القصائد الهومرية

الإلياذة

الإلياذة Iliad والأوديسة Odyssey أقدم الآثار الأدبية. ليس في الأدب اللاتيني فحسب، بل وفي أدب أوروبا كله. يجب أن ننظر إليها كمفتاح يوصلنا إلى الشعر الذي هما باكورته ونخبته. وقبل أن نبدأ في ذكر تقدير العالم كله للإلياذة، علينا أن نقول: إن الآلهة في علم الأساطير الإغريقية لا تعتبر مختلفة كثيرًا عن بقية الناس. فلهم مراكزهم وغضبهم وأفراحهم. وأهم مميزاتهم هي أنهم أقوى من البشر العاديين. ومع ذلك يمكن أن يهزمهم أنصاف الآلهة أو أحد الأبطال من البشر.
لكي نثق في قوة هوميروس الخلاقة، وبلاغته الفائقة، ونعجب به كأحسن قصاص، يمكننا أن نصور النضال بين شخصين كل منهما على حق. فنجد أجاممنون Agamemnon، في الأنشودة الأولى، مخطئًا بسبب عجرفته وصلفه؛ إذ انتزع هيبوداميا Hippodameia من بين يدي أخيل Achilles، فقد اضطر إلى إعادة ابنة خروسيس Chrysis إلى خروسيس نفسه. وفي الأنشودة التاسعة نجد أنه بناء على نصيحة نستور Nestor، أرسل أجاممنون كلًّا من أولوسيس Ulysses وفوينكس Phoenix وأجاكس Ajax، إلى فسطاط أخيل سعيًا وراء مصالحته. ورغم توسلات فونيكس الجادة، لم يكلل مسعاهم بالنجاح، أي أن يعتذر أجاممنون لأخيل المزهو المغرور والمعتد بجرأته وبسالته. فقد رفض هذا الأخير أن ينضم إلى المعركة دفاعًا عن الوطن، ثم تواجهنا في الأنشودة الثانية والعشرين فاجعة عاطفة بالغة الشدة، عندما يصر هكتور Hector على البقاء خارج الأسوار رغم توسلات أبيه. فيطوف عدوًا حول طروادة ثلاث مرات، ويحارب، فيقتله أخيل ويجر جثته إلى الأسطول مربوطة إلى عجلات عربته الحربية متبوعًا بعويل ونحيب زوجة هكتور ووالديه.

وهكذا نرى أن بعض الأحداث يسبب التردد، بينما يسبب البعض الآخر نتائج غير متوقعة. لا يتناول شعر البطولة الحرب، وإنما يتناول، بنوع خاص، مغامرات أخيل وكبرياءه وغضبه وانتقامه وجرأته، ونتائج كل هذه.

وهناك أحداث أخرى لا تنتمي إلى الفكرة الأصلية، ويمكننا أن نصفها بأنها تفسيرية، بينما تساعد أحداث أخرى في إلقاء الضوء على الشخصيات.

الأوديسة

الأوديسة ثاني منظومة بطولية لهوميروس الخالد وتتلخص فيما يلي: ساعد بوسايدن Poseidon، إله البحر، بناءً على نفوذ جونو Juno، ساعد الطرواديين في حرب طروادة. وهكذا كان على أوديسيوس Odysseus أن يضل طريقه في البحر وهو عائد إلى وطنه، يبدأ أول أعماله في إيثاكا Ithaca، مملكة أوديسيوس. فقد اجتمع الآلهة وعقدوا مجلسًا قرروا فيه ضرورة إرسال أولوسيس إلى إيثاكا، من جزيرة كالوبسو Calypso. وعندئذٍ ذهبت مينرفا Minerva إلى إيثاكا حيث ظهرت أمام تيليماخوس Telemachus، ابن أوديسيوس، متخذة صورة منتيس Mentes ملك التافيين Taphians، الذي كان صديقًا لأوديسيوس. فدخلت في حوار مع تيليماخوس وأوعزت إليه بأن يذهب إلى «بولوس» Pylos حيث يقابل نستور Nestor، كما يذهب إلى مينيلاوس Menelaus في أسبرطة Sparta، ليتنسَّم الأخبار عن والده، وما إذا كان لا يزال على قيد الحياة. ثم انصرفت بعد أن برهنت على ألوهيتها. فوبخ تيليماخوس والدته بنيلوبي Penelope وأمرها بأن تصعد إلى الطابق العلوي. وفي أثناء الوليمة هدَّد تيليماخوس العشاق بأنه سوف ينتقم منهم جزاء مسلكهم الشائن، فنسمع في الأنشودة الخامسة أولوسيس يصف مغامراته البحرية طوال مدة سنة كاملة، ثم يستعد للذهاب إلى منطقة الجحيم. ويمكننا أن نقرأ في هذه الأنشودة أول قصيدة نظمت في العالم كله.

لغة الإلياذة

لغة هوميروس خليط من عدة لهجات تسودها اللهجتان الأيونية Ionic والأيولية Aeolic. وقد نظمت هذه الأشعار بمهارة فنية بالغة السمو. كما أن الموضوع سامي الصياغة. وهنا استطرادات كثيرة طوال القصة برمتها، ولكنها، في الحقيقة، لا تتعلَّق بالخطة الرئيسية. ومن عادة جميع كتاب القصص أن يُدخلوا فيها شيئًا غير ضروريٍّ جدًّا؛ ولذا يعتبر هوميروس كاتبًا فائقًا للأدب ذا خيال لا يُخطئ إطلاقًا، كان كتاب هوميروس هو الذي عانقه الناس في الحرب الأخيرة عندما كانوا على وشك أن يصيروا آلات بسبب القسوة والقتال والنفعية.

لمَ كان هوميروس أعظم فنان؟

  • أولًا: لجمال لغته وحداثة أسلوبه وسلاسة عباراته. فإذا ما قرأت لهوميروس، وقعت على ما يخلبك ويوقعك تحت تأثيره، ومن السهل أن نلاحظ ضوءًا غريبًا في أسلوب شاعر البطولة الخالد هذا.
  • ثانيًا: هوميروس قصاص رائع ممتاز. وقصته ممتعة جدًّا وإنسانية؛ فهي تحظى بإعجابك إلى النهاية. ونحن نقرؤه لأننا نريد أن نعرف ماذا يحدث، كل شيء ممتع، ونريد أن نصل إلى نهاية القصة، ونتلهف إلى أن نعرف ماذا ستكون النتيجة.
  • ثالثًا: خصائصه صادقة كأي شيء كتب؛ فهي في أساسها إنسانية. ولهذا السبب فإنك تجد نفسك، وأنت تقرأ الإلياذة، تتساءل عن سبب حدوث هذه الحادثة أو تلك بالأمس. إنها نفس ما يحدث في هذه الأيام. مثال ذلك: توديع هكتور لزوجته وأولاده؛ إذ ينحني ليقبل ابنه ولكن الابن يخجل ويذعر لمنظر الخوذة. فتريك هذه اللمسات البسيطة: المشاعر الإنسانية والخصائص الإنسانية والانفعالات الإنسانية. وهناك مثل آخر في حالة نستور، فقد صور مطابقًا للحياة تمام المطابقة، حقيقة، نحن عندما نقرأ خصائص هوميروس، نقرأ عن أناس يعملون ويتكلمون كما يحدث عندنا في كل يوم. فنستور، صورة جميلة للشخص الثرثار، لا يفعل شيئًا غير الكلام: «عندما كنا صغارًا، كنا نفعل كذا كذا وكذا …» وأخيل مثل ثالث واضح جلي. صوره هوميروس بعدة صور كل صورة منها تختلف عن الأخرى. فصوره وفيًّا، وجريئًا ومرحًا عندما لا يكون غاضبًا. وبالاختصار، كل أشخاص هوميروس بشر أولًا وقبل كل شيء، يمكنك أن تصدق بسهولة أن كل ما يفعلونه هو نتيجة لمشاعرهم ولما يختلج في نفوسها. فأبطاله، وحتى آلهته ورباته، يعملون ما يعمل البشر، صور هوميروس كل إحساس حتى غير المنظور، ووضحه كما لو كان حقيقيًّا في الحياة. ومما لا جدال فيه، أن مؤلفات هوميروس تتصف بصفة الخلود. ستقرأ الأجيال الحاضرة والقادمة هذه المؤلفات الرائعة إلى الأبد. وهذا ناشئ عن تصويره الرقيق لأشخاصه، كما يمكنك تقدير قيمة وروعة هذه المؤلفات، حتى عندما تقرأ الإلياذة المترجمة إلى لغات أخرى غير الإغريقية، ولو أن إعجابك لن يصل إلى الذروة التي يصل إليها عندما تقرؤها بالإغريقية. وما نخشاه هو أن تضيع خفتها وسرعتها في الإنجليزية (لاحظ المجازات والكنايات والاستعارات والتوريات والجرس السمعي، ومختلف صور المحسنات البديعية).

يمكننا أن نضيف إلى ما سبق أن هوميروس لم يخلق شعر البطولة من لا شيء، وأن مؤلفاته كانت ذروة تراث قديم طويل من الشعر الغنائي للشعراء المتجولين، وأنه يدين إلى ذلك التراث بقصصه ولغته وأوزانه.

ربما تضمن شعر هوميروس، أيضًا، كسرًا من أشعار العصور السابقة، مع احتمال أن يكون غيرها في عملية اقتباسها. والواقع أن هوميروس وضع أساس الاقتباس الأدبي، وكان الأغارقة يرجعون إليه دائمًا في الاستلهام والاقتداء. كان أبا الكوميديا والتراجيديا. ورغم عدم إمكان محاكاة طريقته بنجاح، في شعر البطولة، فإن غيره من الشعراء تعلموا منه كيف يشكلون مادتهم، وكيف يصوغون لغتهم. كما تعلموا منه أيضًا أن الاقتصاد في عرض الخبرة التي تجعلنا نعجب من أنه أمكن التعبير عن كل تلك المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة. وما يكاد يختص به هو وحده. وما حققه من نجاح باهر في شعر البطولة هو المدى الواسع في الابتكار. وقد انحصر عالمه بمعارف عصره. ولكنه ملأه بالأحياء من الرجال والنساء، وصاغ من القصص القديمة (الساجا Saga) شخصيات القصص الشعبي والأحداث، ما جعلها حية عندما أظهرها إلى حيز الوجود. ومن بين جميع كتب الحكمة البشرية، نجد كتب هوميروس هي الوحيدة التي لها الصدارة في الفن والجودة.

تكلمنا عن حداثة لغة هوميروس وخفة جوها العجيب وجمالها وسرعتها. وهي كذلك ذات معنًى صناعي. لم يتكلَّم بها قط في الحياة العادية، واتخذت الحرية في القواعد. إنها كلامٌ شعري قصد به موضوعات أكثر عظمة من الحياة العامة، مليء بالمترادفات والصور المتبادلة الزاخرة بألفاظ المغامرة والمأخوذة من عدة مصادر.

ولما كان هوميروس رجلًا ذا موهبة قصصية فائقة، فإنه يعرف كيف يحتفظ بالقارئ — رغم وصفه الطويل للقتال — بصورة حية وعلى وتيرة واحدة، فإنه سيعوض عن وصفه الطويل للقتال بتلك الابتسامات التي هي سلف كل الابتسامات والصور القصيرة المرسومة بتألق عظيم من عالم ذلك الشاعر نفسه، ويشبه أجاكس العظيم في لزومه داره العنيد، حمارًا استقر في حقل ورفض الخروج منه غير عابئ بما ينهال عليه من ضرب مبرح. ويشبه جريان باريس Paris إلى المعركة، حصانًا غُذي بالشعير فيجري إلى مرعى الأفراس. ويحطم أبولو Apollo سور المعسكر الآخي Achean، كما يحطم الطفل قصرًا بناه من الرمل. ويسطع الضوء فوق رأس أخيل كالنار الموقدة داخل مدينة محاصرة ليراها الجيران فيسرعوا إليها بالنجدة. هذا، وإن المنظر يتغير باستمرار.

وعلى الرغم من أن شعر هوميروس هو أقدم الأشعار، فإنه ليس بدائيًّا؛ لأن هوميروس لم يسعَ وراء تفوق بعيد الشأو من حيث الوزن والأفكار واللغة كما أن الموضوع تجارب، وإنما هو سيطرة كاملة على وزن من أصعب الأوزان، ومن أصعب قواعد علم الصرف المعقدة، ومن أضخم مجموعة ألفاظ استعملها أي شاعر إغريقي.

مقدمة الموضوعات الهومرية

هوميروس هو الممثل الأدبي الوحيد لعصر البطولة الذي خلد شعره بينما لم يخلد أي شعر لأي شاعر سابق أو معاصر. وقد انضمت مصائر أسماء أولئك الشعراء إلى مصير أشعارهم. وهناك قليل من الشك في أن أناشيد كل من موزايوس Musaeus ولينوس Linus وأورفيوس Orpheus لم تنشد إطلاقًا، وأن هذه الأسماء لا تمثل شيئًا أكثر من أن أصحابها شعراء شعبيون. من الحقائق العجيبة أن الإلياذة والأوديسة، ويبلغ مجموع طوليهما حوالي ٢٨٠٠٠ بيت شعري قد خلدتا خلال القرون المظلمة الواقعة بين هوميروس والسيادة الأثينية. وقلما تكون هذه أعجب من الحقيقة الثانية وهي أن الشعر الهوميري هو الشعر الوحيد الذي بقي سليمًا طوال تلك القرون المظلمة الواقعة بين أريسطو Aristotle وإحياء العلوم الحديث. وقلما تكون الأسماء الشهيرة، أمثال: أرخيلوخوس Archilochus وصافو Sappho وألكايوس Alcaeus وسيمونيدس Simonides أكثر من أسماء لأنها لم تعرف إلا بمحض الصدفة السعيدة أو حسن الحظ لذكرها، أو للعثور على أوراق البردي الممزقة التي اعتبرها كثير من شعراء الدراما الناجحين، في الأيام التي ازدهر فيها المسرح، مجرد أسماء ولا أكثر من ذلك، وحتى سوفوكليس Sophocles الذي كان محبوبًا في ذلك العصر، على الرغم من أنه كتب أكثر من مائة مسرحية، لم يبقَ منها سوى سبع مسرحيات، وفُقد الباقي أو بقيت منه بضع كسر. وإن هوميروس الذي كان معروفًا تمامًا لكلٍّ من أفلاطون Plato وأريسطو ومشاهير علماء الإسكندرية، هو من الناحية العملية، نفس هوميروس المعروف لنا. وليس هذا صحيحًا مع أي شاعرٍ آخر في اليونان القديمة أو الكلاسيكية.
يوصف هوميروس أحيانًا بأنه شاعر قصائد البطولة المبكرة الثانية. كما يوصف بأنه شاعر الإلياذة والأوديسة. بيد أن كتاب خير العصور لا يذكرونه بهذه الصفات. فدائمًا ما عمل أريسطو وعلماء الإسكندرية تفرقة بين شعر هوميروس والأشعار الأخرى لدورة شعر البطولة المبكر. وقد أقام شعب كولوفون Colophon تمثالًا لهوميروس ونقشوا عليه هذه العبارة: «لم يلد هؤلاء مع روحك المقدسة ابنتين، بل قصيدتين تكريمًا للأبطال. إحداهما تحكي عودة أوديسيوس والأخرى تروي قصة حرب إيليوم Ilium». وهكذا تكون الإشارة إلى هوميروس كمؤلف قصائد البطولة غير الإلياذة والأوديسة، وهي غامضة وتعتمد على تفسيراتٍ صعبة لفقرات يحوطها الشك. وبذا تختلف عن الإثباتات الواضحة للمصادر القديمة الموثوق بها. حتى قلَّما يمكن لاسم هوميروس أن يتصل بأشعار البطولة هذه إلا بعد العصور المتأخرة نسبيًّا، وقد نسبت إلى هوميروس العظيم قصيدة اسمها «المارجيتيس Margites»، وهي قصيدة هزلية أو انتقادية، نظمت في أوائل ربيع حياته، وكذلك قصيدته «معركة الضفادع والفئران Batrachomyomachia». كما تنسب إليه الأناشيد الهوميرية المكتوبة بلهجة هوميروس وأوزانه الشعرية. ويذكر ثوكيديدس Thucydides أنشودة من هذه الأناشيد الأربع والثلاثين كما لو كانت من نظم هوميروس. غير أن لغتها تبدو بوضوح أنها من عصر متأخر كثيرًا عن عصر كل من الإلياذة والأوديسة.

السؤال الهومري

ومع ذلك، ففي يوم ما، قدم سؤال يطلب ردًّا مقنعًا عما إذا كان كل من الإلياذة والأوديسة وحدة واحدة، وأن كلتيهما من تأليف العبقرية ذاتها، أو هل هي من إنتاج عدة شعراء خرجوا من عدة أجيال؟

ما زال موضوع الجدل بغير حل. وأن من يؤمنون بأنهما من نظم هوميروس وحده. ومن يؤمنون بأنهما من نظم كثير من الشعراء، على حد سواء، مضطرون إلى الاعتماد على أمور متشابهة: هل من المعقول أكثر من غيره، افتراض وجود عبقريةٍ سامية واحدة، أبدعت مثل هذين المؤلَّفين الفنيين العجيبين والمتشابهين، أم أن هناك شعراء كثيرين من أمثال هوميروس، كل واحدٍ منهم أستاذ في نفس ذلك الأسلوب العظيم، ولكلٍّ منهم نفس الأهداف الشاعرية، وكل واحد منهم مسيطر على فنه بنفس القوة الشاعرية؟

لم يشك اليونانيون إطلاقًا في أن هاتين القصيدتين من نظم رجل واحد، ويبدو من الأفضل جدًّا لنا، مع كل ذلك التراث القديم، أن نعتقد أنه كان لهيلاس Hellas القديمة شاعر واحد قادر على نظم هاتين القصيدتين بدلًا من أن يعتقد بأنه كان لها عدة رجال موهوبين بأمثال تلك القوات، ثم ننساهم.
وما يزيد الموضوع تعقيدًا، هو أننا لا نعرف سوى القليل عن هذا الشاعر نفسه، لم يكن هناك نقدٌ أدبي حتى ذلك الوقت، ورغم بقاء قصيدتَي هوميروس، فقد نسيَ الناس شخصيته والمعلومات التي ذكرها المؤرخون أمثال بلوطارخ Plutarch وثوكيديديس، من وقتٍ متأخِّر، وعديمة الفائدة. فإن أقدم تاريخ هو منتصف القرن الحادي عشر ق.م. ولم يعرف الأغارقة أنفسهم شيئًا عن الوقت الذي نظم فيه هوميروس قصيدتَيه هاتَين، ولا المكان الذي وُلد فيه هذا الشاعر بالضبط. فقد ذكرت سبعة أماكن على أنها مسقط رأسه، فيُقال إن منها: أزمير Smyrna، وخيوس Chios، ورودس Rhodes وأرجوس Argos، وكولوفون Colophon، وأثينا Athen. ولا تستند هذه المعلومات على أي شيء سوى الرغبة في الاتصال بذلك الرجل الشهير. ولسوء الحظ، لم يوجد اسمه في أية مخطوطات قديمة، ولا على أية نقوش مبكرة، وأول ذكر له على أنه هوميروس جاء فيما كتبه اكسينوفون Xenophones الكولوفوني. وكان هذا قرب نهاية القرن السادس ق.م.، بينما ظهرت الأسماء: الإلياذة والأوديسة، لأول مرة في تاريخ هيرودوت Herodotus، أي في النصف الثاني من القرن التالي (٤٨٦ق.م.). ورغم مجيء اسم هوميروس متأخرًا في الأدب الباقي، فلم يبد أي كاتب إغريقي قديم أي شك في وجود شاعر حقيقي، أو في أن ذلك الشاعر هو مؤلف الإلياذة والأوديسة. لقد آمن بوجود هوميروس جميع الأغارقة القدماء كقضية مسلمة، مثل وجود جبالهم ومجاري مياههم، حتى ليبدو أنهم لم يشعروا بأي غموضٍ فيما يختص به. ومن النادر جدًّا، أن خامرهم أي شك أو تخمين حول عصره وموطنه وعبقريته. كما أن هوميروس نفسه لم يذكر اسمه ولا المكان الذي وُلد فيه، ولا أية معلومات حول نفسه أو عن مؤلفاته، وقد أدى عدم وجود أوصاف محلية أكيدة ومحددة عن مسقط رأسه، والشهرة العظيمة التي تحظى بها أشعاره، إلى أن ادعت مدن كثيرة أنه من أبنائها. ومن بين شتى المدن التي ادعت لنفسها هذا الشرف، أزمير التي اعترف لها به كثير من البلاد؛ إذ يبدو أن أول معرفة لقصائده تمركزت في تلك المدينة، وقد أطلق على هوميروس اسم آخر هو ميليسجينيس Melesigeness. ومن الجلي أنه اسم مشتق من اسم نهر ميليس Meles الذي يجري في أزمير حيث يقال إن مولده كان على ضفتَي النهر. وممَّا يؤسف له أنه سُمي بالاسم ماكونيديس Maconides المشتق من ماكونيا Maconia وهو الاسم القديم للوديا Lydia. وهناك نزاع حول تاريخ ميلاده، ولكن تبعًا لهيرودوت، هو سنة ٨٣٠ق.م. ورغم كل هذا، يشك العلماء المحدثون في وجود هوميروس وأنكروه تمامًا. كما يقولون: إن الإلياذة والأوديسة من نظم عدة شعراء، وكذلك يقولون إن اسمه مكون من O m e r o s، أي الرجل الذي يضم بعض القصص إلى بعض آخر. ويقول آخرون إنه Omeros ومعناه «أعمى» أو «رهينة» مستندين في ذلك إلى أن الشعر الذي قاله المنشدون القصصيون ضم معًا وكون منه ما يسمى الآن بالإلياذة والأوديسة. وعلى أية حال، هذا محض اقتراح، وهناك آخرون، أكثر فضولًا، يقولون إن مؤلفات هوميروس ذات أصل بابلي Babylonian، وإن معنى كلمة Omeros هو «شخص منشد».
ولندرس الآن النقد الحديث القائل بأن هوميروس لم يكن موجودًا. وقد بدأ هذا القول العالمُ الألماني وولف Wolf، في القرن الثامن عشر في مؤلَّفه Prolegomena ويتحدث هذا الكتاب عن الهوميوريداي Homeoridae،١ فقال: إن تلك المنظومة جُمعت في عصر لم يعرف الإغريق فيه ماذا يكتبون. وقال: إنهم لم يهتموا بهوميروس كما يعتقد أفلاطون، ولكنهم قد يكونون أمناء في تفسير Omeros بأبناء الرهائن. وقد نشر وولف كتابه الشهير Prolegomena، يعرض فيه نظرياته القائلة بأن الإلياذة عبارة عن مجموعة من الكسر تدين بشكلها الخاص إلى بيزيستراتوس Peisistratus، ويعزز قوله بحقيقة أن الكتابة الأدبية لم تكن معروفة في الوقت الذي نظمت فيه الإلياذة. ولذلك لم يكن هناك جمهور قارئ، ولكن إلياذتنا لا بد أن وضعت لجمهور مولع بالقراءة، رأى وولف هذه النقطة حيوية فقام بتجاربه بدون الاستعانة بعلم النقوش ولا بعلم الآثار. وقد فقدت نظرياته كثيرًا من قوتها لدى العلماء المحدثين الذين ناقشوا هذه المسألة في ضوء عصر (قرن) الحفائر، حقيقة، ليس لدينا نقوش تدل على تاريخ قبل النصف الأول من القرن السابع ق.م.، والأمارات التي يرسلها لنا برويتوس Proetus كحكم بالإعدام على بيليروفون Bellerophon، لا تعني شيئًا أكثر تقدمًا من بعض صور قائمة مقاطع الحروف مثل القائمة الكريتية، لم يكن هناك ذكرٌ لأية كتابة في الأدب الإغريقي قبل أرخيلوخوس Archilochus، ولكن الأغارقة أخذوا حروف الهجاء عن الشرقيين، وربما أخذوها من مصادر فينيقية Phoenician. وليس هذا بعد القرن العاشر ق.م.

لا بد أن هوميروس كان يعرف الكتابة، ولكنه لم يستخدمها في عصر كانت فيه اختراعًا حديثًا لا يفوق استخدام الذاكرة.

وتبعًا لاعتراض وولف، فإن التركيب الأصلي للإلياذة يختلف عما لدينا اليوم، وهذا بسبب:
  • (١)

    بما أن الأغارقة لم يعرفوا الكتابة، فمن المستحيل تمامًا لرجل واحد أن ينظم مثل هذه الملحمة الطويلة دون أن يكتبها، إلا إذا كانت ذاكرته فوق مستوى ذاكرة البشر.

  • (٢)

    من الصعب الوصول إلى نتيجة فيما يختص بأغراض هذا الشاعر من مؤلفاته — إذا كان هو صاحبها — إذ ليس هناك ما يغريه أو يحثُّه على تأليفها، أو يكون له دافعٌ يجعله ينظم مثل هاتَين القصيدتَين الطويلتَين (حوالي ٢٨٠٠٠ سطر) إلا إذا كان هناك قراء يقرءون الكتب أو يشترونها.

  • (٣)

    لم تكن هناك إلياذة قبل عصر بيزيستراتوس، وما حدث هو أن ذلك الطاغية أمر رواة الشعر بأن ينظموا ملحمة مطولة، من الشعر الكثير المخزون في الذاكرة.

  • (٤)
    بما أن هذه الأشعار لم تكتب في عصر واحد بواسطة مؤلف واحد، فهناك آثار وتذييلات كثيرة أدخلت في الملحمة. ونتيجة لذلك نُلاحظ وجود كثير من المتناقضات والعبارات غير المترابطة. وهذا يعني أن كلًّا من الإلياذة والأوديسة، كانت تتكوَّن من قصائد قصيرة نظمَت في أجيال متعاقبة بواسطة عدة شعراء وأن هذه القصائد أو القصص، وجدت قبل عصر هوميروس، وانتقلت شفويًّا إلى الخلف. ثم جاء هوميروس، أو جامع الأشعار، كما يمكننا أن نسميه، وضمها معًا. ثم أمر بيزيستراتوس بأن يراجع النقاد هذه المنظومات القصيرة ويضمها معًا. في ملحمة طويلة. وفي سنة ١٦٠ق.م.: رتب أريستارخوس Aristarchus المنظومات في الصورتين اللتين بقيتا عليهما حتى عصرنا هذا.
  • (٥)

    هناك اعتراض آخر لوجود ١٨ نوعًا من الشعر في الإلياذة، فعندما ينشدها الرواة يطيلونها. وهكذا لا يكون الشعر سوى إطالات نمت. ويقال إن بيزيستراتوس وضع هذه المطولات في شكلها النهائي.

ويتقدم معارضو هذه النظرية بأوجه اعتراضاتهم مدافعين عن هوميروس:
  • (١)

    لا بد أن كانت الكتابة موجودة. وإذا لم تكن موجودة، فإننا نعرف أن كثيرًا من الناس كانت لهم أشعار تتناقل شفويًّا (مثال ذلك القبائل الروسية) بالذاكرة القوية رغم أن الحفاظ أو الرواة كانوا أميين. فإن الجهل يساعد الذاكرة أو يجبرها على أن تتذكر.

  • (٢)
    هناك عدة نصوص كتبها مختلف المؤلفين الأغارقة قبل بيزيستراتوس الذي كان يحفظ أشعار هوميروس. وعلى هذا، فمن المؤكد أن ذلك الطاغية وحده هو الذي أعاد ترتيب النصوص والفقرات غير المؤتلفة، فغالبًا ما توجد في كل المؤلفات، حتى مؤلفات عظام الكتاب، فنجد نفس هذه العيوب، مثلًا، في مؤلفات شكسبير Shakespeare، ودانتي Dante. والحقيقة أن جميع الأشعار الهوميرية ليست بنفس درجة الجودة، ومن السهل استخراج بعض المناظر تتضمن قليلًا من الحماس والإيحاء، ولكن لا توجد ثلاثة أجزاء من هذه القصائد يوجد بها هذا التنوع كما يوجد في منظومة «سيدان من فيرونا Two Gentlemen of Verona» أو هامليت Hamlet» أو «حلم ليلة صيف Midsummer Nights’s Dream». وأخيرًا، وكما قلنا، تسلم الأغارقة الإلياذة والأوديسة لقصيدة واحدة، وإن هناك وحدة فنية معينة لا تبدي طابع جمع الأشعار البطولية، أما فيما يختص بوطنية هوميروس، فنقول إن الاحتمال الأكبر هو أن هوميروس كان من مواطني أيونيا Ionia؛ فلغته خليط من لهجات شتى تغلب بينها الأيونية والأيولية. والأماكن السبعة المحتمل أن يكون أحدها مسقط رأسه، هي في أساسها أيولية ثم استوطنها شعب أيوني. وتحظى كلٌّ من أزمير وخيوس بالأفضلية على المدن الخمس الأخرى في أن تكون مسقط رأس ذلك الشاعر.
أما عن مراجعة بيزيستراتوس لمؤلفات هوميروس، فيقال إنه جمع الأشعار وأدخل فيها مقطوعة لصالح الأثينيين. «كل ما هو بطولي فهو هوميري.» هكذا يقول الأثينيون. غير أن أرستارخوس Aristarchus وحده هو الذي قبل القصيدتَين؛ أي الإلياذة والأوديسة على أنهما من تأليف هوميروس. لماذا كان بيزيستراتوس، دون سواه، هو المهتم بهوميروس؟ هذا سؤال الإجابة عليه في منتهى السهولة؛ فقد ألقيت في عيد البان أثينايا Panathenaia تلاواتٍ من شعر هوميروس البطولي وتُليت هذه بطريقةٍ منظمة. وهذا يدلُّ على أن الإلياذة والأوديسة وحدهما هما القصيدتان اللتان سمح بتلاوتهما في الاحتفال بذلك العيد. والسبب في ذلك هو أنهما كانتا تفوقان على ما عداهما في الجودة ورقة الصياغة والترابط، وفي روحهما الدرامية، فضلًا عن تفوقهما في الصور البلاغية وشتى المحسنات البديعية التي تجعلهما جذابتين أكثر من غيرهما، كما أنهما تتفوقان في جودة الإكمال والجمال الفني والناحية الإنسانية، أكثر من غيرهما من أشعار البطولة. كانتا من إنتاج عبقرية ممتازة خاصة. «فالإلياذة والأوديسة، ببساطة، زاخرتان بالخيال والإثارة والابتكارات الشعرية، ولا تتقيَّدان بأية أغراضٍ متطرفة، سواء كانت تلك الأغراض أخلاقية أو تاريخية أو فلسفية.» أما القصائد الأخرى فلم تعادل هاتين الملحمتين في القيمة، وبالطبع، لم يُسمح بتلاوة أشعار طيبة Thebes في أثينا بسبب العداوة بين هاتَين المدينتَين.
figure

ومن الجلي أيضًا أن اسم هوميروس كان مستقرًّا وراسخًا في العصور الكلاسيكية، وأن الإلياذة والأوديسة قد نسبتا إليه.

ويقول الأغارقة أنفسهم إنه كانت هناك أربع لهجات هي: الدورية Doric والأيولية Aiolic والأيونية Ionic والإبيكية Epic. وتختلف طريقة اللهجة التي كتبت بها قصائد البطولة عن طريقة اللهجات الأخرى. فكان هناك فرقٌ واضحٌ بطريقة ما بين تلك اللهجات. كما أن هناك اختلاطًا بينها.
هذه القصائد الهوميرية خليط عجيب من عدة صور تجعلها لغة خاصة بنفسها. إنها ليست دورية ولا أيولية أو أيونية أو أتيكية Attic، ولكنها خليط من هذه جميعًا.
نجد صورًا أتيكية في اللهجة الإبيكية ews قصيرة وطويلة. والصورة الأيونية eos طويلة وقصيرة. ومن الممكن أن هذه جاءت إلى هاتَين القصيدتَين على أرض أتيكية. ومن النادر أنها كانت قبل سنة ٥٠٠ق.م. بزمنٍ كبير. أما عن الأغراض، فيجب أن نميز بينها. فهناك أولًا الطريقة الأتيكية المقابلة للنزع. ولن تفهم عدة سطور تبدأ ﺑ ews حتى نعيد إليها الصورة الأيونية الوقع eos. أي إنها سطور أيونية جيدة، وليست الصورة الأتيكية سوى خطأ من الناسخ الأتيكي. ولكن هناك أيضًا سطور أتيكية ثابتة تفهم حيث هي، ويتعذر فهمها إذا حولت إلى الأيونية. وهذه، بالمعنى الحرفي، سطور متأخرة نظمت على أرض أتيكية بعد أن استولت أثينا على شعر الملاحم.
١  يقول أفلاطون إن الهوميوريداي هم تلاميذ هوميروس وليسوا أبناءه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤