرجوسيين النصح الذي فيه نفعهم، حتى لا يهلكوا جميعًا بسبب غضبك».

فرد عليها زوس، جامع السحب، قائلًا: «أي هيرا الجليلة، يا ذات عيون المها، ستُشاهدين عند الفجر — إذا طاب لك — الابن الأقوى لكرونوس، وهو يُحدث شغبًا أقسى إيلامًا، بين جيش الرماحين الأرجوسيين الكبير؛ لأن «هكتور» المرهوب الجانب لن يكفَّ عن القتال إلا بعد أن ينهض «ابن بيليوس» — السريع القدمين — بجانب السفن، يوم يتقاتلون بين مؤخرات السفن، قتالًا لا هوادة فيه، حول «باتروكلوس» الصريع، فهكذا قدرت السماء. أما أنت، فلن أكترث لغضبك، كلا، ولو ذهبت حتى إلى آخر حدود الأرض والبحر حيث يقيم «أيابيتوس» و«كرونوس» لا ينعمان بأشعة «هيليوس هوبيريون» أو بأي نسيم، بل تُحيط بهما تارتاروس العميقة، من كل جانب. ومع أنكِ قد تذهبين إلى هناك في إحدى جولاتك، إلا أنني لن أحفل بغضبك أبدًا؛ إذ لا يوجد من هو أكثر خزيًا منك!»

هكذا تكلم، ولكن «هيرا» — البيضاء الساعدين — لم تنطق ببنت شفة لترد عليه. وبعد ذلك سقط ضوء الشمس اللامع في «أوقيانوس»، جاذبًا الليل الداجي فوق وجه الأرض، واهبة الحب. فانصرف ضوء النهار على غير رغبةٍ من الطرواديين، ولكنه صادَف سرورًا من الآخيين الذين صلوا ثلاث مرات لمجيء ظلمة الليل.

بعد ذلك عقد «هكتور» المجيد اجتماعًا للطرواديين، وقادهم بعيدًا عن السفن بجانب النهر — في العراء — حيث كانت الأرض خلوًا من الموتى.

اجتماع في معسكر الطرواديين

وفي الحال ترجلوا من عرباتهم إلى الأرض، ليستمعوا إلى الكلمة التي يلقيها «هكتور» — حبيب زوس — في جمعهم، وكان يمسك في يده رمحًا طوله أحد عشر ذراعًا، وقد تألق أمام وجهه رأس الرمح البرونزي الذي كانت تحيط به حلقة من الذهب. وما لبث أن اتكأ على الرمح، وألقى كلمته وسط الطرواديين، فقال: «أيها الطرواديون، والدانيون والحلفاء، اسمعوا وعوا. كنت آمل أن ننزل الدمار الآن بالسفن وبجميع الآخيين، ثم نعود ثانية إلى طروادة ذات الرياح، بيد أن الظلام تعجل إرخاء سدوله، فكان هذا منقذًا للأرجوسيين وسفنهم التي على شاطئ البحر. إذن فلنستسلم لليل البهيم، ونعد عشاءنا، خلوا الجياد ذوات المعارف الجميلة عن العربات وضعوا أمامها العلف، وأحضروا الثيران والأغنام الطيبة بسرعةٍ من المدينة واجلبوا النبيذ العسلي المذاق والخبز من بيوتكم، وعلاوة على ذلك اجمعوا كثيرًا من الحطب حتى نشعل كثيرًا من النيران، فيصل وهجها إلى عنان السماء حتى مطلع الفجر، لئلا يسرع الآخيون — ذوو الشعر المسترسل — بالفرار فوق ظهر البحر الفسيح، تحت الظلام. كلا، يجب ألَّا يعتلوا ظهور سفنهم دون معركة، ولكن ضعوا نصب أعينكم أن يحمل كثيرون منهم جراحًا يعالجونها في وطنهم، بأن يصاب كلٌّ منهم بسهمٍ أو رمح حاد الطرف وهو يقفز إلى سفينته، حتى يرهب الآخرون إثارة الحرب المبكية ضد الطرواديين مستأنسي الخيول. وليعلن المنادون — أحباء زوس — في سائر أنحاء المدينة أن على الصبايا والرجال المسنين — الذين وخط الشيب جباههم — أن يجتمعوا حول المدينة، فوق الشرفات التي بناها الآلهة، ولتشعل كل امرأة نارًا عظيمة في ساحتها، ولتكن هناك حراسة يقظة، خشية أن يتسلل كمين إلى المدينة في غيبة الجيش. ليكن الأمر — أيها الطرواديون العظيمو القلوب — كما أعلنه لكم، وليقم بيننا الرأي السليم. ولسوف أزيدكم نصحًا عند الفجر، وسط الطرواديين مستأنسي الخيول. وإنني لأواصل الصلاة بأملٍ عظيمٍ لزوس والآلهة الآخرين؛ كي يطردوا من هنا أولئك الكلاب الذين حملتهم الأقدار، فوق سفنهم السوداء. ومع كلٍّ فلسوف نُواصل الحراسة أثناء الليل، ثم نُثيرها — في الصباح، مع مطلع الفجر — حربًا شعواء، ونحن في عدتنا الحربية، عند السفن الخاوية، وسوف أعلم ما إذا كان «ديوميديس» القوي — ابن «توديوس» — سيدفعني بعيدًا عن السفن حتى الأسوار، أو أنني سأقتله بالرمح البرونزي، وأحمل غنائمه الملطخة بالدماء. غدًا سيعرف مبلغ شجاعته، وهل يستطيع الصمود أمام هجمة رمحي. لسوف يتردى. وسط الصفوف الأولى، بضربة من رمحي — على ما أعتقد — وحوله عدد كبير جدًّا من زملائه، صرعى كذلك عند مشرق الشمس في الغد. آه، ليتني أطمئن إلى الخلود وعدم الشيخوخة طول حياتي، وأن أُبجَّل مثل «أثينا» و«أبولو»، بكل الثقة التي أطمئن بها إلى أن هذا اليوم سيجلب الشر على الأرجوسيين.»

figure
«كلوتمنسترا» — زوجة أجاممنون — تستقبل ابنها «أوريستوس».

هكذا خاطب «هكتور» جَمْعهم، فصاح الطرواديون بصوتٍ عالٍ ردًّا على كلامه، وفكوا خيولهم المبللة بالعرق — من تحت النير — وقيدوها بسيور من الجلد، وكان كل رجل بجانب عربته. وسرعان ما أحضروا الثيران والأغنام الكبيرة من المدينة، كما أحضروا لأنفسهم — من بيوتهم — نبيذًا حلوًا كالشهد وخبزًا، وجمعوا مقدارًا عظيمًا من الحطب، وقدموا للخالدين ذبائح مئوية تحقق الرجاء. وعبر السهل، حملت الرياح رائحة الشواء إلى عنان السماء، رائحة حلوة، ولكن الآلهة المقدسة لم تنَلْ نصيبها منها، ولم يكن في نيتها ذلك؛ إذ إنها كانت تمقت طروادة المقدسة — وكذلك بريام وشعبه ذا الرماح الدردارية الطويلة — مقتًا عظيمًا.

ولكن هؤلاء جلسوا طوال الليل — بآمال عالية — على طول خنادق القتال، وكانت نيرانهم تتأجج في مجموعات. وكما يحدث في السماء حول القمر المنير؛ إذ تتألَّق النجوم بسناها — عندما يكون النسيم هادئًا في الفضاء الواسع — فتظهر سائر قمم الجبال والمرتفعات الأرضية والممرات العالية أمام عيني الناظر، وينساب الهواء اللانهائي من السماء، وتتجلَّى كل النجوم، فيتهلَّل قلب الراعي، هكذا كانت حال هذا الجَمْع بين السفن ومجاري كسانثوس المائية؛ إذ تألقت النيران التي أشعلها الطرواديون أمام طروادة. فكنت تشاهد آلاف النيران مستعرةً في السهل، وإلى جوار كلٍّ منها جلس خمسون رجلًا في وهج اللهب المتأجج. وإلى جوار عرباتهم كانت خيولهم تأكل الشعير الأبيض والجويدار، في انتظار بزوغ الفجر ذي العرش الجميل.

١  تريتوجينيا: اسم كان «زوس» يدلل به «أثينا» التي كانت تدين له وحده بمولدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤