الأنشودة الحادية عشرة

«… وأخيرًا وجدا «أوديسيوس» — حبيب زوس — وقد التف حوله الطرواديون يهاجمونه كما تهاجم بنات آوى، النحاسية اللون، ظبيًا مقرنًا كان قد جرح لتوه …»

بالرغم من أعمال «أجاممنون» المجيد، فإن الطرواديين شددوا الهجوم على الآخيين. ثم بدأ الشر يحيق بباتروكلوس … إلخ.

اليوم الثالث للقتال

وفي هذه الأثناء، بزغ الفجر من عربته بجوار «تيثونوس» المجيد. لينشر النور على الخالدين والبشر فأرسل «زوس» إلى سفن الآخيين السريعة «أيريس» المروعة، تحمل في يديها علامة الحرب. فاتخذت وقفتها إلى جانب سفينة «أوديسيوس» السوداء، الضخمة الهيكل — إذ ذاك في الوسط — حتى تبلغ صيحتها كلًّا من الطرفين، وتترامى إلى أكواخ أياس بن تيلامون، وأكواخ «أخيل»؛ لأن هذين كانا قد سحبا سفنهما الجميلة إلى أقصى الطرفين، معتمدين على شجاعتهما وقوة سواعدهما. فوقفت الربة هناك وأطلقت صرخة مدوية مفزعة، وبثت في قلب كل رجل من الآخيين قوة عظيمة للحرب والقتال المستمرين. فتحمسوا للحرب وامتلئوا حمية، وفضلوا القتال على العودة في سفنهم الخاوية إلى بلادهم العزيزة!

وصاح ابن أتريوس عاليًا، وأمر الأرجوسيين بتنظيم أنفسهم للمعركة ولبس البرونز البراق وهو في وسطهم. فوضع الدروع أولًا حول ساقيه — وكانت جميلة، ومثبتة بقطع فضية عند العقبين — ثم لبس حول صدره الدرقة التي كان «كونيراس» قد أهداه إياها عندما نزل ضيفًا عليه، فهناك في قبرص — رغم بعدها — سمع «كونيراس» تلك الشائعة القوية على أن الآخيين كانوا على وشك الإبحار في سفنهم إلى طروادة؛ ولذا قدم الدرقة الصدرية إلى الملك لتدخل السرور إلى نفسه. وكانت مزينة بعشرة خطوط من «الميناء» القاتمة، واثني عشر خطًّا من الذهب، وعشرين من القصدير، وثعابين من الميناء ملتوية الأعناق، ثلاثة في كل جانب، أشبه بقوس قزح الذي أقامه ابن كرونوس في السحب، إشارة للبشر. وعلق على كتفه سيفه، الذي كانت تزينه أزرار من الذهب، وكان غمده المصنوع من الفضة مثبتًا بسلاسل ذهبية. وحمل ترسه المكين، المرصع ترصيعًا فاخرًا، ليصونه من الجانبين. وكان ترسًا جميلًا، تحيط به عشر دوائر من البرونز، ومن فوقها عشرون قوسًا من القصدير الأبيض اللامع، وتتوسطه دائرة من الميناء الدكناء. وكانت الجورجون، القبيحة المنظر، مثبتة كتاج، تحملق بفظاعة وقد أحاطت بها ربات الفزع والشغب. وكانت تتدلى من الترس حمائل من الفضة زينت بثعبان من الميناء ذي ثلاثة رءوس — ملتوية في هذا الاتجاه وذاك — وقد انبثقت من عنق واحد، ثم ارتدى خوذته التي يعلوها قرنان وأربع خطوط محدودبة وخصلة من شعر الخيل وكانت الريشة تهتز فوقها بشدة. وأخذ رمحين عتيدين، مدببين بالبرونز، وكانا حادَّين. وأخذ البرونز يومض إلى بعد شاسع، نحو السماء. وعند ذلك أرعدت «أثينا» و«هيرا»، تبجيلًا لملك موكيناي، الكثير الذهب.

وأقبل كل رجل — بعد ذلك — يلقي أمره على سائقه، بأن يمسك جواديه بعناية ونظام عند الخندق، وأن يكون مترجلًا، مجهزًا بعدته الحربية، يسير متقدمًا بسرعة. وما إن أقبل الفجر، حتى انبعثت صيحة مدوية لا تخمد. وكانوا متأهبين عند الخندق، يتبعهم سائقوهم على مسافة قصيرة، وقد أثار ابن كرونوس بينهما ضجيجًا شريرًا، وأرسل قطرات الندى المشبعة بالدماء، من أعلى إلى أسفل، إذ كان على وشك إرسال كثير من الرؤساء الجسورين إلى هاديس!

أما الطرواديون فقد اجتمعوا في أرض السهل المرتفعة — في الجانب المقابل لهم — واحتشدوا حول «هكتور» العظيم و«بولوداماس» المنقطع النظير، و«أينياس» الذي كان الطرواديون يبجلونه كإله، وأبناء «أنتينور» الثلاثة: «بولوبوس» و«أجينور» العظيم، و«أكاماس» الصغير الشبيه بالخالدين. وكان «هكتور» بين المحاربين — في المقدمة — يحمل ترسه المتزن تمامًا من كل جانب. وكما يلمع النجم الضار خلال السحب — في سناء خلاب — ثم يختفي ثانية وراء الغيوم القاتمة، هكذا كان «هكتور» يبدو تارةً وسط محاربي المقدمة، وطورًا بين مقاتلي المؤخرة، يُصدر إليهم أوامره، وهو يتألَّق — وقد اكتسى كله بالبرونز اللامع — كأنه برق الأب زوس حامل الترس!

مغامرات «أجاممنون»

وكالحصادين في حقل قمح أو شعير لرجل ثري، إذ يدفعون الحزم بسرعة، كل نحو الآخر، فتتراكم الحزم وتزداد علوًّا ومتانة، هكذا أيضًا قفز كلٌّ من الطرواديين والآخيين، بعضهم على بعض، محدثين دمارًا. وما كان ليخطر ببال أيٍّ من الطرفين أن يركن إلى الفرار المهلك، فخاضوا المعركة رءوسًا متعادلة، وهاجوا كالذئاب. وكانت «أيريس» — الممتلئة بالأنين البالغ — مغتبطةً وهي تشاهد ما يدور؛ لأنها وحدها، دون الآلهة، كانت بين المحاربين وسط المعركة، بينما كان الآلهة الآخرون في قصورهم سالمين؛ إذ شيد لكلٍّ منهم قصر جميل بين أطواء أوليمبوس. وراح الجميع يعتبون على ابن كرونوس — سيد الغيوم الدكناء — عزمه على أن يمنح المجد للطرواديين. ومع ذلك فإن الأب لم يلتفت إليهم، بل جلس في عزلةٍ عن الآخرين، ينعم في مجده بعيدًا، وهو ينظر إلى مدينة طروادة وسفن الآخيين — على وميض البرونز — وإلى القتلة والمقتولين!

وكلما ازداد الصبح انبلاجًا، وتقدم النهار المقدس، كانت الرماح تزداد سدادًا نحو أهدافها، فراح الناس يتساقطون، حتى إذا حانت الساعة التي يعد فيها الحطاب طعامه في ممرات أحد الجبال — وقد كلَّ ساعداه من قطع الأشجار العالية، وحل التعب بروحه، واستبدت بقلبه الرغبة في الطعام الشهي — حطم الدانيون بشجاعتهم كتائب الأعداء، وهم ينادون زملاءهم وسط الصفوف. فهجم «أجاممنون» إلى قلب الأعداء بعيدًا عن المقدمة، وقتل المحارب «بينور» — راعي الجيش — ومن بعده زميله «أوليوس»، سائق الخيول، فلقد وثب «أوليوس» من عربته ووقف أمامه، فهجم عليه الملك بغتة وضربه على جنبه برمحه الحاد، ولم ينثنِ الرمح من جراء خوذته البرونزية الثقيلة، بل إنه نفذ خلالها وخلال العظام، فتناثر مخه كله داخلها. وهكذا صرعه في عنفوانه. وما لبث «أجاممنون» — ملك البشر — أن ترك هذين هناك يلمعان وقد تعرى صدراهما — بعد أن خلع عنهما عباءتيهما — وذهب ليقتل «أسوس» و«أنتيفوس» ولدي بريام — وكان أحدهما ابن سِفاح، والآخر وليد زواج شرعي — إذ كانا في عربةٍ واحدة. وكان ابن السفاح يمسك بأعنة الخيل، بينما كان «أنتيفوس» المجيد يقف إلى جواره ليقاتل. وكان «أخيل» ذات مرة قد كبلهما بأغصان الصفصاف اللدنة، وسط مروج أيدا، إذ قبض عليهما وهما يرعيان الأغنام، ثم أطلق سراحهما مقابل فدية. أما الآن، فقد انقض ابن أتريوس، «أجاممنون» الواسع السلطان، فضرب أسوس في صدره — فوق الثدي — برمية من رمحه. كما أصاب «أنتيفوس» بضربة قوية من سيفه بجانب أذنه، وألقى به من العربة. ثم أسرع ليجرد كليهما من عدته الحربية الفاخرة، وكان يعرفهما معرفة جيدة؛ لأنه رآهما قبل ذلك بجانب السفن السريعة، عندما جاء بهما «أخيل» السريع القدمين من أيدا. وكما يفتك الليث في سهولةٍ بصغار الغزالة السريعة العدو، عندما يقبض على الصغار بأنيابه القوية، بعد الانقضاض عليها في وكرها، فيسلبها حياتها الوادعة، والأم لا تملك أن تذود عنها، مهما تكن قريبة جدًّا منها؛ لأنها تخاف أن تحل بها نفس الرجفة المفزعة، فتطلق العنان لأقدامها خلال الشجيرات الكثيفة إلى الغابة، فيتساقط عرقها أمام هجمة ذلك الحيوان المتوحش، هكذا أيضًا لم يكن في وسع أيٍّ من الطرواديين أن يبعد الهلاك عن هذين الأخوين، بل اضطروا جميعًا إلى الفرار أمام الأرجوسيين.

وبعد ذلك هجم «أجاممنون» على «بايساندر»، وعلى «هيبولوخوس» الجريء في القتال، ابني «أنتيماخوس» الحكيم القلب، الذي أبى — أكثر من سواه — أن ترد هيلينا الجميلة الشعر ثانية إلى «مينيلاوس»، أملًا في أن يتلقى ذهبًا من «باريس»، وهدايا قيمة. ولقد هاجم الملك «أجاممنون» ولديه، وكانا في عربةٍ واحدة يحاولان قيادة الجياد المسرعة، لأن الأعنة البراقة أفلتت من أيديهما، وراح الجوادان السريعان يجريان جامحين. فهجم ابن أتريوس على المحاربين، كأنه الليث الهصور، فتوسل إليه كلاهما. قائلين: «خذنا أحياء يا ابن أتريوس، واقبل فديةً ثمينة، فإن قصر أبينا «أنتيماخوس» زاخر بكنوز كبيرة من البرونز والذهب والحديد، المشغولة بالكد والتعب، وإن أبانا ليمنحك منها فدية تفوق الحصر، إذا ما سمع أننا لا نزال على قيد الحياة، عند سفن الآخيين.»

هكذا راح الأخوان يستعطفان الملك برقيق الألفاظ والبكاء. غير أن الصوت الذي سمعاه كان بالغ الفظاظة، إذ قال: «إذا كنتما بحق ولدي أنتيماخوس الحكيم القلب، فقد أمر أبوكما يومًا بقتل «مينيلاوس»، في حشد الطرواديين، عندما قدم إليه في سفارة مع «أدوديسيوس» العظيم ولم يسمح له بالعودة إلى الآخيين، فعليكما الآن أن تدفعا بحق ثمن إساءة أبيكما الحمقاء.»

قال هذا، ودفع «بايساندر» عن عربته إلى الأرض، وطعنه برمحه في صدره، فسقط إلى الوراء على الأرض، ولكن «هيبولوخوس» قفز إلى أسفل، فقتله ابن أتريوس، على الأرض. وما إن بتر ساعديه بالسيف، وأطاح بعنقه، حتى تركه يتدحرج كجلمود صخر وسط الجمع. فترك «أجاممنون» هذين. ولما كانت الكتائب في هرج ومرج بالغين، فإنه وثب إلى وسطها، بصحبة نفرٍ من الآخيين الآخرين المدرعين جيدًا. وكان المشاة لا ينفكون يقتلون المشاة الذين كانوا يولون الأدبار تحت الضغط، والفرسان يصرعون الفرسان، وقد أثارت حوافر الخيل الغبار من السهل فتصاعد من تحت أرجلهم إلى فوق، وأعملوا الهلاك فيهم بالبرونز. وكان الملك أجاممنون يتبعهم، دون أن يكف عن القتل، وهو يستحثُّ الأرجوسيين. وكما يحدث عندما تضطرم النيران النهمة في غابة كثيفة، فتحملها الريح السريعة الدوران في سائر الأرجاء، هنا وهناك، فتتهاوى الدوح بمجرد أن يهاجمها اللهب المتدافع، هكذا أيضًا كانت رءوس الطرواديين تسقط — تحت «أجاممنون بن أتريوس» — وأصحابها ينشدون الفرار. وكم من جياد ذات أعناق متلعة، راحت تقعقع بالعربات الخالية من أصحابها، على طول خنادق المعركة، وقد فقدت سائقيها المنقطعي النظير، الذين رقدوا فوق الأرض طعمة لجوارح الطير، أعز عليها من أليفاتها وزوجاتها!

وأقصى زوس «هكتور» عن طريق الرماح والغبار، في مذبحة البشر وغمرة الدماء والطنين، ولكن ابن أتريوس ظل يتابع سيره، مناديًا بعنف على الدانيين، الذين انطلقوا مسرعين عبر قبر «ألوس» القديم — «ألوس بن داردانوس» — حتى بعد منتصف السهل، وعبر شجرة التين البرية، محاولين الوصول إلى المدينة جهد طاقتهم. وكان ابن أتريوس يتبعهم باستمرارٍ صائحًا، وقد تلطَّخت بالدماء يداه المنيعتان. وما إن بلغوا أبواب «سكاي» وشجرة البلوط، حتى وقف الجيشان وأخذ كلٌّ منهما ينتظر الآخر. ومع ذلك فقد كان بعضهم لا يزال يفر في فوضى وسط السهل، كقطيعٍ من الأبقار شتَّتها ليث غضنفر في دجى الليل، فتفرقت على غير هدى، ولكن واحدة منها هي التي قدر لها أن ترى الهلاك التام؛ إذ أمسك الليث بعنقها — أولًا — بين أنيابه القوية وهشمه، ثم راح يلعق الدم وينهش جميع الأجزاء الداخلية، هكذا — وعلى هذه الصورة — راح الملك أجاممنون بن أتريوس، يتبع الطرواديين عن كثب، وهو يعمل القتل باستمرار في المؤخرة، فركن الآخرون إلى الفرار بغير نظام. وسقط كثيرون من عرباتهم منكفئين على وجوههم أو منطرحين على ظهورهم تحت يدي ابن أتريوس، إذ كان ينقض برمحه على مَن حوله ومن أمامه! غير أنه عندما أوشك على الوصول إلى المدينة والسور المرتفع، هبط أبو البشر والآلهة من السماء، وجلس فوق ذؤابات أيدا — الجبل الكثير الينابيع — وقد حمل في يدَيه صاعقة. فأرسل في الحال «أيريس» الذهبية الجناحين، لتحمل رسالته، قائلًا لها: «اذهبي، يا أيريس — أيتها السريعة — وأعلني هذه الكلمة لهكتور: إن عليه أن يتقهقر — ما دام يرى أجاممنون، راعي الجيش، ثائرًا وسط محاربي الصفوف الأولى، ناشرًا الهلاك في صفوف الرجال — وأن يأمر بقية الجيش بمقاتلة العدو في عراك عنيف. أما إذا جُرح أجاممنون بطعنة من رمح أو أُصيب بسهم، وقفز فوق عربته، فإنني سأمنح هكتور القوة التي تخوله أن يقتل ويمضي في القتل، إلى أن يصل إلى السفن ذات المقاعد المتينة. ثم تغرب الشمس وتخيم الظلمة المقدسة.»

هكذا قال، فانطلقت «أيريس» بأقدامٍ تسابق الريح لتنفيذ أمره، وهبطت من تلال أيدا إلى طروادة المقدسة. وعندئذٍ وجدت «هكتور» العظيم — ابن «بريام» الحكيم القلب — واقفًا إلى جانب جياده وعربته ذات المفاصل، فاقتربت منه أيريس السريعة القدمين وتحدثت إليه قائلة: «أي هكتور، يا ابن بريام، يا نظير زوس في سداد الرأي، إن الأب زوس قد بعثني إليك لأعلنك برسالته هذه: إذا رأيت أجاممنون — راعي الجيش — هائجًا وسط محاربي الصفوف الأولى، ناشرًا الهلاك في صفوف الرجال، فعليك أن تتقهقر وأن تأمر بقية الجيش بأن يقاتل العدو في عراكٍ عنيف. أما إذا جُرح أجاممنون بطعنة رمح، أو أُصيب بسهم، فإنه سيقفز فوق عربته، وعندئذٍ سيمنحك زوس القوة التي تخولك أن تقتل وتمضي في القتل إلى أن تصل إلى السفن ذات المقاعد المتينة، ثم تغرب الشمس وتسود الظلمة المقدسة.»

وما إن قالت «أيريس» السريعة القدمين هذا، حتى انصرفت، فقفز هكتور في عدته الحربية من عربته إلى الأرض، يلوح برمحيه الحادين، منطلقًا إلى كل مكان وسط الجيش، يحث الرجال على القتال. وأثار وطيس المعركة الطاحنة. وهكذا استجمع الطرواديون قواهم، واتخذوا وقفتهم صوب الآخيين، وعزَّز الأرجوسيون في الجهة المقابلة فرقَهم، ونظمت المعركة، فوقفوا بعضهم في مواجهة بعض، وفي وسطهم هجم أجاممنون موغلًا في المقدمة، تواقًا إلى أن يسبق الجميع.

«أجاممنون» يصاب بجرح

والآن، خبِّريني، يا عرائس الشعر، يا من تسكن فوق أوليمبوس، من الذي جاء أولًا لمواجهة أجاممنون: أكان من الطرواديين أنفسهم أم من حلفائهم الذائعي الصيت؟ إنه كان «أفيداماس بن أنتينور»، البطل الصنديد الفارع الطول، الذي ترعرع في تراقيا العميقة التربة، ذات القطعان الكثيرة، والذي رباه «كيسيوس» في بيته، يوم أن كان طفلًا صغيرًا. وكان «كيسيوس» هذا جده لأمه، الذي أنجب «ثيانو» الجميلة الخدين، وعندما بلغ «أفيداماس» مبالغ الشباب المجيد، سعى جدُّه كي يبقيه هناك، وعرض عليه ابنته. غير أنه رحل، وهو بعد «عريس» حديث الزواج، وهجر مخدع زواجه — إذ سمع شائعة مجيء الآخيين — وتبعته اثنتا عشرة سفينةً مدببة. فترك تلك السفن الجميلة الشكل عند بيركوتي، وسار هو شخصيًّا حتى وصل إلى طروادة بطريق البر، فكان هو الذي تقدم الآن ليواجه أجاممنون بن أتريوس. فلما اقتربا — وهما يتقدمان كلٌّ في مواجهة الآخر — أخطأ ابن أتريوس الرماية، فمال رمحه جانبًا، ولكن «أفيداماس» طعنه في خاصرته أسفل الدرقة، وبثَّ كل قوته في ضربته، معتمدًا على يده الثقيلة، ولكن الرمح لم يخترق الحزام البراق، وإنما أصاب طرف الرمح الجزء الفضي، فانثنى وكأنه من قصدير. فأمسك «أجاممنون»، الواسع الملك، الرمح من يد غريمه وجذبه إليه في غضب، وكأنه أسد، منتزعًا إياه من يد «أفيداماس»، ثم هوى بسيفه على عنقه فأرخى أطرافه؛ ومن ثم سقط هناك يتردى، ونام نومة البرونز،١ ذلك الشاب التعس، بعيدًا عن زوجته التي تزوجها، بعيدًا عن العروس التي لم يحظَ بالهناءة معها، ومع ذلك فقد تكبَّد الكثير من أجلها؛ إذ قدم لها أولًا مائة بقرة، ووعد بأن يقدم لها فيما بعد ألفًا من الماعز والأغنام التي يملكها في قطعان لا حصر لها.
وبعد ذلك جرده أجاممنون بن أتريوس من عدته، ثم سار وسط حشد الآخيين حاملًا العدة الحربية المتينة. على أن «كئون» — المبرز وسط المحاربين، وأكبر أبناء أنتينور — لم يكد يراه، حتى أعشى عينيه حزن شديد، من أجل مقتل أخيه، فانتحى برمحه جانبًا، دون أن يراه الملك «أجاممنون»، ثم عاجله بطعنة نجلاء، أصابت ساعده أسفل المرفق، ونفذ طرف الرمح البراق بسرعة. وإذ ذاك ارتجف أجاممنون ملك البشر — ولكنه لم يكف عن القتال والحرب، وإنما قفز على كئون، والرمح المقسي بالريح٢ في يده. وكان كئون يجر — في لهفة — أفيداماس من قدميه، كان يسحب شقيقه ابن أبيه، وهو ينادي جميع الشجعان من قومه. وبينما هو يجره خلال الحشد، طعنه «أجاممنون» برميةٍ من رمحه المطلي بالبرونز، تحت درعه المزخرف، فأرخى أطرافه. ثم اقترب منه وحز رأسه، فرقد «أفيداماس» رقدته الأخيرة، وهكذا لقي ابنا أنتينور حتفهما على يدَي الملك، ابن أتريوس وذهبا إلى بيت هاديس.
سار «أجاممنون» بمحاذاة صفوف المحاربين الآخرين، يحمل الرمح والسيف والأحجار الضخمة. وكان الدم ما زال يتدفق ساخنًا من جرحه. وما إن جف الجرح، وامتنع تدفق الدم، حتى انتابت ابن أتريوس العتيد آلام مبرحة. وكما يحدث عندما يصيب السهم الحاد امرأة في المخاض، سهم «الإيليثواي»،٣ ربات ميلاد الأطفال، وبنات «هيرا»، اللائي يحتفظن بالأوجاع المريرة، هكذا حلت الآلام المبرحة على ابن أتريوس العتيد. فقفز إلى عربته وأمر سائقه بالتوجه صوب السفن الخاوية. إذ كان متألم الفؤاد. وأطلق صيحة مدوية، مناديًا الدانيين بقوله: «أصدقائي، قادة وحكام الأرجوسيين، هل لكم أن تبعدوا الآن عن السفن — ماخرة العباب — وطيس المعركة الفظيع، لأن زوس المستشار لا يطيق مني مواصلة القتال طوال اليوم ضد الطرواديين.»

هكذا قال، فألهب السائق الجوادين الجميلي المعارف بالسوط، متجهًا نحو السفن الخاوية، ولم يمنع الجوادين شيء من الإسراع، وقد لطخ صدراهما بالزبد، كما كان بطناهما معفرين بالغبار الثائر تحتهما وهما يحملان الملك المجروح بعيدًا عن ميدان المعركة.

«ديوميديس» و«أديسيوس» يجرحان

وإذ رأى «هكتور» أن «أجاممنون» ينصرف، صاح في الطرواديين والليكيين صيحة مدوية قائلًا: «أيها الطرواديون واللوكيون والداردانيون الذين يخوضون معركة حامية. كونوا رجالًا يا أصدقائي وفكروا في الشجاعة الهوجاء، لقد مات خير الرجال ومنحني زوس بن كرونوس مجدًا عظيمًا. فهيا، سوقوا جيادكم القوية الحوافر صوب الدانيين البواسل مباشرة، كي تفوزوا بمجد النصر!»

وما إن قال هذا، حتى أيقظ حماس وروح كل رجل. وكما يحدث عندما يطلق الصياد كلابه البيض الأنياب على خنزير بري أو ليث، فقد أطلق هكتور بن بريام — نظير أريس، مهلك البشر — الطرواديين العظيمي الهمم على الآخيين. وسار هو نفسه بقلب جريء وسط صفوف المقدمة، واقتحم المعركة كأنه الإعصار الجائح الذي ينقض فيهيج البحر البنفسجي اللون.

فمن تراه كان أول القتلى إذ ذاك، ومن آخر من قُتل على يدي هكتور بن بريام، عندما منحه زوس المجد؟ لقد قتل — أولًا «أسايوس»، و«أوتونوس» و«أوبيتيس»، و«دولوبس بن كلوتيوس»، و«أوفيلتيوس» و«أجيلاوس» و«أيسومنوس» و«أوروس» و«هيبونوس» الجريء في القتال. هؤلاء القادة الدانيون قتلهم هكتور، ثم هجم على الحشد. وكما يحدث عندما تدفع الريح الغربية سحب الريح الجنوبية البيضاء، وهي تصفعها بعاصفة هوجاء، وأمواج كثيرة شاهقة تتدحرج إلى الأمام، فيتناثر الرشاش عاليًا أمام هبة الريح الهائمة، هكذا خرت رءوس كثيرة من الجيش على يد هكتور.

وإذ حل الخراب، وتمت أعمال لا سبيل إلى إصلاحها، كاد الآخيون يقذفون بأنفسهم فوق سفنهم وهم يفرون، لولا أن «أوديسيوس» صاح في ديوميديس بن توديوس، قائلًا: «ما هذا، يا ابن توديوس، ماذا حدث لنا حتى ننسى شجاعتنا الفياضة؟ ألا تعال أيها الصديق الكريم، فقف إلى جانبي، فمن العار أن يستوليَ هكتور ذو الخوذة البراقة على السفن.»

عندئذٍ رد عليه «ديوميديس» العتيد بقوله: «ولا شك في أنني سأصمد وأتحمل، غير أن ربحنا لن يكون إلا لفترة قصيرة؛ لأن زوس — جامع السحب — يعتزم بجلاء أن يعطي النصر للطرواديين، بدلًا من أن يهبنا إياه!»

قال هذا ودفع «ثومبرايوس» من عربته إلى الأرض، بطعنةٍ من رمحه فوق ثديه الأيسر، فانقض «أوديسيوس» على «موليون» الشبيه بالإله، خادم هذا الأمير. ثم تركا هذين بمجرد أن كفا أيديهما عن القتال، وسارا خلال الجمع، مشيعين الهرج في أرجائه. وكما يحدث عندما يهجم خنزيران بريان قويا القلب على كلاب الصيد، كذلك استدارا ثانيةً وانقضَّا على الطرواديين فقتلاهم. وإذ ذاك تحول الآخيون طواعية عن الفرار أمام هكتور العظيم!

وأخذا — بعد ذلك — عربة ورجلين، من خيرة القوم، هما ولدا «ميروبس» البيركوني الذي كان أمهر العرافين جميعًا، والذي لم يشأ أن يذهب ابناه إلى الحرب — قاتلة البشر — ولكنهما لم يصغيا إليه بأية حال، إذ كان قضاء الموت الأسود يدفعهما إلى حتفهما دفعًا. هذان هما اللذان سلبهما الروح والحياة، ديوميديس بن توديوس، الشهير برمحه، وأخذ منهما عدتيهما الحربيتين الرائعتين. كما أن «أوديسيوس» قتل «هيبوداموس» و«هوبايروخوس».

وإذ ذاك بسط ابن كرونوس خط القتال للفريقين على السواء، وهو يطل عليهم من أيدا، فظل المحاربون يقتل بعضهم بعضًا. وجرح ابن توديوس المحارب «أجاستروفوس بن بايون» بطعنةٍ من رمحه في عجزه. ولم تكن جياده قريبة منه ليهرب، ولكنه كان غاية في عمى القلب؛ لأن خادمه كان يمسك بجياده بعيدًا، بينما راح هو يسير على قدميه وسط محاربي الصفوف الأولى، إلى أن فقد حياته! ولكن «هكتور» لمحهما سريعًا عبر الصفوف، فهجم عليهما، صائحًا، وقد تبعته كتائب الطرواديين. فلما أبصر به «ديوميديس» — البارع في صيحة الحرب — ارتعد. وفي الحال تحدث إلى أوديسيوس الواقف بقربه، قائلًا: «إن الهلاك يسعى نحونا معًا، وأعني هكتور القوي. فتعال نقف. ونصد هجمته ونحن في مكاننا.»

قال هذا، وأمسك رمحه الطويل الظل وقذفه، فلم يخطئ الهدف الذي سُدد إليه، إذ أصاب «هكتور» في رأسه، فوق قمة الخوذة، ولكن الطرف البرونزي التوى جانبًا فوق البرونز، ولم يصل إلى لحمه البض، فقد أوقفته الخوذة ذات الخصلة المكونة من ثلاث طبقات، تلك التي منحه إياها الإله «أبولو». على أن هكتور وثب إلى الوراء وثبة عجيبة، واختلط بالجمع، ثم سقط فوق ركبتيه. وهكذا بقي، وقد استند بيده القوية على الأرض، وغيمت الظلمة على عينيه، بينما كان ابن توديوس يتابع مرمى رمحه، موغلًا خلال محاربي المقدمة، إلى حيث كان يرى الرمح ينغرس في الأرض. وفي تلك الأثناء أفاق «هكتور» ثانية، فقفز إلى عربته وقادها إلى وسط الجمع، فنجا من المصير الأسود. واندفع وراءه ديوميديس شاهرًا رمحه، وهو يقول: «ها أنت ذا أيها الكلب، تهرب ثانية من الموت، رغم أن نهايتك كادت توافيك. لقد أنقذك — مرة أخرى — الإله «أبولو»، الذي يجب أن تقدم له الصلاة عندما تذهب بين قومك بعيدًا عن مرمى الرماح. حقًّا أنه ما زال عليَّ أن أضع خاتمةً لحياتك عندما نلتقي بعد ذلك، إذا ما ساعدني إله آخر كما ساعدك هذا. أما الآن فسأتعقب الآخرين، وأجهز على من أعثر عليه!»

وما إن قال هذا، حتى ذهب ليجر «ابن بايون» المشهور برمحه من عدته الحربية، ولكن «باريس»، بعل «هيلينا» الجميلة الشعر، صوب سهمًا نحو ابن توديوس، راعي الجيش، وقد استند لفترة إلى عمود فوق الأكمة التي أقامتها أيدي الرجال لألوس بن داردانوس، أحد كبار شيوخ القوم في الزمان الخالي. وكان «ديوميديس» ينزع درقة «أجا ستروفوس» الجسور البراقة من حول صدره والترس من على كتفه، وخوذته الثقيلة، عندما جذب «باريس» الجزء الأوسط من قوسه وسدد سهمه. ولم ينطلق السهم عبثًا من يده، بل أصاب سطح قدمه اليمنى، ونفذ مخترقًا اللحم، وانغرس في الأرض. فقفز «باريس» من مربضه يضحك ملء شدقيه، وأخذ يزهو قائلًا: «لقد ضربت فأصبت، ولم يعد سهمي عبثًا، ليتني سددت صوب أسفل بطنك فسلبتك الحياة، إذن لارتاح الطرواديون الآن من آلامهم، وهم الذين يرتعدون أمامك كما ترتعد الماعز الثاغية أمام الأسد!»

على أنه لم تبدر من «ديوميديس» القوي أية بادرة من خوف، بل تحدث إليه قائلًا: «أيها القواس السفيه، المعجب بغدائر شعره الملتوية، المغرم بالفتيات، ليتك تبارزني بالسلاح رجلًا لرجل. عندئذٍ لن تساعدك قوسك ولا سهامك السريعة الهبوط. إنك تزهو الآن بغير حق؛ لأنك خدشت سطح قدمي، ولكني لا أعير ذلك اهتمامًا أكثر مما لو كان الذي جرحني امرأة أو طفل شقي! فإن السهم الذي يطلقه رجل واهن أو مخنث سهم مثلوم. أما السهم الذي تطلقه يدي، فإنه يكون في حدة الرمح، ولو لمس فقط، فهو يقتل في الحال من يصيبه، وعندئذٍ يتمزق بالبكاء خدا زوجته، ويتيتم أطفاله، بينما يتردى هو على الأرض مضرجًا بالدم القاني، حيث تتعفن جثته، ويجتمع حوله من الطيور ما يفوق عدد النساء!»

هكذا قال، فاقترب منه «أوديسيوس» — المشهور برمحه — ووقف أمامه. فجلس «ديوميديس» خلفه، وأخرج السهم الحاد من قدمه، فسرى في جلده ألم حاد. ثم قفز فوق عربته وأمر سائقه بالتوجه إلى السفن الخاوية؛ لأنه كان يشعر في قلبه بألمٍ شديد.

وبقي الآن «أوديسيوس» — الشهير برمحه — وحيدًا، وليس معه أي فرد من الأرجوسيين؛ لأن الخوف استولى عليهم أجمعين. فتحرَّك بعنفٍ وراح يتحدث إلى نفسه العظيمة الهمة قائلًا: «ويحي، ما الذي سيحيق بي؟ إنه لخطب جسيم لو أنني فررت خوفًا من الحشد. ومع ذلك، فإن الأمر يكون أسوأ لو قبض عليَّ وحدي؛ لأن ابن كرونوس قد شتت بقية الدانيين، فلاذوا بالفرار، ولكن لماذا يحدثني قلبي هكذا لأنني أعلم أن من يهربون من المعركة ليسوا سوى جبناء رعاديد، في حين أن الماهر الحق في القتال، هو الذي يصمد بثبات، سواء أصيب أو ضرب غيره!»

وبينما كان يفكر هكذا — في عقله وقلبه — أقبلت صفوف الطرواديين حاملة التروس، وحاصرته في وسطها، جالبة الهلاك على نفسها. وكما تهجم الكلاب والشباب المتهور على خنزير بري من هذا الجانب ومن ذاك، فيخرج الخنزير من الأحراش الكثيفة مشرعًا أنيابه البيضاء من فكيه المقوستين، وعندئذٍ يهجم الجميع عليه من كلا الجانبين، فيعلو صرير أنيابه، ولكنهم يصدون هجمته في الحال، مهما كان مروعًا، هكذا أيضًا هجم الطرواديون على «أوديسيوس» حبيب زوس، لكنه بادئ ذي بدء ضرب «دايوبيتيس» المنعدم النظير فوق كتفه، واثبًا عليه برمح حاد، ثم قتل بعده «ثئون» و«يونوموس»، ثم «خيرسيداماس»، بمجرد أن قفز من عربته، إذ طعنه برمحه فوق سرته، تحت الدرع المرصعة، فسقط يتردى في الثرى وراح يتشبث بالأرض بكفه، وبعد ذلك ترك هؤلاء وضرب «خاروبس بن هيباسوس» بطعنة من رمحه. وكان هذا شقيق «سوكوس» الثري. فأقبل «سوكوس»، الشبيه بالإله، لنجدة أخيه، ودنا من «أوديسيوس»، ووقف يقول له: «يا أوديسيوس، يا عظيم النصيب من الثناء، ويا من لا يشبع من الخداع والكد: إما أن تزهو اليوم على ولدي هيباسوس، فتفخر بأنك قتلت محاربين مثليهما وجردتهما من عدتيهما الحربيتين، وإما أن تفقد حياتك بضربة من رأس رمحي!»

وبينما هو يقول هذا، ضربه فوق ترسه المتزن من كل جانب. فنفذ الرمح العتيد خلال الترس اللامع، وخلال الدرقة المرصعة ترصيعًا فاخرًا، فشق طريقه إلى اللحم ومزقه من جانبه، ولكن الربة «أثينا» لم تدعه يخترق أحشاء المحارب. وأدرك «أوديسيوس» أن الرمح لم يرتكز بأية حال من الأحوال في بقعة قاتلة، فتقهقر وخاطب سوكوس قائلًا: «يا لك من وغد! لا شك أن الهلاك المروع قد وافاك، والحق أنك ألجأتني إلى الكف عن محاربة الطرواديين، ولكني أعتقد أنك ستلقى حتفك ومصيرك الأسود اليوم، فلسوف أقتلك برمحي الذي يجلب لي المجد، ويسلم روحك لهاديس، ذي الجياد العظيمة.»

هكذا قال أوديسيوس، فاستدار الآخر، وشرع في الفرار، بيد أنه لم يكد يدير ظهره، حتى ثبَّت أوديسيوس الرمح في ظهره ما بين كتفيه، ودفعه إلى داخل صدره. فسقط محدثًا في ارتطامه بالأرض صوتًا. واغتبط «أوديسيوس» العظيم بقتله قائلًا: «ويلك يا سوكوس، يا ابن هيباسوس الحكيم القلب، ومستأنس الخيول! لقد حاقت بك خاتمة الموت سريعًا، ولم تنجُ منها، ويلك أيها الوغد المسكين، إن أباك وأمك الجليلة لم يغلقا عينيك عند وفاتك، ولكن الطيور التي تأكل اللحم النيء ستنهش هاتين العينين، ضاربة أجنحتها حولك بعنف وسرعة، في حين أن الآخيين الأمجاد سيحتفلون بدفني عندما أموت!»

وبينما هو يقول ذلك، جذب الرمح المكين — رمح سوكوس الحكيم القلب — من جلده ومن درعه المرصعة. فلما انتزع تدفق الدم فعكر صفو روحه. غير أن الطرواديين العظيمي الهمم لم يكادوا يشاهدون دم أوديسيوس حتى نادوا بعضهم بعضًا وسط الجمع، واندفعوا نحوه كلهم معًا، ولكنه كان قد ترك المكان وصاح مناديًا زملاءه. صاح ثلاث مرات بأعلى صوت يصدر عن رأس إنسان.٤ وثلاث مرات سمع «مينيلاوس» — حبيب أريس — نداءه، فخاطب لفوره «أياس»، الذي كان قريبًا منه، قائلًا: «يا أياس، أيها المنحدر من زوس، يا ابن تيلامون، قائد الجيش، إن صيحة أوديسيوس، ذي القلب الراسخ لترن في أذني، كما لو كان الطرواديون قد مزقوه في العراك الطاحن وتغلبوا عليه وهو بمفرده. هيا، تعال، لنشق طريقنا خلال الحشد، فمن الخير أن نوافيه بالمعونة. وأخشى أن يكون قد أصابه سوءٌ وهو وحيد وسط الطرواديين، رغم ما هو عليه من شجاعة، فعندئذٍ يحزن الدانيون على فَقْده ويجتاحهم شوق عظيم نحوه.»

وبينما كان يقول هذا، اندفع فتبعه أياس، الشبيه بالإله، وأخيرًا وجدا «أوديسيوس» حبيب زوس، وقد التف حوله الطرواديون يهاجمونه، كما تهاجم بنات آوى النحاسية اللون ظبيًا مقرنًا كان قد جرح لتوه بعد أن ضربه رجل بسهم من قوسه، فانطلق هذا الظبي ينشد الفرار فزعًا، والدم يتدفق منه ساخنًا، وقد أطلق العنان لركبتَيْه السريعتَيْن، حتى إذا أوهنه الرمح السريع أخيرًا، أخذت بنات آوى المفترسة تمزقه وسط الجبال في كهف ظليل، ولكن الرب ساق إليها — لسوء حظها — ليثًا كاسرًا، شتت شملها فانطلقت هاربة، ليمزق الليث بنفسه الفريسة! … هكذا راح الطرواديون الكثيرون الشجعان يهاجمون، من كل حدب وصوب أوديسيوس العاقل الماكر، ولكن المحارب كان يدفع عنه يوم المصير المشئوم بالطعن برمحه. وعندئذٍ اقترب «أياس» حاملًا ترسه الشبيه بسور مدينة، ووقف لتوه إلى جانبه، فتشتَّت الطرواديون هاربين، واحدًا هنا، وواحدًا هناك، وأخذ مينيلاوس، المحب للقتال، أوديسيوس بعيدًا عن الجمع، ممسكًا بيده، إلى أن أحضر إليهم الخادم الجياد والعربة.

عندئذٍ انقض «أياس» على الطرواديين وقتل «دوروكلوس بن بريام» السفاح، وبعده ضرب «باندوكوس» طعنًا بالقنا، وكذلك فعل مع «لوساندر» و«يوراسوس» و«بولارتيس».

إصابة «ماخاوون» و«يوروبولس»

وكما يحدث عندما يغمر السهلَ نهرٌ في حالة فيضان، أو إعصار شتوي من الجبال مشحون بأمطار زوس، فيجرف تياره كثيرًا من أشجار البلوط الجافة وكثيرًا من أشجار الصنوبر، ويلقي في البحر بكمياتٍ كبيرة من الطمي، هكذا هجم «أياس» المجيد ثائرًا على السهل في ذلك اليوم، يُطيح برءوس الجياد والرجال. ولم يكن «هكتور» قد عرف بعد شيئًا من هذا؛ لأنه كان يقاتل في أقصى شمال الميدان بالقرب من شواطئ نهر سكاماندر، حيث كانت رءوس المحاربين تتساقط غزيرة، وحيث انبعثت صيحة لا تخمد حول «نسطور» العظيم، و«أيدومينيوس» الصنديد، فأثارت ثائرة هكتور، وطفق يقوم بأعمالٍ فظيعةٍ بالرمح والفروسية، فشتت فرق الشباب. ومع ذلك فإن الآخيين العظماء أبوا أن يستسلموا له بحالٍ ما، لولا أن «باريس» — زوج هيلينا الجميلة الشعر — أوقف «ماخاوون»، راعي الجيش، في معمعة أعماله الجريئة، إذ أصاب كتفه اليمنى بسهم ذي ثلاثة أسنة. عندئذٍ امتلأ الآخيون — الذين كانوا يقاتلون بثباتٍ جزعًا على رئيسهم؛ خشية أن يقتله الرجال في تأرجح كفة القتال. وفي الحال وجه «أيدومينيوس» الخطاب إلى «نسطور» العظيم، قائلًا: «أي نسطور، يا ابن نيليوس، يا مجد الآخيين العظيم. هيا، اصعد إلى عربتك، ودع «ماخاوون» يركب إلى جانبك، وانطلق بجيادك القوية الحوافر نحو السفن؛ إذ إن الحاجة الماسة إلى موافاة كثيرٍ من الرجال بالعلق وبالعقاقير المسكنة، لعلاج الجراح التي خلفتها السهام.»

هكذا تكلم، فلم يحجم الفارس «نسطور» الجيريني عن الإصغاء. وفي الحال — صعد إلى عربته، وصعد إلى جانبه ماخاوون بن إسكليبيوس، الطبيب الذي لا مثيل له، ولم يكد يلمس الجوادين بالسوط، حتى انطلقا لا يعوقهما شيءٌ عن الجري صوب السفن الخاوية، لأنهما كانا متلهفين على الوصول إلى هناك.»

بيد أن «كيبريونيس» أبصر الطرواديين وهم يولون الأدبار في فوضى، بينما كان واقفًا إلى جوار «هكتور» في عربته، فقال له: «أي هكتور، لقد انبرى كلانا للدانيين هنا، في حدود الحرب المفجعة، بينما يفر الطرواديون الآخرون في حدود الحرب المفجعة، بينما يفر الطرواديون الآخرون في فوضى ما بعدها فوضى، رجالًا وخيولًا. إن أياس بن تيلامون هو الذي يكتسحهم أمامه، وإنني لأعرفه جيدًا بالدروع العريضة التي يضعها حول كتفيه. فهلم بنا ننطلق إلى هناك بجيادنا وعربتنا، حيث يعمل الفرسان والمشاة التقتيل، بعضهم في بعض، متبارين في سباقٍ شرير، وصيحة الحرب لا يفتر لها انبعاث.»

وبينما كان يقول ذلك ضرب الجياد الجميلة الأعراف، بالسوط المقعقع، فلما أحست بالضربة، انطلقت بالعربة السريعة وسط الطرواديين والآخيين، تطأ القتلى والدروع، فلطخ الدم محور العربة. كما تضرجت حوافها بقطرات الدماء التي تناثرت من حوافر الخيل والعجلات. وكان هكتور متلهفًا إلى الدخول في حشد الرجال، وإلى أن يقفز وسطهم فيشتتهم، فأحدث في وسط الدانيين طنين حرب شريرة، ولم يجد رمحه أقل راحة. نعم، لقد انطلق في صفوف المحاربين، مدججًا بالرمح والسيف والصخور الضخمة، فلم يتجنب سوى منازلة أياس بن تيلامون.

وهنا أخذ الأب «زوس»، المتربع على عرشه عاليًا، يستحث أياس على الفرار، فوقف هذا مشدوهًا، وقد ألقى ترسه ذا الطبقات السبع من جلد الثور، فوق ظهره. وألقى نظرةً حسيرة على الجمع ثم ولى الأدبار، كحيوان مفترس لا يكف عن التلفت خلفه، وهو يتقهقر ببطء خطوة فخطوة، وكما تسوق الكلاب والفلاحون الأسد الهزيل من حظيرة الأبقار، فلا يمكنونه من نيل أسمن ما في القطيع الذي تولوا حراسته الليل بطوله، ولكنه من فرط حاجته إلى اللحم يقتحم الحظيرة، فلا يحظى بشيء؛ لأن الأيدي القوية تمطره وابلًا من السهام، ومعها جذوات النار المستعرة، فتخور أمامها عزيمته، مهما تكن لهفته إلى الطعام، وينصرف عند الفجر خائبًا حزين القلب، هكذا أيضًا تقهقر «أياس» هاربًا أمام الطرواديين بقلب مكمود، على غير هوًى منه؛ إذ كان شديد الخوف على سفن الآخيين. وكما يحدث عندما يمر حمار على حقل قمح فينال من الأولاد العديدين ما يكره، حمار خامل تكسَّرت على ضلوعه هراوات كثيرة، ولكنه يمضي يعيث فسادًا في الحبوب الوفيرة، فيضربه الأولاد بالهراوات رغم ضآلة قوتهم، ثم يتمكنون بصعوبة من طرده بعد أن يكون قد تناول كفايته من العلف، هكذا أيضًا راح الطرواديون ذوو القلوب الجسورة وحلفاؤهم الذين جُمعوا من عدة أراضٍ، يضربون «أياس» العظيم ابن «تيلامون»، بالرماح فوق ترسه مباشرة، ويضيقون عليه الخناق باستمرار، ولكن «أياس» كان لا يلبث أن يتذكر شجاعته الثائرة، فيستدير نحوهم ويوقف فرق الطرواديين مستأنسي الخيول، وكان في بعض الأحيان يدور على أعقابه هاربًا. بَيْد أنه أوقفهم جميعًا ومنعهم من بلوغ السفن السريعة، ثم وقف هو نفسه بين الطرواديين والآخيين، يقاتل بحماس. وكانت الرماح التي قذفتها الأيدي القوية قد تركز بعضها في ترسه الضخم وهي تشق طريقها إليه: بينما انغرس كثيرٌ منها في الأرض قبل أن تصل إلى جسمه الأبيض، ودون أن تشبع غليلها من اللحم.

حتى إذا رآه «يوروبولوس» المجيد — ابن «يوايمون» — يكافح تحت وابل من السهام، أقبل يقف إلى جانبه، وقذف رمحه المتألق، فأصاب «أبيساون بن فاوسيوس» — راعي الجيش — في كبده أسفل عضلة الحجاب الحاجز، وفي الحال خارت ركبتاه، فانقض «يوروبولوس» عليه، وتأهب لتجريد كتفيه من السلاح. فما إن شاهده «باريس» الشبيه بالإله، وهو ينزع سلاح «أبيساون» حتى جذب قوسه في الحال ضد «يوروبولوس»، وقذفه بسهمٍ في فخذه اليمنى، فانكسرت قصبة السهم، ومع ذلك فقد ثقلت فخذه. وإذ ذاك تحول راجعًا إلى حشد زملائه، مجتنبًا مصيره. ثم أطلق صيحة مدوية، ونادى على الدانيين بقوله: «أصدقائي، قادة وحكام الأروجسيين، هلموا، قفوا، وأبعدوا يوم الموت المشئوم عن أياس الذي تكاثرت عليه السهام، ولست أظن أنه سينجو من الحرب الأليمة. هيا، هلموا، قفوا وواجهوا العدو حول أياس العظيم، ابن تيلامون.»

هكذا قال «يوروبولوس» الجريح، فهبوا إليه يقفون بالقرب منه. وقد أسندوا تروسهم إلى أكتافهم، وشهروا رماحهم، فأقبل «أياس» نحوهم، ولما وصل إلى حشد زملائه، استدار ووقف بينهم.

«أخيل» يوفد باتروكلوس إلى «نسطور»

هكذا قاتلوا كالنار المتأججة، ولكن جياد «نيليوس»، المبللة كلها بالعرق، حملت «نسطور» بعيدًا عن المعركة، كما حملت «ماخاوون»، راعي الجيش. فأبصر به «أخيل» السريع القدمين ولاحظه؛ إذ كان واقفًا بجانب مقدم سفينته الكبيرة الحجم، يتأمل الكفاح الدائر في المعركة، والصخب المبكي. وفي الحال تحدث إلى زميله «باتروكلوس»، وناداه من جانب السفينة، فسمعه هذا وأقبل لتوه من الكوخ وكأنه «أريس»، وكان هذا بالنسبة له بداية الشر. وبادر ابن مينويتيوس قائلًا: «لمَ تستدعيني يا أخيل؟ ماذا تريد مني؟»

فأجابه أخيل، السريع القدمين، بقوله: «أيا ابن مينويتيوس العظيم، أيها العزيز على قلبي هذا، الآن أعتقد أن الآخيين سيكونون جاثين على ركبهم يصلون، إذ ألحت بهم الحاجة، وأصبحت الحال لا تطاق لأكثر من ذلك؛ لذا انطلق الآن يا باتروكلوس، يا حبيب زوس، واستفهم من نسطور عن هذا الذي يحضره جريحًا من المعركة. وإذا شئت الحق فإنه يبدو من الخلف شبيهًا في كل شيء بماخاوون بن إسكليبيوس، ولكني لم أرَ عينَيه، إذ أسرعت بي الجياد تعدو في لهفة إلى الأمام.»

هكذا قال، فأصغى «باتروكلوس» إلى زميله العزيز، وانطلق يعدو بجوار الأكواخ محاذيًا سفن الآخيين. على أن الآخرَين لم يكادا يبلغان كوخ ابن نيليوس حتى سارا في الحال على الأرض الفسيحة، وحل الخادم «يوريميدون» جياد «نسطور» الشيخ من العربة. وراح الاثنان يجففان العرق عن عباءتيهما وهما واقفان في النسيم على شاطئ البحر، ثم دخلا إلى الكوخ وجلسا فوق المقاعد. ومن أجلهما مزجت «هيكاميدي» — الجميلة الغدائر — شرابًا، وهي التي كان نسطور العجوز قد سباها من «تينيدوس» عندما نهبها «أخيل». إنها ابنة «أرسينوس» العظيم القلب، وقد اختارها الآخيون لأنها كانت أعظم الجميع سدادًا في الرأي.

ومدت الحسناء أمامها — بادئ ذي بدء — مائدة فاخرة، ذات سيقان من الميناء المتألقة، ووضعت عليها سفطًا من البرونز، وبصلةً لتكون «مزة» لشرابهما، وعسلًا مصفى، ودقيقًا من الشعير المقدس. وإلى جانبهما وضعت قدحًا واسعة، كان الشيخ قد أحضرها من موطنه، مرصعة بزخارف ذهبية، ولها أربع أيد، حول كل منها زوج من اليمام يلتقط الحب، بينما كان في أسفلها دعامتان. وكان من الصعب على أي رجل غير «نسطور» أن يرفع هذه القدح عن المائدة، عندما تكون مملوءة. أما «نسطور» الشيخ فكان يرفعها فورًا بسهولة. وفيها مزجت لهما المرأة، الشبيهة بالربات، شرابًا من خمر «برامنية»، وبشرت عليها جبنًا من لبن الماعز بمبشرة برونزية، ونثرت عليها من دقيق الشعير الأبيض، وطلبت إليهما أن يشربا، بعد أن انتهت من إعداد الشراب. فلما شربا وأطفآ ظمأهما المتأجج، لذت لهما الحكايات فأخذ كلٌّ منهما يتحدث إلى الآخر، ولكن «باتروكلوس» وقفت عند الأبواب، أشبه بالإله، فقفز الشيخ عند رؤيته عن مقعده اللامع، وقاده من يده إلى الداخل، وطلب إليه أن يجلس، ولكن «باتروكلوس» رفض الجلوس وهو واقف قبالته من بعيد، قائلًا: «ليس لي أن أجلس، أيها السيد الشيخ، سليل زوس، وليس لك أن تحثني على ذلك. إنما المبجل والذي يجب أن يُهاب هو الذي أرسلني ليعلم من ذا الذي جئت به إلى الوطن جريحًا. أما أنا فإني أعرفه، فهو «ماخاوون»، راعي الجيش. والآن، اسمح لي بالعودة ثانية كرسول، أحمل النبأ إلى «أخيل». إنك تعرفه معرفة حقة، يا سيدي الشيخ، يا سليل زوس، وتعرف من أي نوع هو. إنه رجل صارم، أسهل شيء عنده أن يلوم حتى من لا لوم عليه!»

فأجاب الفارس نسطور الجيريني، قائلًا: «لماذا يشفق أخيل هكذا على أبناء الآخيين الآن، بينما أصيب كثير منهم بالسهام؟ إنه لا يعلم ما ألم بجميع أرجاء المعسكر من حزن، فإن خيرة الرجال يرقدون وسط السفن، مضروبين بالسهام أو مصابين بجروح من طعنات الرماح. فقد أصيب ابن توديوس العتيد، وجُرح أوديسيوس — ذلك البطل المشهور برمحه — بطعنة رمح. وكذا أجاممنون. كما أصيب «يوروبولوس» بدوره بسهم في فخذه. أما هذا الرجل الراقد إلى جانبي الآن، فقد حملته بعيدًا عن ميدان القتال مصابًا بسهم من وتر قوس. ومع ذلك فإن «أخيل» — رغم شجاعته البالغة لا يكترث للدانيين، ولا يحنو عليهم. أينتظر أن تحرق النار النهمة سفننا السريعة الواقفة عند البحر، رغمًا عن أنف الآخيين، وأن نُقتل نحن رجلًا بعد رجل؟ ذلك لأن قوتي ليست كما كانت من قبل في أطرافي الرخصة، ليتني كنت شابًّا وفي سابق قوتي عندما نشب القتال على أشده بين الأيليين وشعبنا، بسبب سرقة بعض الماشية. فلقد قتلت — إذ ذاك — أتومونيوس الشجاع، ابن هوبايروخوس — الذي كان يقيم في اليس يوم أن كنت أسوق ما غنمناه أخذًا بالثأر — إذ بينما كان يقاتل من أجل الماشية، قذفته برمحي فأصاب وسط جبهته، فسقط يتردى، وفر الذين حوله من قومه فزعين مذعورين، فغنمنا منهم ما يفوق الحصر، وسقناه كلنا إلى خارج السهل: خمسين رأسًا من البقر، وقطعانًا من الأغنام لا تقع تحت حصر، وأسرابًا عديدة من الخنازير، وقطعانًا من الماعز كثيرة العدد متناثرة، ومائة وخمسين من الجياد العسجدية، كلها أفراس، وراء كثير منها صغار ترضع، سقنا كل ذلك إلى «بولوس» النيليوسية تحت جنح الظلام، وقدناها إلى داخل القلعة. فاغتبط نيليوس لأن كل هذه الغنيمة قد وقعت في يدي، أنا الذي ذهبت إلى الحرب وأنا بعد فتى يافع. وعند ذاك أعلن المنادون بصوت جهوري — عندما لمع الفجر في أفق السماء — أن يحضر إلى أليس العظيمة كل دائن. ثم اجتمع سائر قادة «البوليين»٥ وقاموا بتقسيم الغنائم لأن «الأيبيين» كانوا مدينين للكثيرين، إذ كنا قلة في «بولوس» ومضطهدين، نظرًا لأن هرقل العتيد كان قد جاء وضيق الخناق علينا في السنوات السابقة، وقتل منا جميع من كانوا أشجعنا. وكنا نحن — أبناء نيليوس المنقطع النظير — اثني عشر، فلم يبق سواي، ومات الباقون جميعًا؛ ومن ثم فإن الأيبيين المتسربلين بالبرونز — والمفعمي القلوب زهوًا من جرَّاء ذلك — راحوا ينسجون لنا الشر ظلمًا وطغيانًا. فاختار الشيخ نيليوس لنفسه من الغنيمة قطيعًا من الأبقار، وقطيعًا كبيرًا من الأغنام، منتقيًا ثلاثمائة رأس، برعاتها، إذ كان دائنًا لهم بدين بالغ في أليس العظيمة، هو عبارة عن أربعة جياد من الفائزة في السباق، وعربتها، كانت قد ذهبت إلى أليس لتشترك في سباق على ركيزة، ولكن «أوجياس» ملك البشر احتفظ بها هناك، وأعاد سائقها، حزينًا على جياده. فحنق الشيخ من جراء هذه الأمور، سواء الأفعال أو الأقوال، وانتقى لنفسه تعويضًا يفوق الوصف. أما الباقي فأعطاه للشعب ليقسموه فيما بينهم بالتساوي؛ ومن ثم فقد رحنا نوزع كل ما كان هناك. وكانت توجد حول المدينة ذبائح لتقدم إلى الآلهة. وفي اليوم الثالث احتشد، بسرعة فائقة، جميع الأيبيين معًا. رجال كثيرون وجياد قوية الحوافر، وفي وسطها راح «الموليونيس» الشقيقان يرتديان عدتيهما الحربيتين، بالرغم من أنهما كانا لا يزالان يافعين، لم يحنكا بعد في الأمور التي تتطلب شجاعة هوجاء. فأقام الجميع معسكرهم عند مدينة ثريويسا، والتل المنحدر — المشرفين على ألفايوس — في أقرب منطقة من «بولوس» الرميلة. وعقدوا العزم على تخريب ذلك المكان عن آخره. غير أنهم لم يكادوا ينتشرون في جميع نواحي السهل، حتى أقبلت علينا «أثينا» مسرعة من «أوليمبوس» ليلًا، تحمل رسالةً مؤداها أننا يجب أن نتأهب للمعركة، فلم يرفض الشعب الذي جمعته في «بولوس» أن يقاتل، بل كان تواقًا إلى أن يخوض غمار المعركة في الحال، ولكن «نيليوس» لم يوافق على أن أسلح نفسي، فأخفى جوادي بعيدًا، لأنه كان يظن أنني ما زلت غضًّا حتى ذلك الوقت، لا أدري شيئًا من أمور القتال. ومع كل فقد استطعت — بالرغم من ذلك — أن أكون مبرزًا بين فرساننا، مع أنني كنت أحارب راجلًا؛ إذ هكذا نظمت أثينا القتال. وكنا نحن، فرسان البوليين، ننتظر الفجر اللامع على نهر مينيوس الذي يصب في البحر بالقرب من أريني. وكانت جموع المشاة تتبعنا باستمرار. ومن هناك وصلنا عند منتصف النهار، ونحن متدثرون بعدتنا الحربية، إلى مجرى ألفايوس المقدس، حيث نحرنا ذبائح عظيمة لزوس الأكبر في قوته، وثورًا لألفايوس، وثورًا لبوسايدون. أما «أثينا» ذات العينين النجلاوين فقد ذبحنا لها عجلة من القطيع. وبعد ذلك تناول الجيش بأسره العشاء في جماعات، واستلقينا لننام، كل رجلٍ في عدته الحربية، حول مجاري النهر المائية. غير أن الأيبيين العظيمي الهمم كانوا يسيرون حول المدينة، تواقين إلى تخريبها عن بكرة أبيها. إلا أنه لاح لهم أن دون ذلك جهدًا حربيًّا جبارًا. فلما طلعت الشمس الساطعة على الأرض، صلينا لزوس وأثينا، ثم اشتبكنا في القتال. فلما بدأ صراع البوليين والأيبيين، كنت أول من فاز بقتل غريمه، وأول من استولى لنفسه على جوادي هذا الغريم القويَّي الحوافر. وكان غريمي هو الرماح «موليوس»، الابن الشرعي لأوجياس، وكان قد تزوَّج ابنته الكبرى، «أجاميدي» الجميلة الشعر، تلك التي كانت عالمة بجميع الأعشاب التي تنبتها الأرض الفسيحة. فبينما كان مقبلًا نحوي، طعنته برمحي البرونزي الطرف، فسقط يتخبط في الثرى. وقفزت فوق عربته، واتخذت وقفتي بين محاربي المقدمة. فاضطر الأيبيون العظيمو الهمم — حين أبصروا الرجل يتردى — إلى الفرار، واحدًا إلى هنا، وآخر إلى هناك، حتى قائد الفرسان المبرز في القتال، ولكني هجمت عليهم كالإعصار القاتم، وغنمت خمسين عربة، وتركت حول كل عربة محاربين يعضان الأرض، صريعي رمحي. وكان في مقدوري عندئذٍ أن أقتل الأخوين «موليونيس» معًا، وهما اللذان كانا من دم «أكتور»، لولا أن أباهما، مزلزل الأرض الواسع السلطان، أنقذهما من القتال، وأخفاهما في ضباب كثيف. وما لبث زوس أن بث قوة عظيمة في رجال «بولوس»، لأننا طاردناهم بعد ذلك خلال السهل الفسيح، وشرعنا نقتل الرجال، ونستولي على عدتهم الحربية الرائعة، إلى أن ذهبنا بجيادنا إلى بويراسيوم، الغنية بالقمح، وإلى صخرة أولين، والمنطقة التي يوجد فيها التل المسمى تل أليسيوم، الذي عادت «أثينا» عنده لترد الجيش عن القتال. وإذ ذاك قتلت آخر رجل وتركته ولكن الآخيين عادوا بجيادهم السريعة من بويراسيوم إلى بولوس، وراحوا جميعًا يمجدون زوس بين الآلهة، ونسطور بين البشر.

هكذا كانت حالي بين المحاربين، وهكذا كنت على الدوام، ولكن «أخيل» وحده هو الذي كان بوسعه أن يفيد من شجاعته. نعم، إنني أعتقد حقًّا أنه سيبكي بكاءً مرًّا بعد ذلك، عندما يبيد الشعب. آه يا صديقي، أتذكر ما أمرك به «مينويتيوس»، يوم أن أرسلك من فثيا إلى «أجاممنون»، وكنت أنا و«أوديسيوس» العظيم في الداخل، فسمعنا في الأبهاء كل شيء، وهو يصدر إليك الأمر. إذ جئنا إلى بيت بيليوس المتين البناء، وقد جمعنا الجيش من سائر ربوع أرض أخايا الفسيحة. فوجدنا في المنزل هناك المحارب «مينويتيوس»، كما وجدناك أنت، وبصحبتكما «أخيل». وكان الشيخ بيليوس سائق العربات يحرق فخذَي ثورٍ سمين في حظيرة القصر، لزوس الذي يقذف بالصاعقة، وقد حمل في يده كأسًا ذهبية، يصب منها الخمر المتألقة، كي تلازم القرابين المحروقة. وكنتما مشغولين حول لحم الثور، فوقفنا ذليلين عند الباب. واستولت الدهشة على «أخيل» فوثب إلينا من مكانه، وأمسك بأيدينا، وقادنا إلى الداخل حيث أمرنا بالجلوس. كما قدم لنا طعامًا وافرًا. طعامًا يليق بالأضياف، فلما تناولنا كفايتنا من الطعام والشراب، كنت أول من تكلم. طلبت إليكما أن تنضما إلينا، فإذا بكما تتحمسان معًا لذلك. فأصدر هذان الاثنان إليكما كثيرًا من الأوامر. أمر الشيخ بيليوس ابنه «أخيل» بأن يكون أشجع القوم على الدوام، وأن يكون مبرزًا على الجميع. وأصدر إليك مينويتيوس بن أكتور، أمره قائلًا: «يا طفلي بالمولد، إن أخيل يرجحك نبلًا، ولكنك تكبره سنًّا. وإنه ليفوقك قوة وبطشًا بمراحل، ومع ذلك، فهل لك أن تتحدَّث إليه بالحسنى وبالحكمة وتقدم له النصح، وترشده، ولسوف يكون لك مطيعًا من أجل مصلحته.» هكذا أمرك الرجل المسن، ولكنك تنسى! ومع كلٍّ، فهل لك الآن أن تتحدث هكذا إلى «أخيل»، الحكيم القلب، عسى أن يستمع لنصحك؟ ومن يدري، فقد تستطيع، بمعونة السماء، أن تُثير نفسه بحديثك، فإن إثارة حماس الصديق أمرٌ محمود. أما إذا كان يتحاشى، في سريرته، نبوءة ما، أو إذا كانت أمه الجليلة قد أعلنته بشيء من لدن زوس، فدعه مع ذلك يرسلك إلى الأمام، ودع بقية جيش «المورميدون» تتبعك، لعلك تستطيع أن تحقق بعض الخلاص للدانيين. ودعه يعطك عدته الحربية الرائعة، كي ترتديها في القتال، حتى يظنك الطرواديون «أخيل» نفسه، وبذلك ينأَوْن عن المعركة، فيتمكن أبناء الآخيين الجسورين من أن يتنفسوا الصعداء، رغم ما هم عليه من تعب، نظرًا لأن وقت الراحة قليل في المعركة. وعلى ذلك تستطيعون أنتم، يا غير المتعبين، أن تدفعوا — بسهولة — الرجال المتعبين من ميدان القتال إلى الوراء، إلى المدينة، بعيدًا عن السفن والأكواخ.»

هكذا قال، فأثار الحمية في قلب «باتروكلوس»، فطفق يجري بمحاذاة صف السفن حتى بلغ أخيل بن أياكوس. بيد أنه لما وصل باتروكلوس في جريه إلى سفن «أوديسيوس»، الشبيه بالإله، حيث كان مكان اجتماعهم ومكان توزيع الأقدار والمصائر، وحيث كانوا قد شيدوا مذابح للآلهة، هناك التقى مع يوروبولوس، سليل زوس وابن يوايمون، مصابًا في فخذه بسهم، وهو يعرج خارجًا من المعركة. وكان العرق يتصبَّب من رأسه وكتفيه كأنه الأنهار المتدفقة، بينما كان الدم القاتم ينبثق من جرحه الخطير. على أن نفسه لم تكن قد اهتزَّت. فلما أبصره ابن مينويتيوس على تلك الحال، رثى لحاله وأشفق عليه، وأخذَتْه العبرات وهو يقول له بكلماتٍ مجنحة: «أسفي عليكم أيها المساكين، يا قادة وسادة الدانيين. إذن فهكذا قدر لكم، أن تُشبعوا كلاب طروادة السريعة بلحومكم البيضاء، بعيدًا عن أصدقائكم ووطنكم. ولكن، خبرني يا يوروبولوس، أيها المقاتل المنحدر من زوس، هل ما زال في استطاعة الآخيين أن يصدُّوا «هكتور» القوي، أم أنهم سوف يُبيدون مقتولين برمحه؟»

فأجابه «يوروبولوس» الجريح، بقوله: «لن يكون هناك بعد الآن يا «باتروكلوس»، يا سليل زوس، أي دفاع للآخيين، فإنهم سوف يلقون بأنفسهم فوق السفن القاتمة؛ لأن جميع من كانوا في الماضي شجعانًا صناديد، يرقدون الآن بين السفن مصابين بالسهام أو مجروحين بطعنات رماح الطرواديين، الذين تزداد قوتهم باطراد، ولكن هل لك أن تساعدني، فتقودني إلى سفينتي السوداء، وتخرج السهم من فخذي، وتغسل عن جرحي الدم القاتم بالماء الدافئ، وتضع عليه العقاقير الطبية الشافية، التي يقول الناس إنك قد تعلمت خصائصها من «أخيل»، الذي تعلمها بدوره من «خايرون»،٦ أعظم وحش «قنطور» في البر؟ فإن الطبيبَين «بودالايريوس» و«ماخاوون» — على ما أعتقد — يرقد أحدهما جريحًا وسط الأكواخ، في مسيس الحاجة إلى طبيب نطاسي، بينما يسهر الآخر وهو يقاوم في معركة الطرواديين الحامية.»

فقال ابن مينويتيوس الجسور: «كيف يمكن لهذه الأمور أن تحدث؟ وماذا ترانا فاعلين أيها المحارب «يوروبولوس»؟ إنني ذاهب الآن لأخبر أخيل، الحكيم القلب، بما كلفني به نسطور الجيريني، الحامي حمى الآخيين. ومع ذلك فإنني لن أتركك على هذه الحال الخطيرة.»

قال هذا، وأمسك راعي الجيش من تحت صدره، وأسنده حتى أوصله إلى كوخه، فلما رآهما خادمه، فرش على الأرض جلود الثيران، ونزع السهم الحاد الطرف من فخذه بسكين، وغسل الدم الأدكن عن الجرح بالماء الدافئ، ووضع فوقه جذورًا مرة بعد أن فركها بين يديه. جذورًا تقتل الألم. وبذا أزال جميع أوجاعه، وجف الجرح، وامتنع نزف الدم.

١  يعني أن نوم الموت يكبل المرء كما لو كان قيودًا من البرونز!
٢  كان يُعتقد أن عروق الخشب تتصلب من لطمات الريح.
٣  الإيليثواي: الربات الموكلات بالإخصاب والتناسل. والمقصود هنا آلام المخاض.
٤  الترجمة الحرفية تقول: «صيحة كبيرة بقدر ما يمكن لرأسه أن يتضمن!»
٥  هذه الديون كانت غنائم من «البوليين»، سلبهم إياها «الأيبيون» على ما يفهم من السطور التي تلي ذلك.
٦  كان قنطاورا يشتهر بحكمته وعدالته ومهارته في كثيرٍ في الفنون التي علمه إياها أبولو وأرتيميس. وله أصدقاء كثيرون من بين البشر، وقد كان معلم كثير من الأبطال العظماء في القصة الإغريقية. وكان صديق بيليوس بالذات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤