المحاضرة الثامنة: الكتابة والخط، والحفظ والتدوين

الكتابة هي الأساس الأول للعمران، وهي محور الارتقاء ومناط التقدم في كل الحضارات التي ظهرت قبل الإسلام وبعد الإسلام؛ ذلك لأنها جرثومة المعارف وينبوع العلم في كل زمان ومكان، والكتابة هي التي حفظت علوم الأقدمين، ومهَّدت سبيل التوسع والتبسط للمتأخرين، وهي التي أوقفتنا على ما اتصل إليه الأوائل من ثمار العلوم واتساع دائرة الأفكار بالتدريج؛ فإن النقل بالمشافهة قد يعتريه الغُلوُّ والتحريف والزيادة والنقص، غير أن الكتابة التي كانت للناس كنبراس في كل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية لم تكتب لنا شيئًا عن مبدئها وأول ظهورها، أو تاريخ وضعها، أو كيفيات تدرجها.

ولمَّا لم يُكتَب تاريخ أصل فن الكتابة، واسم مستنبطه، ومكان إنشائه، والتقلبات التي طرأت عليه، سدل الدهر عليه برقع الخفاء، فغمُضَ عنا أصلُه وضاعت منا معرفة تاريخه، فأمسى أصل حافظ كل المعارف التي حملها إلينا مفقودًا، وكاشف الغوامض غامضًا محجوبًا، قد اكتنفته ظلمات الدهور، وسترته براقع الإهمال، ولم يبقَ حوله ضوء يهدي العقل إليه إلا ضوء نار الحباحب، يستضيء به أبناء هذا الزمان؛ فكشفوا بعض الحُجُب، وأظهروا بعض الغوامض.

وقبل الخوض في هذا الموضوع ينبغي لنا أن نجري على سُنَّة السلف الصالح من علماء الإسلام، فنُعرِّف الكتابة من طريق اللغة ثم من طريق الاصطلاح.

فأما من حيث اللغة: فهي مصدر كتب يكتب كَتْبًا وكتابًا وكتابة ومكتبة وكتبة، فهو كاتب، ومعناها الجمع، يقال: تكتَّب القوم إذا اجتمعوا، ومنه قيل لجماعة الخيل: كتيبة؛ ولذلك سُمي الخط كتابةً لضم بعض الحروف إلى بعض.

والخط لغةً: هو الطريق المستطيلة في الشيء، وعند المهندسين أقرب بُعدٍ بين نقطتين، وفي الاصطلاح: هو الكتب بالقلم أو بغيره؛ لأن جميع الحروف تتألف من نقط على أشكال مختلفة، ويتصل بعض النقط ببعض بخطوط فتتألف منها الحروف.

والخط في الاصطلاح: هو رسوم وأشكال حرفية، تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، والكتاب المخطوط في اللغة هو المكتوب فيه، وفي اصطلاح المتأخرين هو خلاف المطبوع بالوسائل المطبعية المعروفة في أيامنا هذه، وقد استعمله المتأخرون تفسيرًا لقول الفرنسيين Manuserit.

أما الكتابة من حيث الاصطلاح: فهي على تعريف علماء الإسلام صناعة روحانية، تظهر بآلة جثمانية، والمراد من الروحانية: الألفاظ التي يتخيلها الكاتب في أوهامه، ويصوِّر من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة قائمة في نفسه، والمراد من الجثمانية: الخط الذي يخطُّه القلم، فذلك التعريف يشمل جميع ما يسطره القلم مما يتصوره الذهن ويتخيله الوهم، فيدخل تحته مطلق الكتابة كما هو المستفاد من المعنى اللغوي.

وأما تعريفها عند الفرنج: فهي صناعة يُعبَّر بها عن الأفكار بعلامات منظورة، وهي تشمل كل ما اصطلح عليه البشر للتعبير عن أفكارهم، سواء كان بالصور كما شاع قديمًا، ولا يزال باقيًا بين كثيرين من البرابرة الآن، أو بالأرقام، أو بالحروف، أو بغيرها من العلامات المصطلح عليها بين طائفة من الناس.

ونحن إذا نظرنا في جميع أنواع الكتابة المعروفة، نجد أن العلامات المستعملة فيها تنقسم إلى قسمين ممتازين؛ أولهما: علاماته صورية، تمثل الأشياء المراد التعبير عنها، وتسمى بالكتابة الصورية أو التمثيلية، وثانيهما: علاماته رموز للألفاظ لا للأشياء، وتسمى بالكتابة الحرفية، والوجدان والواقع يشهدان بأن الكتابة كانت في أول الأمر صورية تمثيلية، ثم تدرجت من باب التسهيل والتيسير والتقريب حتى صارت حرفية.

وأقدم رموز للكتابة الصورية هو الخط البربائي أو الهيروغليفي، فقد كانت الصور في أول الأمر تشابه الأشياء التي تدل عليها مشابهة تامة، فصورة الرجل تدل على الرجل، وصورة الفرس تدل على الفرس، ونحو ذلك، ثم تنقلوا بالتدريج من الحقيقة إلى المجاز، فصارت صورة الرجل يضرب رأسه بالفأس تدل على الإنسان الشرير، باعتبار أن الانتحار أعظم الشرور وأكبر الآثام، ثم ارتقوا فاشتقوا منها حروف الهجاء المعروفة الآن، وقد لا يكون بين الكتابة وبين المدلول عليه بها أدنى مشابهة صورية، ولكن بينهما علاقة ملازمة تامة، مثال ذلك أن المصريين الأقدمين يعبرون عن مصر العليا بصورة نبات البردي لكثرته فيها على عهدهم، وعن مصر السفلى بنبات البشنين لكثرته فيها كذلك، وبضم هذا الاصطلاح إلى التسهيل والتقريب الذي توخاه الناس في الكتابة الصورية، التي من نوع الأول، توصلوا إلى استخراج حروف الهجاء المعروفة قديمًا وحديثًا.

وذلك أن الكتابة البربائية أو المقدسة اختصرها الكهنة، فجعلوا منها الكتابة الخاصة المسماة بالهيراطية؛ لأن الأولى كانت كثيرة التعقيد، وهي التي على الآثار والأحجار.

فأما الثانية فاختصرها الكهنة المصريون منها، وصاروا يكتبون بها على دروج البردي، وذلك أول تسهيل في شئون الكتابة؛ حتى إذا اتسع نطاق المعارف وأخذ الناس منها قسطًا وافرًا، اختصروا من الكتابة الثانية نوعًا جديدًا في غاية السهولة، وسموه بخط العامة Domotique، ومن هذا الخط أخذت الأمم كلها حروف الهجاء، وعن يد الفينيقيين كما سيأتي بيانه.

وهذا القسم الأول هو الذي ظهر واصطلح عليه الناس في الأيام الأولى من عصور التاريخ الخالية.

أما القسم الثاني، وهو الكتابة الحرفية، فقد تكون العلامة المصطلح عليها دالة على لفظه بتمامها، كما في الخط المكسيكي الذي كان مستعملًا في أمريكا عند افتتاحها، وكما في الخط الصيني في آسيا، وهو لا يزال مستعملًا إلى الآن؛ ولذلك لا يتيسر للإنسان أن يتعلم حروف الهجاء الصينية إلا بعد أن يبلغ الأربعين من عمره وأكثر، وحينئذٍ يكون قد بلغ من العلم درجة عالية. وقد تكون العلامة لمقطع واحد مركب من حرفين فأكثر كما في الخط الحبشي، وإما أن تكون موضوعة للمفردات التي يتألف منها المقطع الواحد، كالحروف الهجائية التي هي الثمرة البالغة اليانعة لكل ما سبقها من الممهدات في إبراز الأفكار في صورة تقرؤها الألوف وألوف الألوف من الناس على نمط واحد، كما هي الحال في الحروف العربية والحروف المستعملة عند بقية الشعوب الممدنة.

والذي ثبت أن الكتابة إنما استنبطها أجدادنا المصريون، ثم أخذها عنهم أبناء عمنا الفينيقيون، فنشروها في سائر أقطار المسكونة، وكان اليونان أول من أخذها عنهم، وساعدتهم حضارتهم على تعميمها في سائر أنحاء المعمور.

هذا ومن المعلوم أن الناس بالنسبة إلى اللغات ثلاث طوائف كبرى:
  • الطائفة الأولى: أهل اللغات «السامية»، وأشهرهم المتكلمون بالعربية، ثم العبرانية، ثم السريانية، ثم الكلدانية، ثم الحبشية، ثم السامرية من اللغات الحية، والفينيقية والبابلية من اللغات الميتة، ولكلٍّ منها حروف خُصَّت بها بحسب الظاهر، وإن كان مرجعها واحدًا في الحقيقة.
  • والطائفة الثانية: أهل اللغات «الآرية»، وهي جنوبية وشمالية، فأما الجنوبية فهي الشائعة في الهند وفارس، وكتابتها أصبحت بالحروف العربية بفضل انتشار الحضارة الإسلامية فيها (وذلك ما عدا اللغة السنسكريتية التي تعتبر من أقدم لغات العالم)، وأما الشمالية فهي المعروفة باللغات الهندية الأوروبية، وتشمل لغات أوروبا وقسم عظيم من أمريكا، وكتابتها بالحروف اليونانية واللاتينية أو «الرومانية» والسلافية أو «الصقلية»، ومرجع حروف هذه اللغات كلها اليونانية لأنها مصدرها.
  • والطائفة الثالثة: اللغات التورانية، وأهمها التركية، وكتابتها بالحروف العربية.
فمن ذلك نستنتج أن الحروف العربية انتشرت بانتشار الحضارة الإسلامية في طائفتين من أهل اللغات البشرية، بل وفي الثالثة في اللغة الإسبانية، فقد كان بعض العرب حينما دالت دولتهم بالأندلس يكتب علومه ومعارفه، ومنها الفقه والحديث والتصوف وقصص الصالحين بل وترجمة القرآن، بحروف عربية، والكلام كله إسبانيولي قديم، ولا تزال بقايا هذه الكتب محفوظة في مكاتب إسبانيا، وقد طبع القوم منها أشياء، وعندي شيء منها في خزانتي، وتسمى هذه اللغة الخميادو Aljamiado، تحريفًا للكلمة الأعجمية؛ لأن العين ليست في لغات الإفرنج، وكذلك الهمزة المتوسطة؛ فاضطروا أن ينطقوها ألجمى، ثم تداولوها فقالوا ألجمي بسكون اللام، والإسبانيون ينطقون الجيم خاءً في أحايين كثيرة فقالوا ألخمي، ثم أضافوا إليها علامة النسبة عندهم فقالوا الخميادو Aljamiado.

ونجد لذلك نظيرًا في بلاد الشام، فإن عددًا عظيمًا من السريان يكتب لغته بالحرف العربي، ويسمون هذه الكتابة «القلم الكرشوني»، وكذلك أهل مدقسكر، وأهل جزائر ملايو، وأهل موزنبيق، فإنهم يكتبون لغاتهم بالحروف العربية مع زيادة وتعديل، وإن كان لسانهم بعيدًا عن اللسان العربي، ومثل ذلك اللغة الأوردية الشائعة في بلاد الهند، وكل ذلك دليل على انتشار المدنية الإسلامية وتأثيرها في العالم، واتساع نفوذها، ورسوخ أصولها في الأصقاع المتنائية.

هذا وإذا نظرنا إلى أشكال الحروف المستعملة الآن نجدها تنحصر في سبعة أشكال، وهي: العربية، والعبرانية، والسريانية، والكلدانية، والحبشية، والسامرية، واليونانية، وهذه الأشكال السبعة من أصل واحد قد تطرَّق إليه التحريف والتعديل، وتتغير تبعًا لمقتضيات الأحوال؛ نظرًا لعدم سهولة المواصلات في الأيام القديمة، ولعدم وجود الضابط الذي يُرجَع إليه في رد التحريف إلى أصله أو ملافاته ومنعه؛ إذ لم تكن الطباعة موجودة في تلك الأعصار، والحاضر أكبر دليل على ذلك؛ فإن الحروف العربية، وهي واحدة ومراجعها واضحة وضابطها موجود، وهو الطباعة، فضلًا عن القواعد المقررة عند الخطاطين، فإننا نراها متغايرة بحسب البلاد المختلفة، فلها أشكال متغايرة تغايرًا جزئيًّا في مصر، وفي الشام، وفي العراق، وفي فارس، وفي تركية، وفي تونس، وفي الجزائر، وفي المغرب، بله تغايرها في لغة السواحل (بلاد زنجبار)، وفي لغة الملايو، وفي غيرها من اللغات غير العربية التي يعتمد أهلها على الحروف العربية.

بل إننا في القطر الواحد نكتب الحروف بأشكال مختلفة، فلبعض الأقباط في القطر المصري نمط مخصوص، ولفقهاء الكتاتيب فيه نمط مخصوص، ولكُتَّاب الدواوين نمط مخصوص، وكذلك الحال عند أهل الأقطار الأخرى ذوي اللغات الأجنبية.

ومن ذلك يسهل علينا فهم الاختلاف الذي حدث في أشكال الحروف عند الأمم القديمة، مع عدم وجود الضوابط المتوفرة لدينا الآن، ومَنْ تأمَّل في الخطوط السامية وجد التقارب بينها كثيرًا، وسَهُل عليه اشتقاق بعضها من بعض.

هذا وأول الخطوط العربية هو الحِمْيري المعروف بالقلم المسند، ولا أدري لماذا سُمي بالمسند، وقد بلغ نهاية الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة لِمَا بلغَتْه من الحضارة والترف، ثم انتقل منهم إلى الحيرة في دولة المناذرة والنعامنة نسباء التبابعة، ولكنه حُرِّف واضمحلت جودته؛ نظرًا لبُعد ما بين الدولتين في الحضارة وعزة المُلك، ومن الحيرة أخذته قريش قبل البعثة النبوية بقليل.

وأول من كتب بالعربية أهل اليمن، وكانوا يسمون خطهم بالمسند، وهو الخط الحميري، وكانوا يكتبون حروفًا منفصلة، ويمنعون العامة من تعلُّمه، حتى تعلمه ثلاثة نفر من طيِّئ فتصرفوا فيه، وسموه بخط الجزم؛ لأنه اقتطع من خط حمير، ثم علموه أهل الأنبار، وأولهم: مرامر بن مرة، وعامر بن جدرة، وأسلم بن سدرة، ومن الأنبار انتشرت الكتابة العربية، فأخذها عنهم أهل الحيرة وتداولوها، ومنهم: بشر بن عبد الملك أخو صاحب دومة الجندل، وعدي بن زيد وزيد بن عدي، وكانا من كُتَّاب الأكاسرة. ولما قدم الحيرة حرب ابن أمية القرشي، جد معاوية بن أبي سفيان، نقل هذه الكتابة من الحيرة إلى الحجاز بعد أن عاد إلى مكة، وممن تعلمها من أهل الحجاز: ورقة بن نوفل، ابن خال خديجة زوج النبي ، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان.

والكتابة العربية الحالية متصلة، وتُكتب من اليمين إلى اليسار، أما الحميرية فهي منفصلة كما تقدم، وتُكتب تارة من اليمين إلى الشمال، وتارة من الشمال إلى اليمين، وأما اليونانية واللاتينية وما تفرع عنهما فمن اليسار إلى اليمين، وكلها على السطر الأفقي، بخلاف الصينية واليابانية فسطرهما رأسي.

والكتابة العربية يسهُل فيها من السرعة ما لا يسهُل في غيرها،١ وإذ كانت الدواوين الإسلامية من أَجَلِّ أسباب نشر الكتابة العربية وجب أن نعرفها. من المعلوم أن أمير المؤمنين الخليفة العادل عمر بن الخطاب هو أول من رتب الديوان في الإسلام، ولكنه قصره على قيد أسماء البعوث للعلم بغيبة من يغيب، وحصْرِ أسماء الجند الإسلامي على ترتيب الأنساب، مبتدأً من قرابة رسول الله وما بعدها الأقرب فالأقرب، فكان الغرض منه معرفة من يغيب، ومعرفة من يستحق الحصة في الغنائم التي يغنمها المسلمون في الفتوح، ويمكننا أن نقول إن هذا الديوان الذي كان في المدينة المنورة إنما كان ديوانًا للصرف لا للإيراد، أما دواوين الإيراد — وهي التي تُسمَّى بدواوين الخراج والجبايات — فبقيت بعد الإسلام على ما كانت عليه من قبل، فديوان العراق بالفارسية، وديوان الشام بالرومية، وديوان مصر بالقبطية وكُتَّابها من أهل العهد الذميين، فلما جاء عبد الملك بن مروان وتحولت الخلافة مُلكًا عضوضًا، وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة، ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة، وظهر في العرب وفي مواليهم مَهَرةٌ في الكتابة والحسبانات؛ أمر عبد الملك بنقل هذه الدواوين من الفارسية والرومية والقبطية إلى العربية؛ لأن الأمة أمكنها إذ ذاك أن تستغني عن القائمين بها من أهل هذه البلاد.

الخط

جاء الإسلام والذين يعرفون الخط من رجال قريش نفر قليل، وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبو عبيدة بن الجراح، وطلحة بن عبد الله، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمر العامري، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأبان بن سعيد وأخوه خالد ابنا العاص بن أمية، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب، والزبير بن العوام، وورقة بن نوفل ابن خال خديجة زوج النبي ، ومن خلفاء قريش العلاء بن الحضرمي.

ومن النساء: الشفاء بنت عبد الله العدوية، كانت كاتبة في الجاهلية، وهي التي تزوجها النبي ، وكذلك أم كلثوم بنت عقبة، وعائشة بنت سعد، وكريمة بنت المقداد، ثم أمر النبي الشفاء أن تعلِّم حفصة الكتابة فعلَّمتها.

ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وجدوا في أهلها نفرًا قليلًا من اليهود ومن الأوس والخزرج يعرف الخط، فاستعملوا من الأوس والخزرج لكتابة الوحي أكثر من ثلاثين رجلًا، وكان أول من كتب الوحي أُبَي بن كعب الأنصاري، وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان.

وبعد أن استقر الإسلام في المدينة، أمر النبي أن تُعلَّم صبيانها الكتابة والقراءة، واستعمل في ذلك من أسرى بدر من لم يستطع أن يفتدي نفسه بالمال، فكان فداء الرجل الواحد منهم تعليمه عشرة من أولاد المسلمين الكتابة والقراءة.

ثم أمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يتعلم العبرانية أو السريانية، فتعلم هذه اللغة في نصف شهر — على ما قيل — فكان أول مترجم في الإسلام.

ولعظيم شأن الخط إذ ذاك عند العرب وقلة عارفيه كانوا يُسمُّون من يعرفه ويعرف الرمي والسباحة بالكامل.

وإذ كان الخط من جملة الفنون والصنائع التي تقبل الزيادة والنقص، كان لأول الإسلام غيرَ بالغٍ مبلغه من الإحكام والتنميق، ولا إلى التوسط لقلة المشتغلين به وقتئذٍ، وإذا تصفحنا المصاحف العتيقة المخطوطة بأقلام الصحابة، الباقية من ذلك العهد الأول في خزائن الكتب العمومية كالكتبخانة الخديوية المصرية وغيرها، علمنا أن خطوط الصحابة كانت غير متقنة، وفضلًا عن ذلك فإن الكثير من رسمهم قد خالف ما اقتضته صناعة الخط عند أهلها، ثم خلف من بعد هؤلاء السلف الصالح خلفٌ ظنُّوا أن الخط من الأمور التي لا تقبل زيادة ولا نقصًا، أو أنها قد بلغت الكمال ببركة الصحابة؛ فاقتفوا آثارهم فيه، واتبعوا سُنَنهم من غير أن يزيدوا فيه شيئًا، وهذا الظن غير حسن؛ فإن الصحابة — رضي الله تعالى عنهم — لم يُعنوا بالخط عناية تحسين وإتقان، وإلا لما كان زمنهم وحده كافيًا لإحكام الخط وإعلاء شأنه، ولوجب عندئذٍ على من يخلفهم أن يُعنى به عنايتهم ليبلغ منه ما أرادوا أن يبلغوه من الجودة والإحكام، أما ما زعمه بعض المغفلين من أن الصحابة كانوا محكمين لصناعة الخط، فغير صحيح وغير ميسور لهم إذ ذاك.

قال ابن خلدون:

إن أولئك المغفلين حسبوا أن أغلاط الرسم التي وقعت من الصحابة كانت مقصودة، وراحوا يُظهِرون لها أوجهًا ما أنزل الله بها من سلطان؛ لاعتقادهم أن في ذلك تنزيهًا للصحابة عن توهُّم النقص في قلة الخط، وحسبوا أن الخط كمال فنزَّهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، مع أن الخط ليس بكمالٍ في حقهم؛ إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، والكمال في الصنائع إضافي ليس بكمال مطلق؛ إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخِلال، وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه؛ لأجل دلالته على ما في النفوس، وقد كان أُميًّا، وكان ذلك كمالًا في حقه وبالنسبة إلى مقامه لشرفه وتنزُّهه عن الصنائع العملية، التي هي أسباب المعاش والعمران كلها، وليست الأمية كمالًا في حقنا نحن؛ إذ هو منقطع إلى ربه ونحن متعاونون على الحياة الدنيا شأن الصنائع كلها حتى العلوم الاصطلاحية، فإن الكمال في حقه هو تنزُّهُه عنها جملةً بخلافنا. ا.ﻫ.

ولقد بقي الخط على حاله القديمة في زمن النبي والخلفاء الراشدين بعده لاشتغال المسلمين بالحروب الخارجية والفتن الداخلية، حتى زمن الأمويين الذي خفقت فيه راية الإسلام على المشرق والمغرب، فابتدأ الخط يسمو ويرتقي، وأول من كتب في أيام بني أُمية قطبة، وقد استخرج الأقلام الأربعة واشتق بعضها من بعض، وكان أكتب الناس. وممن كان يوصف بحُسن الخط في أيام بني أمية خالد بن أبي الهياج، وكان قد نُصِّب لكَتْب المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك الأمير الأموي، وكان الخط العربي حينئذٍ هو المعروف الآن بالكوفي، ومنه استنبطت الأقلام.

ولما استفحل ملك الإسلام، وأوغل العرب في المدنية، وازدان عصر العباسيين بأنوار العلم والعرفان، أخذت صناعة الخط تنمي وتنتشر وتتقدم كسائر الفنون التي ضرب فيها المسلمون بسهام نافذة لاحتياجهم إليها، وقد اشتدت حاجتهم إلى الخط بعد أن اختطُّوا البصرة والكوفة، وأنشئوا دور العلم، وشرعوا في نقل العلوم من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية؛ فاشتغل به جماعة من العلماء والكُتَّاب في مدينتي العلم عند العرب، وهما: البصرة والكوفة؛ فعلا شأنه فيهما قليلًا، وسُمِّي عندئذٍ بالخط الكوفي لتفوقها فيه، وإن كان ذاك التفوق دون الغاية المطلوبة، ثم اشتد ساعد العرب وقويت شوكتهم وفتحوا إفريقية والأندلس، واختطَّ بنو العباس بغداد وزيَّنوها بدعائم العمران حتى صارت مركز الإمارة العربية؛ فتحسنت فيها الخطوط وارتقت إلى الغاية، ثم سُمي خطها بالخط البغدادي، ثم تبعه في الظهور الخط الأفريقي المعروف رسمه القديم في ذلك العهد، ويقترب من أوضاع الخط المشرقي.

ومن المبرزين في الخط في الدولة العباسية الضحَّاك بن عجلان الكاتب، وكان في أوائل هذه الدولة، ظهر إثر قطبة الذي كان في الدولة الأموية واستخرج الأقلام الأربعة، وزاد الضحاك على قطبة، ثم كان إسحاق بن حماد في ملك المنصور والمهدي، وله عدة تلاميذ كتبوا الخطوط الأصلية الموزونة، وهي اثنا عشر قلمًا: قلم الجليل، قلم السجلات، قلم الديباج، قلم اسطورمار الكبير، قلم الثلاثين، قلم الزنبور، قلم المفتح، قلم الحرم، قلم المؤامرات، قلم العهود، قلم القصص، قلم الحرفاج.

وممن أحسن الخط وبرع في الدولة العباسية وأهمل ذكرَهُ المؤرخون وذكره أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في كتابه المسمَّى كتاب بغداد في الجزء السادس منه، الذي نشره وطبعه بخطه في بلاد سويسرا هذه الأيام المستشرق العلامة هنس كلر؛ هو العلامة الجليل أحمد بن يوسف، قال أحمد بن طاهر: «دخل أحمد بن يوسف يومًا على المأمون، فأمره فكتب بين يديه والمأمون يملُّ عليه.» قال: «وكان أحمد بن يوسف مع لسانه حلو الخط جدًّا، فنظر المأمون إلى خطه فقال: يا أحمد، لوددت أني أخُطُّ مثل خطِّك وعليَّ صدقة ألف ألف درهم.» قال: «فقال له أحمد بن يوسف: لا يسؤك الله يا أمير المؤمنين؛ فإن الله — عز وجل — لو ارتضى الخط لأحدٍ من خلقه لعلَّمَه نبيَّه .» قال: «فقال المأمون: سرَّيْتها عني يا أحمد. وأمر له بخمسمائة ألف درهم.»

ولما ظهر الهاشميون حدث خطٌّ يسمَّى العراقي، وهو المحقق، ولم يزل يزيد حتى انتهى الأمر إلى المأمون، فأخذ كُتَّابه في تجويد خطوطهم، ثم أحدث ذو الرياستين الفضل بن سهل الوزير الكاتب خطًّا نُسب إليه، فسُمِّي القلم الرياسي، ثم ظهر أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم التميمي، معلم المقتدر وأولاده وكان أكتب أهل زمانه، فألَّف رسالة في الخط سماها «تحفة الرامق»، ثم ظهر أبو على محمد بن على بن مقلة، الوزير الكاتب المتوفى سنة ٣٢٨، وهو أول من كتب الخط البديع، نقل طريقته من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة، وله بذلك فضل المتقدم، وخطه غاية في الحُسن، ثم ظهر صاحب الخط البديع علي بن هلال، المعروف بابن البواب، المتوفى سنة ٤١٣ﻫ، ولم يوجد في المتقدمين من كتب مثله ولا قاربه، وإن كان ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة عن الكوفيين، فإن ابن البواب هذَّب طريقته ونقَّحها وكساها حلاوة وبهجة، ثم ظهر أبو المجد ياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي المتوفى ٦٩٨، وهو أجلُّ الخطاطين غير مُدافَع، وأحسنهم خطًّا غير مُعارَض، وبعدئذٍ اشتهرت الأقلام الستة بين المتأخرين وهي: الثلث، والنسخ، والتعليق، والريحاني، والمحقق، والرقاع، برز في هذه الأقلام جلة من العلماء، ثم ظهر القلم الديواني والدشتي، وبقي الأمر تابعًا لرونق الدولة وانخفاض شأنها، حتى آلت الخلافة للأتراك؛ فأحدثوا الخط الرقعة والخط الهمايوني، وإليهم انتهت الرياسة في الخط على أنواعه إلى عهدنا هذا.

١  هنا أفاض الأستاذ في وجوب البحث والتنقيب وراء الطريقة المختزلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤